أي صباح نحس هذا الذي أصحو عليه! أهو سوء طالعي، أم هو نذير شؤم سَيُعكرَ صفو يِومي بأخبار لا أقوى على سماعها! أم لأن الأمر كله على صلة بالكتاب الذي فرغت منه في ساعة متأخرة من الليلة الفائتة. سألت نفسي: مالك يا رجل، ما كان عليك الاّ أن تلغي فكرة تكملة قراءته وتذهب الى تأجيله حتى اليوم التالي، لكنك ضعفت كما يبدو أمام سطوته، فجمال نصِّه ووحدة موضوعه وما الى ذلك، كلها أشرت الى قدرة كاتبه وكفاءته على ِأن يجرك أينما يشاء، بل حتى وفي بعض منعطفاته بات يُشعركَ بالعجز عن اللحاق به. لكن في ذات الوقت وعلى الرغم مما يحمله من حبكة وصور كثيفة من الجمال وما به من المتعة، الاّ اني سأسجل إعتراضا واحدا عليه وهو موضوع الكتاب، وربما سيختلف البعض معي في هذا التقييم والوصف، فعلى ما رأيته فقد زاد من همّي همّاً وجعل من غربتي أكثر ثُقلا وإغترابا.
ولكن ما رأيكم لو اختصرنا اﻷمر ودخلنا في أهم مفاصل الرواية التي هي موضوع حديثنا. حسنٌ فمن خلال متابعتي لشخوصها التي وردت، وتعليقاً على ما جاء فيها، سأخرج بنتيجة وربما هناك آخرين مَنْ هم مثلي وسبق لهم الإطلاع عليها، تفيد بوجود تشابها كبيرا بين الشخصية الرئيسية والمحورية في هذا العمل وبيني. ومن شدة التقارب فيما بيننا والذي وصل في بعض فصوله الى حد التطابق، فقد انتابني ولا زال إحساس خاطف، غريب، سيفضي الى الظن بأني المعني بهذا العمل وليس من أحد سواي، أو ان هذه الشخصية على أقل تقدير قد بُنيتْ وأستقّتْ مني ومن دون دراية، فحركتها وتطورها وحتى اسلوبها في الحوار والمفاهيم التي تبنتها وما كان يصدر عنها، كلها تدعو الى القول بأن الشخص الرئيسي في هذه الرواية هو أنا، أو ان الكاتب وهذا احتمال آخر، يتحدث بأسلوب كمن سكن داخلي وتحرك برغبتي.
الاّ أن ما جعلني أتراجع عن هذين الإحتمالين وأستبعدهما، هو جملة من المؤشرات، كان من بينها على سبيل المثال ماورد في مقدمة الكتاب الذي هو حديث ساعتنا، بعض المعلومات والإيضاحات واﻷسماء والتواريخ، التي ستختلف بكل تأكيد عمّا انا فيه، فضلا عن إسم الكاتب واسم المترجم الذي ألحِقَ به. كذلك دار النشر التي صدر عنها والمتخصصة أصلا بالأدب الأجنبي. وكي نصل الى النهايات، فالكتاب الذي فرغت منه تواً يعود الى أحد كُتاب أمريكا اللاتينية، آه كم بدا التقارب جليا بين تجربتينا رغم البعدين الجغرافي والزمني، وكم أعادني الى ما كنّا نعانيه من قادة تلك البلاد التي أبعدتنا والتي ستبقى وطننا، وهي حقا كذلك رغم كل ما قاسيناه. إذن فنحن نعيش في عالم متشابه، عنوانه القمع والتسلط والإنتهاك المستمر.
وفي لحظة كهذه وأنا أفرغ من قراءة الكتاب، الرواية، ما كان عليَّ الاّ أن اُعبِّرَ في سري وفي علني عن التضامن التام مع ضحايا تلك الدولة وغيرها من الدول التي هي على شاكلتها، والتي يتحدث عنها أو يعنيها الكاتب، فهم أخوتي بكل تأكيد ولكن هنا سيبرز السؤال: منْ سيتضامن معنا نحن أبناء البلاد الحزينة؟ مَنْ سيغني لنا؟ مَنْ سيلعق جرحنا النازف حتى اللحظة؟ مَن سيخفف الهمَّ عنّا؟.
لا اُخفيكم القول فبسبب من جمال بعض فقرات الكتاب، فقد أعدتُ قراءتها لعدة مرات، حتى أني في المرة الأخيرة وحين عزمت على إعادتها، وجدت نفسي قد حفظتها عن ظهر قلب مع كل وَقفاتِها وهوامشها، ولأنها أعجبتني فساُعيدها عليكم نصاً وعلى لسان إحدى الأمهات التي فُجعتْ بغربة ولدها:
الكثير منّا رحلَ وانا أيضاً رحلت معهم، لقد أطلت الغياب ولم تأتِ حتى لحظة مغادرتي هذا العالم، تعبتُ من الإنتظار حتى أصابني اليأس. على كل حال لا تقلق يا ولدي، فلقد وضعت مفتاح البيت بنفس المكان الذي اعتدت عليه في كل مرة حين كنت تعود في ساعة متأخرة من الليل. قد تجد سكان البيت يغطون في نوم عميق، لذا إن عُدْتَ يا ولدي من غربتك، دعهم وشأنهم فلا ضرورة لإيقاظهم، وإذا ما شعرت بالجوع فلا زال الأكل ساخنا. نعم، هو ذات البيت الذي وُلدتَ فيه ونشأت وكبرت، ولكنك غادرت قبل أن يحين موعد قطاف الحب، وكي لا تتفاجأ، فقد أعدنا ترتيب الغرف بعد أن ازداد عدد أفراد العائلة وتشعبت الاّ غرفتك، فقد بقيت على حالها، لم يمسها أحدٌ، وأبقيت على صورتك معلقة على ذات الحائط كما أوصيتني.
قد ترى وجوها لم ترها من قبل، فالصغار كبَروا ووُلِد آخرون بعد رحيلك الإضطراري. لا تلمني يا ولدي إن لم تجدني فلقد تَأخّرتَ كثيرا وبانت عليّ علامات الشيخوخة المبكرة، لكن علي أن أقول لك، أن لا تستغرب حين سماعك بعض الاخبار التي سأسردها عليك، قد يكون من بينها ما هو سار وما هو غير ذلك: لك من الأخوة من كبُرَ ومنهم من قضى نحبه في تلك الحرب التي لم ترَ شرها وشرارتها التي أحرقت السهل كله، ربما كان ذلك من محاسن الصدف التي خففت قليلا عن بلواي وعن أوجاع قلبي على فراقك. هناك أيضاً من مات كمداً على رحيلك بعد أن ظنّك ستأتي ذات يوم ولكنك لم تأتِ، ومن شقيقاتك من ترمَّلت وخطَّ الشيب مفرقيها وضاع نصف عمرها. (انتهى الإقتباس من الكتاب).
حالة من الضيق والإختناق بدأت تحاصرني، كان من المفروض أن لا أعيد قراءة هذه الفقرة ففيها من الشوق والحنين كما فيها من العذاب، لذا قررت أن أركن الكتاب بعيداً عن ناظري، أملاً بإرجاعه الى صاحبه وبأسرع وقت ممكن، وأن أتجه صوب ما تهدأ له الروح، لذا قررت أن أولّي وجهي صوب ذاك المكان الذي سميناه ملتقى للغرباء، رواده جُلَّهم على شاكلتي أو أنا على شاكلتهم، وقد اعتدنا على تبادل الشكوى من حياة الغربة وطول الإنتظار، إذ لا حيلة لنا الاّ أن نكابر ونصابر بعضنا بعضا. كنا نتصيد الضحكة والبسمة التي تكاد أن تفلت منا والى الأبد. في بعض اﻷحيان وعندما كان ينتابنا شعوراً بالوهن والضعف، كنّا نرنو الى مسائلة أنفسنا: عَلامَ كل هذا الجَلد والتحمل؟.
الساعة اﻵن تقترب من منتصف الظهيرة وهذا ميقات مناسب كنا قد اتفقنا عليه مسبقاً أنا وَمَنْ يقاسمني سكني، للخروج سوية من البيت وتزجية بعض الوقت، فغرفته ملاصقة لغرفتي واهتماماتنا تكاد أن تكون متطابقة، فكلانا انتمينا الى ذات الخيار السياسي، وكلانا اغتربنا سوية، وكلانا أثار من التساؤلات ما رفضها الباب العالي ومن قبل الإستماع اليها( أتعرفون مَنْ هو الباب العالي، لندع هذا اﻷمر الى القادم من اﻷيام) كلانا حَمَلَ ذات الهموم والإهتمامات مع بعض الإختلافات البسيطة التي تكاد لا تُذكر، لذا طرقت الباب على صاحب، لم يردَّ عليَّ، أعدت الطرق ثانية وثالثة حتى فُتحَ الباب، مصطحبا معه صوت الموسيقى وصوت أحدهم وهو ينشد تلك اﻷغنية اﻷليفة على أسماعنا يوم كنا فتية أو قُل في بدايات الوعي والإنتماء السياسي: دَمٌ في الشوارع، سانتياغو…… الى آخر اﻷغنية، انه صوت جعفر حسن وقيثارته الشهيرة وتلك الحماسة الثورية التي تدفعك ﻷن تتذكر فيكتور جارا وكل شهداء الثورة التشيلية وشهداء العالم، لتتذكر بابلو نيرودا وسلفادور الليندي ومريم ماكيبا وجياع أفريقا وفلسطين المحتلة وووو.
هنا سألتُ صاحبي: الا تعتقد بأنَّنا نشترك في جرح واحد مع مَن أنشدَ لهم جعفر حسن؟ قال بلا. قلت ألا تعتقد أن لنا أيضاً شعراء استشهدوا في شوارع مدننا وعاصمتنا؟ قال بلا. قلت ألا تعتقد بأن لنا من السبايا ما فاق أعدادهم أو يكاد يقترب من ضحاياهم؟ قال بلا. قلت ألا تعتقد أن لنا من اﻷطفال مَنْ تيتم مبكرا وعلى يد أنظمة القمع التي تعاقبت على حكم بلادنا؟ قال بالمئات إن لم يكونوا بالآلاف. قلت له لماذا إذن لم يغنّوا لنا كما غنينا لهم، أو على اﻷقل لم نسمع بتلك اﻷغاني التي تدل على تضامنهم معنا؟. هنا توقف صاحبي لبرهة خاطفة من الوقت ليقول لي بلغة ودودة: كم أنت ملحاح وكثير أسئلة. فأجبته وكم أنت ساكت لا ترد. ثم وبلحظة خاطفة قرر صاحبي وحسماً للجدل أو من أجل تأجيله الى أيام أخرْ، أن يوقف جهاز التسجيل ويخرج الكاسيت ليضع آخر بدلا عنه وليصدح صوت السيدة فيروز برائعتها:
بغداد والشعراء والصور ذهب الزمان وضوعه العطر
يا ألف ليلة يا مكملة الاعراس يغسل وجهك القمر
بغداد هل مجد ورائعة ما كان منك اليهما السفر
أيام أنت الفتح ملعبه إنا يحط جناحه المطر