لا شّك إنّ تجربة السنوات الماضية التي أعقبت سقوط النظام الديكتاتوري في العراق وقيام النظام السياسي الحالي القائم على أساس المحاصصات الطائفية والقومية , قد أفرزت أوضاعا سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية , غيرّت كثيرا في طبيعة النسيج الاجتماعي العراقي الذي كان قائما قبل سقوط الديكتاتورية , فالانسجام بين مكوّنات الشعب العراقي لم يعد قائما , بل أنّ هذا الانسجام الاجتماعي قد تحوّل بفعل الصراع السياسي والطائفي والقومي , إلى حالة من الحقد والكراهية ومشاعر الانتقام من الآخر , مما تسبب في هذا النزيف للدماء وهذا الدمار للممتلكات العامة والخاصة وهذا الضياع والفساد والنهب للمال العام , والذي ساعد على هذا التمّزق والدمار والفساد والضياع , هو طبيعة النظام السياسي والطبقة السياسية التي خلّفت النظام الديكتاتوري المجرم , فالسياسي الكردي لم يعد يتشرّف بوطنه العراقي وأصبح يطالب بحق تقرير المصير والاستقلال عن العراق وتحقيق حلمه القومي في قيام دولة كردستان التي يرفع علمها من دون العلم العراقي , وكذلك السياسي السنّي هو الآخر لم يعد أن يقبل بقوانين المسائلة والعدالة واجتثاث البعث ومكافحة الإرهاب , وهو يرى أنّ الانفصال على طريقة الإقليم الكردي في كردستان , هو الحل وهو الخلاص من سطوة المليشيات الشيعية ونفوذ الحرس الثوري الإيراني في المؤسسات الأمنية العراقية , كما يعتقد ويشيع للعالم .
وفي ظل هذه الأوضاع والأجواء السياسية أصبح الجميع يعرف ماذا يريد وماذا يجب أن يفعل , إلا السياسي الشيعي , فهو الوحيد الذي لا يعرف ماذا يريد وماذا يجب أن يفعل , ولهذا تراه متخّبطا وحائرا ولا يجيد سوى تقديم التنازلات تلو التنازلات للآخرين ويفرّط بحقوق ومصالح أبناء طائفته من دون أن يتقدّم خطوة واحدة باتجاه اقناع الآخرين بوطنيته وحرصه على مصالح الوطن والشعب , وتجربة السنوات الماضية قد أثبتت حاجة الجميع إلى وضع قانوني مشابه لوضع الإقليم الكردي , ولهذا أصبحت الدعوة لفدرلة العراق ضرورة تمليها الظروف الموضوعية والذاتية التي يمرّ بها البلد , فقد آن الأوان لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والنهوض بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والخدمي لأبناء الجنوب والوسط الذين عانوا من التهميش خلال كل مراحل الدولة العراقية , في الوقت الذي يتنّعم فيه الآخرون بثرواتهم ومواردهم , فبعد الاتفاق المذّل الذي أبرمته حكومة رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي مع حكومة إقليم كردستان , وهذا الانحدار المهين في تقديم التنازلات على حساب حقوق أبناء الجنوب والوسط في العراق , أصبحت الدعوّة لإقليم الجنوب أمرا لا مناص منه وغير قابل للتأجيل , فوجود النفط في المحافظات الجنوبية الأربعة ( البصرة والعمارة وذي قار والمثنى ) , هو أحد أهم دعائم ومقومات إنشاء هذا الإقليم مضافا إليها العامل الجغرافي والسكاني , والدعوة لإقليم الجنوب ليست دعوة مقابلة من أجل تمييع الدعوات المتصاعدة لإنشاء إقليم البصرة , بل أنّ هذه الدعوة أكثر عمقا وواقعية وتأثيرا من الدعوة لإقليم البصرة , فولادة هذا الإقليم ستكون له تأثيرات جيوسياسية واقتصادية كبيرة على مستقبل العراق الفيدرالي , وسيكون دافعا للآخرين للتفكير بتشكيل الأقاليم على غرار هذا الإقليم , وهذه فرصة للجميع للخلاص والعيش بأمن وسلام واستقرار .