يقول الفيلسوف الألماني نيتشه: أضرب بالمطرقة وأنصت حتى تتأكد بأن الرنين أصبح أجوف.
من جديد طالت مؤخراً القوى الظلامية وبتحريض من قوى ميليشياوية إعتادت على تنفيذ جرائم إغتيال سياسي في العراق، أرض السواد، كما سميّت في غابر العصور، لامتداد النخيل والأشجار وخضرة الزرع على طول البلاد. اليوم كثر فيها لبس السواد، حزناً على مَن سقطوا على يد عصابات منظمة مدفوعة الأجر من بعض القوى السياسية، ليستمروا بـ “نهب كل شيء، وخراب كل شيء”. أقول: طالت الشخصية الوطنية والأكاديمية المرموقة، الباحث في شؤون الجماعات المسلحة والخبير الأمني هشام الهاشمي.. وصف مسؤولون حكوميون جريمة القتل للدكتور الهاشمي، الذي كان يكتب ويتحدث بإستمرار وبشجاعة في وسائل الإعلام عن الشؤون السياسية وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ودور الفصائل العراقية المسلحة المدعومة من إيران، بأنها كانت جريمة قتل عمد، وإن أصابع الإتهام توجه إلى جماعة بعينها.. وبالتالي فأن هذه الجريمة البشعة لإعلامي وطني جريء، هي إمتداد لكل جرائم القتل المنظمة بحق المئات من العلماء والأكاديميين والعسكريين والمثقفين والإعلاميين العراقيين منذ إحتلال العراق وصعود هذه الزمرة غير المؤهلة إلى دفة الحكم.
السؤال: هل ستقوم الحكومة كما وعد رئيس الوزراء الكاظمي بملاحقة القتلة حقاً، والكشف عن مَن يقف وراءهم، لينالوا العقاب العادل؟ هل باستطاعة العراق فعل ما يكفي لمنع الإغتيالات السياسية؟ أم ترسو على غير هدى كما أفضت جميع الوعود السابقة بحق الأبرياء الذين سقطوا في سوح التظاهر وغيرها؟
شهد العراق لأكثر من عقد ونصف ولا يزال، جرائم قتل سياسي بحق الأبرياء، فقط لأنهم بدافع المسؤولية الأخلاقية والسياسية ازاء وطنهم وشعبهم، أبوا التواطؤ والصمت. فيما وقف العديد من أصحاب الكلمة والإعلاميين العراقيين يتفرجون غير معنيين بما يحل بالبلد من مصائب وخراب. والأغلبية الصامتة، هي أيضاً، لا تخرج عن صمتها إلا عندما تتضرر مصالحها الشخصية فقط، مثلاً: عندما أشيع مؤخراً خبر وقف رواتب الموظفين، خرج هؤلاء يتباكون؟ وهو رد فعل قد يكون منطقيا، إلا أنه مسلك غير طبيعي، كونه لا يتناغم مع “قضية” لها انفعالات عامة تتجذر في عمق المصالح الوطنية والعامة للمجتمع. وبسببها لم يعد الصمت ممكناً وﻻ مبرراً! ومفهوم “قضية” في هذه الحال ليس أمراً “مجازياً” مثيراً للجدل، إنما هدف أساسي، لمسألة واضحة من الناحية السياسية والعلمية. إطارها العام يتجسد في كيفية ترسيخ مبدأ العدالة الاجتماعية وضمان حقوق المواطنين ومصالح الدولة العامة للأجيال الراهنة والقادمة، بعيداً عن ممارسة الدولة للعنف وجرائم القتل وملاحقة المواطنين واعتقالهم في أقبية الأمن والميليشيات المسلحة التابعة لأصحاب السلطة وأحزابها.
وجاءت انتفاضة تشرين 2019 وما تلاها من تظاهرات في العديد من المدن العراقية للمطالبة على مستوى شعبي شامل بالحرّية والعدالة الاجتماعية، منسجمة وطنياً مع مفهوم “القضية” عندما رفعت شعارين هادفين “نريد وطن”، و”نازل آخذ حقي”. تكللت بالإطاحة برئيس الوزراء عادل عبد المهدي وحكومته عديمة الضمير والأخلاق، لفشلها في توفير أبسط الخدمات للمواطنين، إضافةً إلى عجزها عن تحقيق العدالة والأمن والاستقرار السياسي وإعادة إعمار البلاد.. لم ير العراق في تاريخه الحديث حكومةً متورطة في أعمال القتل والتمييز والنهب والخضوع لإرادات خارجية، إقليمية ودولية، مثل تورط حكومة عبد المهدي. وبات العراق في ظلّها مهدداً بالتجزئة والتشرذم والاحتراب. فألهبت الثورة مشاعر العراقيين في كل مكان. وخرج المواطنون إلى الشوارع احتجاجاً على سياسة الحكومة المغرقة في الطائفية والفساد. وسقط خلال المواجهات الدامية مع مليشيات الأحزاب والأجهزة القمعية للسلطات العراقية المختلفة، الآلاف من الأبرياء بين قتيل وجريح. من أجل حريّة العراقيين وكرامتهم واستقلالهم، وأصبحت دماؤهم ديناً في أعناق الأحياء، ولن تذهب هدراً!
وفيما تنحدر الامور نحو الأسوأ، وترتفع أصوات الشرفاء في الداخل والخارج للتضامن مع المتظاهرين، يظهر علينا وبشكل غير مسبوق بعض “العراقيين” من الوسط الإعلامي والسياسي والثقافي للدفاع عبر وسائل إعلامية ومجتمعية مختلفة، عن مواقف الأحزاب المهيمنة على الدولة وسلطاتها الرئيسية الثلاث. بهدف مصادرة حق الأغلبية من العراقيين في الحُكم على المستوى المنحدر للسلوك السياسي الذي إنتهجته الحكومات المتعاقبة، التي تسيطر عليها أحزاب “الإسلام السياسي”، الشيعية والسنية وإخوان المسلمين. التي لها “إشكالية” إنما مشتركة، تتعلق بالصراع على مفهوم “هوية الدولة ـ والدولة الوطنية والمجتمع” التي لا تضع لها هذه الأحزاب أية إعتبارات قيمية، بالقدر “الآيديولوجي” المتفق عليه: من أن الصراع بين الإسلام السياسي والدولة الوطنية لا يقتصر على منازعة الدولة لشرعيتها السياسية، بل يتجاوز التشكيك بهويتها. بمعنى أنها لا تؤمن بمفهوم “الوطن” جيوديموغراقياً، إنما بعقيدة “الدولة الإسلامية” التي لا تفصلها حدود وتخضع للخلافة الرشيدة أو ولاية الفقيه.
لا أظن أن هذه المواقف، محض وجهات نظر، لا صلة لها بأي توجيه من داخل بعض المنظومات العقائدية. ولا أظنها بدافع التعاطف والرمزية، بعيداً عن حدود الفوائد المادية والمعنوية. ليس الاعتراض على الإختلاف في وجهات النظر، إنما الاعتراض على جزئية السكوت على الظلم والطغيان وإستبداد القوى الظلامية وتجاوزها على المبادئ العامة لحقوق المجتمع والدولة ومؤسساتها بشكل عام. والغريب إن أغلب الذين يتصدرون الدفاع عن أحزاب السلطة وشخوصها. من أولئك “المتأدلجين” الذين انخرطوا مع الحشر، وكان بعضهم عراباً للاحتلال، وما زال “يلغف” من كل ثريد خارج المألوف الذي يتميّز به عادة الإعلامي والسياسي الحقيقي تجاه المشروع الوطني وأهمية صناعة إنسان المستقبل وتطور المجتمع وبناء الدولة المدنية الحديثة والدفاع عنها. بل جعل مهنته سبيلاً، وموقعه مسلكاً في غير محلهما للوصول إلى هدف أناني بشكل مدروس، لكنه انتهازي بالتأكيد. إلى غير ذلك، فإن المنهج السائد لدى بعض العاملين في مجال الفكر والإعلام، فيما يتعلق الأمر بالموقف من “مشروع الدولة، ولا دولة” يشكل في أغلب الأحيان، موقفاً منحازاً ومخالفاً للأعراف المهنية التي تتطلب الموضوعية والأمانة الحرفية البينية التي ينبغي أن تتوافق مع مفهوم الوطنية ولا يشكل نمطاً يعج بالمتناقضات في مختلف الاتجاهات.
في إعتقادي، أن رسالة الإعلامي بالقدر الذي “يفكر” كمنتج للمعلومة، هي الارتقاء بمستوى المسؤولية وصون شرف “المهنة”. لكن عندما ينكفئ عن المنهج الجمعي العام ويتجه نحو غدر الحقيقة، كما يتجلى ذلك في أسلوب الكثيرين من الإعلاميين والمثقفين في زمن التسلط الطائفي الذي أوقع المجتمع في صراعات طائفية ـ عرقية وسياسية، كلفت العديد من الضحايا كان آخرهم الباحث هاشم الهاشمي. عندئذ تسقط كل القيم والإعتبارات على المستوى السياسي والمجتمعي وحتى الأخلاقي.
الإدعاء بلوغ المعرفة في مجال “الثقافة والإعلام”، وبلوغ، لا تعني بالضرورة درجة “الكمال” دون دليل قطعي، يفصل بين بلاغة الحقيقة والإدعاء، لإنارة الطريق أمام المجتمع.. (الاقتراب من المعرفة بدافع الإهتمام للوصول إلى الحقيقة لخدمة المجتمع كما يقول الفيلسوف “فيلهلم دِلتي” مسألة ضرورية، لكن “الإبداع” كلٍ في مجاله للسمو بمستوى المسؤولية، أمر يحتاج إلى مهارة أخلاقية واختبارية واسعة الشأن، تصنع، فيلسوفاً أو أستاذاً متميزاً أو عالما شهيراً). لكن إن كان “الرأي” جدفاً في غير موضعه بدافع وصولي إنتهازي، فإن ذلك قطعاً ليس اَلْجدِيل الذي يستحق الاحترام. فليس المهم، أين وكيف تقول ـ المهم، ماذا، ولمن، ومتى تقول؟ لتكون بقدر المسؤولية والاحترام.. اليوم نحن أمام ديماغوجية قديمة جديدة تعمل على إزاحة المسؤولية عن من ارتكبوا جرائم سياسية لا تغتفر وأوصلوا بلدنا ومجتمعاتنا في أزمنة متعددة إلى مستوى من التدهور والحرمان. من ديكتاتورية مستبدة إلى طراز جديد ـ طائفية مقيتة وشوفينية إنتهازية.. ولا شك أن هذا النوع من “الخطاب” لا يتناسب مع الواقع ولن يفضي بأي حال من الأحوال إلى شرعنة توظيفه دراماتيكيا لاضفاء نوع من المصداقية على نهج وسلوك السياسيين وتبرير مآثمهم وما ارتكبوه من خطايا بحق الشعب والوطن.