في حوار شيق ومقتضب تناقلته مؤخرا”وسائل التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) ، تضمن مقابلة مع المقاتل في قوات الحشد الشعبي المشهور (أبو عزرائيل) ، تحدث من خلالها عن تجربته الفريدة الملئية بالمغامرات والمواقف الجسورة ، وهو – والحق يقال – يستحق عليها الإعجاب والثناء ، ليس فقط لأنه يقارع الموت في كل لحظة ويتحدى المخاطر عند كل منعطف ، كما يفعل بقية أقرانه من المقاتلين سواء المنخرطين في صفوف الجيش أو المنضوين في سلك الشرطة فحسب ، وإنما لكونه يمتلك (روح معنوية) عالية قلما نافسه فيها أحد من أترابه ورفاقه ، هذا بالإضافة إلى طريقة ارتدائه للزيّ العسكري المعزز بالأشكال الايقونية ، والتي تذكرنا بالشخصيات المشهورة لفرسان القرون الوسطى . وهو الأمر الذي أكسبه تلك الهالة (الكاريزمية) الواسعة الانتشار ، وحقق له – فضلا”عن ذلك – قاعدة شعبية لم تفتأ تتعاظم يوم بعد يوم ، بحيث أنه بات يجسّد في السيكولوجيا الجماهيرية معاني البطولة التي يتوق إليها الجميع ، ولكن دون أن يمتلكوا القدرة أو يتحلوا بالجرأة لبلورة قيمها العليا وتجسيد معانيها السامية ، لاسيما وانه ممن يجيد تسويق شخصيته وتسويغ مواقفه التي باتت تلقي هوى في نفوس الكثير من داخل العراق ومن خارجه . والواقع إن ما لفت انتباهي عبر ذلك اللقاء / الحوار القصير ، هو ما صرّح به هذا المقاتل الشهم بخصوص تنامي عدد المعجبين بشخصيته في التعامل مع الأحداث والمشايعين لطريقته في سرد الوقائع ، والذي تخطى – بحسب اعترافه – رقم المليونان وسبعمائة ألف متابع لحد تاريخ المقابلة ، هذا في الوقت الذي تفتقر فيه أشهر رموزنا الفكرية والثقافية – دع عنك السياسية الملوثة بجراثيم الفساد – لإعجاب عشر هذا الرقم إن لم يكن أقل من ذلك بكثير ! . وإزاء هذه الظاهرة الملفتة للنظر يطرح سؤال نفسه : ما طبيعة السر يا ترى الذي يكمن خلف بروز هذه الظاهرة ، وما هي الأسباب التي جعلت من هذه الشخصية تستقطب كل هذا الاهتمام الواسع المقرون بالتقريظ والإعجاب ؟! . هنا نسارع للقول بأننا لا نريد أن نبخس قيمة الدوافع التي حملت هذا المقاتل (أبو عزرائيل) على إتيان تلك الأفعال الشجاعة والممارسات الجريئة ، كما لا يدخل في حسابنا أن نستكثر عليه كل تلك الأعداد المتعاظمة من المعجبين والمعجبات ، فهو على أية حال يستحق ذلك كما نوهنا . إنما يدفعنا الفضول المعرفي لكشف أصول الظاهرة المعنية وإماطة اللثام عن دوافعها اللاشعورية ، بحيث أسبغت على هذا الإنسان ميزة التفرد والأفضلية ، دون سائر أقرانه من المقاتلين الذين قد لا يقلّون عنه شجاعة وإقدام في مضمار مواجهة المخاطر وتحدي الصعاب . لا ريب انه في خضم تداعي الأحداث العاصفة وتصاعد وتائر المواجهات المصيرية ، يتجاهل عامة الناس تأمل ما قد يثير فيهم الإعجاب – أو حتى التماهي – بمن يستحوذ على اهتمامهم الآني ويستقطب تأييدهم المباشر من الشخصيات المحورية في دراما تلك الأحداث والمواجهات ، سوى ما يتمخض عنها من أفعال ملموسة وممارسات معاشة تسحرهم وتداعب أخيلتهم من جهة ، ويتجنبون – والأحرى يجهلون – الخوض في الدوافع اللاشعورية المسؤولة عن توجيه فائض تعاطفهم مع تلك الأنماط من الشخصيات الفريدة ، التي تضفي على الفعل الإنساني قيمة وتسبغ على الحدث التاريخي دلالة .
والحال إن ما يثير هوس الغالبية من المتابعين لشخصية (أبو عزرائيل) ويحفز عندهم مشاعر التأييد لمواقفه والتعاطف مع قضيته ، لا يعتمد بالدرجة الأساس على ما يتحلى به من مظاهر الشجاعة والبسالة فقط ، وإنما لكونه استطاع – عبر نوعية خطابه المشحون بالتهديد وخصوصية مفرداته المقرونة بالوعيد – أن يضرب على أوتار حساسة في لاوعي الشخصية العراقية ، التي تفتأ تختزن الكثير من نوازع العنف وتضمر الكثير من ضروب العدوانية ، للحدّ الذي بات يتخطى قدرتها على ضبط تطرفها والتمكن من كبح غلوائها ، بعد أن جعلت منها الأوضاع الهلعية الدائمة في حياة المجتمع العراقي تبلغ مراحل تنذر التفجر ، الأمر الذي قد تؤذي الذات نفسها قبل أن تنال من الآخر . وهكذا فان كل ما يفعله (أبو عزرائيل) أو يقوله ، لا يلبث أن يجد صداه في أروقة اللاشعور الجمعي على شكل حماسة وافتتان ، لا بالمعنى الوطني الذي يقصده الرجل أو بالمغزى الديني الذي يتبناه ، وإنما بالرغبة التي يحركها الدافع الذي تستبطنه الذات المأزومة وبالوازع الذي تحاكيه الشخصية الملتبسة . ومصداقا”على ذلك نجد إن تعبير (إلاّ طحين) الذي اشتهر به (أبو عزرائيل) لتوصيف قدرته على مواجهة ومعاقبة خصومه (الدواعش) ، أضحى أشهر من نار على علم بحيث شاع تداوله في معظم القطاعات الشعبية ، كما لو أن معناه الدال على (السحق والطحن والتفتيت والتمزيق) بات يستجيب لما في دخيلة الذوات المسكونة بنوازع العنف ويتناغم مع إرهاصاتها العدوانية . وعلى ما يبدو فإن (أبو عزرائيل) قد استشعر مؤخرا”خطورة الإيحاءات السلبية التي يبدو أن مفردة (إلاّ طحين) قد إثارتها في السيكولوجية الاجتماعية المحتقنة ، وهو الأمر الذي حدا به إلى توضيح مسوغات استخدامه إياها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، بعد أن حاول أن يضفي عليها
(شرعية دينية) و(مقاصد اعتبارية) قد يجهلها البعض ، من خلال نسبتها إلى أحد (الأئمة) الأطهار يوم كان يقارع أعداء الدين وينازع خصوم المذهب . ولعله أراد بذلك انتزاع طابع القسوة والوحشية التي توحي بهما العبارة المعنية من جهة ، ويبرأ نفسه ، من جهة أخرى ، من تهمة التحريض على العنف الطائفي التي نسبت إليه سابقا”، لاسيما في الأيام الأولى لظهور شخصيته ورواج عبارته في معارك محافظة ديالى . هذا بالإضافة إلى شروعه بتقليص مظاهر العسكرة والطريقة الاستعراضية التي كان يظهر بها إمام وسائل الإعلام ، فضلا”عن التخفيف من حدة اللغة / اللهجته التي بات يتعاطاها إثناء جولاته ولقاءاته ، وخصوصا”تأكيده المستمر على إن المقصود والمستهدف في كل ما يتعاطاه من أفعال وأقوال ؛ هم أعداء العراق والمسيئين لشعبه ليس إلاّ ! .