17 نوفمبر، 2024 9:42 م
Search
Close this search box.

إلى أي ليبرالية ينتسبون؟!

إلى أي ليبرالية ينتسبون؟!

يتشدق الكثير من دعاة الليبرالية في وطننا العربي؛ بالعديد من القيم والمبادئ التي ترتكز عليها الليبرالية، كالحرية والقبول بالتعددية والحقوق المدنية، وغيرها من المفردات التي لا يمل هؤلاء من الحديث عنها، حيث كثيراً ما يُظهروا أنفسهم وكأنهم الوحيدون الذين يحترمون حقوق الإنسان وإنسانيته، ولا يتركوا فرصة تمر أمامهم إلا ونجدهم يُهاجمون الآخرين من المناوئين لها أو لهم، وذلك بوصفهم بأنهم أعداء للحرية وما يتفرع منها من قيم إنسانية. ولا نستغرب من ذلك، إذا عرفنا بأنهم يبالغون في تمجيد الليبرالية لدرجة يختزلونها في مفردة “الحرية”، فلو سألهم أحد ما هي الليبرالية؟ فإنهم يكتفون بإجابته بأنها تعني (الحرية)، ويُصورونها وكأنها التيار الفكري الوحيد الذي يدعو لذلك.
          ونحن هنا لا نريد أن نسلب هؤلاء ادعاءاتهم أو نعترض عليها، فلهم كل الحق في أن يدعو ما يشاءوا، ولا لوم عليهم في مدح المنهج الذي يتخذونه لأنفسهم، فكل فتاة بأبيها مغرمة كما في المثل المشهور، ولكن نريد أن نحاكم سلوكيات هؤلاء وفق الادعاءات التي يدعونها، فهل هم فعلاً ليبراليون ملتزمون بـ ليبراليتهم؟ أم أنهم مثل الكثير من الجماعات المتطرفة التي تنسب نفسها للإسلام رغم أنها تتخذ الإسلام مجرد أداة ووسيلة لتنفيذ مآربها؟! أقول ذلك لأننا نجد الكثير من دعاة الليبرالية يمجدونها وربما يتفاخرون بإضافتها كصفة ملازمة ومعرفة لهم، ومن جهة أخرى نجدهم في سلوكياتهم أول من يناقضها وينتفض على كل الأسس والركائز التي تقوم عليها.
          وإن من يطالع بعض الصحف العربية في الأيام القليلة الماضية يفهم المراد من كلامي، حيث يلحظ شراسة الهجمة التي تستهدف أبناء الطائفة الشيعية من قبل بعض الكتاب الذين يصفون أنفسهم بأنهم ليبراليون، حيث نجد اتهامهم، والتحريض عليهم، والطعن في عقائدهم، لا لشيء اقترفوه سوى لكونهم ينتسبون لهذه الطائفة. وكل ذلك يقع نتيجةً لتداعيات بعض الأحداث والتوترات التي تعصف بالمنطقة مؤخراً، حيث اعتاد هؤلاء على أن يحولوا التوترات والصراعات في كل مرة من صراعات سياسية إلى صراعات طائفية !
ومما يؤسف له أن يلعب مثل هذا الدور ويقوم به بعض الشخصيات المحسوبة على التيار الليبرالي، فلم يعد في الآونة الأخيرة أية فروق يمكن أن نلحظها بين هؤلاء الليبراليين وبين بعض المتطرفين من السلفيين إلا في الشكل والمظهر الخارجي فقط، حيث يظهر السلفيون المتطرفون عادةً بطول اللحى وتقصير الثياب، في حين يظهر هؤلاء متأنقين أكثر، وإلا فلغة الخطاب ورائحة الكراهية والطائفية تفوح من هؤلاء وأولئك.
          وقد لا نستغرب من هذه اللغة التهجمية والتحريضية عندما يُطلقها بعض الأشخاص المتطرفون من (السلفيون المتشددون)، فلقد اعتدنا على مثل هذا الخطاب منهم، بل ولا نتوقع منهم غير ذلك، ولكن الأمر الخطير والمستغرب هو أن يتكلم بهذه اللغة بعض الكتاب المحسوبين على التيار الليبرالي الذي يدعو دوماً للحرية والعدالة والمساواة، فهنا تكمن المفارقة العجيبة التي تجعلنا في أمس الحاجة لوقفة تأملية جادة !!
          ويحق لنا أن نسأل هؤلاء وضميرهم الليبرالي هذا السؤال: هل في مبادئ الليبرالية ما يتيح لكم التمييز بين دين ودين أو مذهب ومذهب؟! أسأل هذا السؤال وأنا أعرف الإجابة عنه سلفاً، ولكنني أسأله كسؤال استنكاري لا كسؤال استفهامي، فكلنا يعلم بأن الحرية والعدالة والمساواة والتعددية وحقوق الإنسان وغيرها من القيم التي تنادي بها الليبرالية؛ هي قيم ومبادئ عامة (لكل الناس)، وليست خاصة بفئة أو بجماعة معينة، فإذا كان الأمر  كذلك، فما الذي حدا ببعض دعاة الليبرالية لممارسة هذا التمييز الواضح؟!
إنني أعتقد بأن بعض هؤلاء قد يكونون ينطلقون من خلفياتهم الـ (ما قبل الليبرالية) إن صح التعبير، فالكثير منهم هو من أصول سلفية متشددة، لا تنسجم في روحها ومبادئها مع انفتاح الليبرالية ومبادئها، فلقد ولدوا في ظل هذه البيئة ونشئوا وترعرعوا في كنفها، فمن الطبيعي أن يتأثروا بها بحسب تنشئتهم الاجتماعية –كما في علم الاجتماع- وإن كانوا لا يشعرون بذلك، فنراهم نتيجة لهذا يعيشون في بعض المفارقات العجيبة، فمن جهة ينادون بالقيم الليبرالية، ومن جهة أخرى نجدهم ينفسون عن عقدهم المذهبية (التاريخية) تجاه الآخرين.
          ولذا نجد الفروق الواضحة بين الليبراليين الذي هم من أصول سلفية متشددة، وبين أولئك الليبراليون الذين هم من أصول أخرى غير متشددة، إذ كثيراً ما تظهر الفروقات بينهم في التعاطي مع بعض الأحداث في الظروف الحساسة نتيجة لاختلاف المكونات الفكرية والثقافية الكامنة في أعماق نفوسهم. 
نقطة أخيرة..
          قد يقول قائل: بأن السبب في الخطاب الطائفي لبعض الليبراليون ضد الطائفة الشيعة هو ما تقوم به بعض الدول أو الجماعات الشيعية أو المحسوبة على التشيع من سياسات يراها هؤلاء سياسات تمييزية وطائفية تجاه المذاهب الإسلامية الأخرى.
وهذا الكلام حتى ولو سلمنا بصحته فإنه بالتأكيد غير مبرر لذلك، فكما أن الطائفية التي يقوم بها بعض المنتسبين لأهل السنة ضد أبناء الطائفة الشيعية لا تبرر قيام المنتمين للتشيع بممارسة التمييز والطائفية ضد أبناء السنة، فكذلك الأمر في مثل هذه لحالة، خصوصاً ونحن نتكلم عن ما ينسجم مع قيم الليبرالية ومبادئها، لا مع ما ينسجم مع الخلفيات المذهبية والطائفية، ومثل هذا الكلام أصلاً يؤكد ما قلناه من أن الكثير من هؤلاء ينطلقون من خلفيات مذهبية متغلغلةً في أعماقهم، وإن حاولوا أن يُظهروا لنا بأنهم محايدون وينطلقون من القيم والمبادئ التي تدعو لها الليبرالية.
ويبقى السؤال: إذا كان هؤلاء يدعون بأنهم ليبراليون رغم كل ما ذكرناه من الهوة الساحقة بين الليبرالية وسلوكياتهم، فإلى أي ليبرالية ينتسبون؟! فهل يمكن يا ترى الجمع بين الانفتاح الليبرالي والتشدد السلفي حتى نقول بأنهم ينتسبون لـ (الليبرالية السلفية)؟! أطرح السؤال وأترك الإجابة لكم.

أحدث المقالات