اتمنى أن تكون سعيدا، أميناً ، على الثقافة في بلادنا.
بدايةً، اعترف لكم عدم معرفتي بطبيعة وأسس نظام عملكم القائم وكيفيته في اختيار الكتب لطبعها ونشرها ،لكنني مطمئن الى انكم تحاولون نشر افضل الكتب ومساعدة مؤلفيها في توصيل افكار نيّرة إلى قراءٍ كانوا منذ اربعة او خمسة عقود يتلقون من نفس الدار هديراً إعلامياً شديداً ، مكرساً ، بصوت مرتفع، لتمجيد الدكتاتور المتسلط بأيديولوجية عادمة ، لتحصين كماشته الاعلامية الخشنة على صفحات من مطبوعات الدرجة الثانية والثامنة وربما العاشرة في أغلب ما تطبعه وتنشره دار الشئون الثقافية سابقاً.
لأن الزمان لا يسمح لأصوات الجلادين أن تعمّر إلا حين يقصر او يطول نضال الشعب من أجل حقه في التنوير ، فقد هبط النور على دار الشئون الثقافية نفسها ،بعد سقوط حكم الظلم والظلام في 9 نيسان 2003 . صار مفترضا أن يطل عمل داركم على الحياة والحرية والديمقراطية، بعد أن تحوّل عمل الدار في المرحلة الحالية ناهضاً بعد زمان من اضطراب العمل ، متخلصاً من (التحرك السطحي) ، متوجهاً إلى (التحرك العميق) ، مرتباً نبضه المتسارع على الأبحاث المرصودة في الفكر والادب والعلوم والفنون وغيرها ، ليكون منتوجه الثقافي مبرمجاً على كبرياء الثقافة، العراقية والعربية والعالمية، مليئا بالتدفق الرصين.
اسمحوا لي ، رجاءً أن أترك أمامكم رسالة عن ضرورة رعاية المفكرين والمبدعين العراقيين، الذين انكرتهم الانظمة السابقة ،المتوالية على حكم العراق، أو التي اضطهدت مواهبهم بالقمع والسجون أو بالضغط عليهم لإرغامهم على الهجرة الى خارج الوطن، وحرمان الجامعات العراقية من اعتماد علومهم وكفاءاتهم لتطوير شعلتها الروحية ومنع تبادلها الفكري مع تجارب الجامعات العالمية. كان بعض المسئولين الجامعيين يقومون بدور الشرطي الجامعي أو القاضي الاعتباطي ليحرموا جامعات العراق وكلياتها من احلام الاكاديميين الواعين، في خدمة بلدهم .
اعطي نفسي الحق في أن اضع أمامكم في هذه المقالة اسماءً عراقيةً ولدت في الوطن وحازت ، لاحقاً، فضائل العلم في جامعات عالمية راقية ،لكنهم غادروا الحياة من دون ان يتركوا للأجيال اللاحقة كتباً قاموا بتأليفها لكنهم لم يستطيعوا طباعتها ونشرها، لسبب أو لآخر. بعض تلك الاسباب يتعلق بطاعون السلطة الثقافية القائمة أنذاك.
بإمكاني أن أضع أمامكم الكثير من اسماء العلماء العراقيين الراحلين من دون ان يضمد أحد جراحات انشطتهم العلمية . سأقتصر ، هنا ، على تقديم ثلاثة اسماء من علماء العراق هم (1) عبد الرزاق مسلم (دكتوراه فلسفة) تم اغتياله في احد شوارع مدينة البصرة و(2) هشام باقر البعاج (دكتوراه في الاقتصاد) سقط ميتاً ، وحيداً، في شارعٍ غربته بمدينة عمان الاردنية من دون ان يترك كتاباً مطبوعاً . (3) الدكتورة جليلة ناجي الهاشمي (دكتوراه في التاريخ) المتوفاة في غربتها الألمانية في العقد الماضي.
مثالي ،هنا ، أركّز عليه ، نموذجاً ، عن المناضلة العراقية الدكتورة جليلة ناجي، التي اضطرتها سلطات النظام البعثي إلى مغادرة بغداد عام 1978 لتطوف في مدن عربية وأوربية كثيرة، بحثا عن آمال ورغبات الاستقرار والأمان وهي تحمل في حقيبتها ابحاثا علمية كثيرة، وكتباً تاريخية كثيرة، لم تر النور ،حتى الان. مثالها يمكن ذكره في مؤلــَفيّن علميين غزيرين من إنتاجها: الاول مترجم ،والثاني من تأليفها الذي تعتز وتفتخر به.
كتابها الاول مترجم عن الروسية بــ 600 صفحة عنوانه ( نظام العبودية في العصر البابلي) وهو في حالة طبعه ونشره سيكون زائراً ، تاريخياً، جديداً، قادماً الى المكتبة العراقية إذ سيكون له تأثير كبير على كلِ حسابٍ في تاريخِ الحضارة البابلية .
كما سيكون كتابها الثاني الذي عنوانه ( العبودية في القرنين الثاني والثالث للهجرة) حاملاً لنظرية علمية باهرة في التاريخ الإسلامي. بكل الحالات فأنّ أية مبادرة تقومون بها ، أيها السيد المدير، ستكون ناجحة في إغناء جهودكم بتمارين جديدة في البحث عما هو مخبوء من العلم والثقافة خارج نطاق النشر . كما ستكون خطوة ،من هذا القبيل، مع علماء ومبدعين راحلين آخرين، مناسبة شجاعة ، تضع العلوم الضائعة على رفوف الجامعات ،لكي يحرز العلم العراقي نصراً علمياً بأيدي العاملين المخلصين في دار الشئون الثقافية.
بإمكانكم، ايها السيد المدير، أن تسجلوا صفحةَ مجدٍ ثقافيٍ إذا قمتم بجردِ آثار العلماء والأدباء والفنانين العراقيين كي تظل اسماؤهم حياةً مفتوحةً ،حرةً ،كضمانة من ضمانات تقدم الثقافة العراقية وشيوع تفردها ، كفاعلٍ مؤثرٍ، ثمينٍ وفريدٍ، الى جانب مخزون الثقافة العربية والعالمية.
تقبلوا أصدق تحياتي وتقديري.