الدنيا تقسو علينا ونحن أقسى منها على بعضنا البعض , والبشرية كأنها بلا مشاعر صادقة وتفهّم حقيقي لمعاناتنا , فضميرها في إجازة , أو أنها مخدّرة بالكلمات الكلوروفورمية والأميتالية أو المسمومة التي تجعلها تحسبنا أرقاما.
فوسائل الإعلام تصوّر للدنيا بأننا أرقام , والذي يسقط ميتا منّا ما هو إلا رقم, ولا يجوز لها أن تقدمه على أنه إنسان , ولهذا فأنهم يمرون على الأبرياء المضرجين بدماء الختام ويقولون قُتل عشر أو عشرين , أو مئات دون أي إحساس أو تعبير عن الأسى والألم , والسعي لعمل شيئ ينقذ الإنسان المُبتلى من هذه الدوامة التدميرية والخراب المستطير.
لا أحد في هذه الدنيا , بل الكل يتعامل مع الواقع بإستعلاء ونكران وتجاهل , وكأن الذي يجري لا يعني أحدا , والذين يموتون ويعذبون ويمتهنون كل دقيقة ليسوا من البشر أو من مملكة الحيوانات.
ووفقا لهذه المفاهيم الوحشية والعقائد الغابية والشعارات الفتاكة , صارت الأقلام تتحدث عنّا بأساليب غريبة , وكأننا من كوكب آخر , وكثر عدد المنظرين والمضللين وحملة رايات الكلمات الخبيثة.
فتقرأ باللغة العربية واللغات الأجنبية , مقالات تتحدث عن العراقيين بتعالي وتحسبهم يستحقون ما يعانونه , لأن الذي يتأكد كل يوم من فعلهم وبمحض إختيارهم , وهم الذين ذاقوا أمرّ أنواع المقاساة في تاريخ البشرية المعاصرة وعلى مدى أربعة عقود جهنمية طاحنة , تحولت إلى سقرٍ مسعور في السنوات الخوالي الداميات , والدنيا بأسرها تزداد قسوةً وشراسة وضراوةً ضدهم , وتريد إفتراسهم وأخذ نفطهم وتدمير كل ما موجود فوق تراب الرافدين وتطمح أن تحوّل كل عراقي إلى بضعة ألتارٍ من النفط.
ولا يلوح في نفق الدم والبارود ومستنقع المحاصصة والأحزاب المدججة بأسلحة الفجيعة والإمعان بالقسوة على الذات والدين , والتعبير عن الدمار والخراب الوطني الخلاق , بأفعالها التي تسفه ما تقوله وتنادي به.
وبعد هذه المسيرة المخنوقة بالمآسي المتواكبة والويلات المتعاقبة , إنغرزت أشواك الكآبة في القلوب وتوطنت خناجر الآهات بالنفوس , فالناس أصيبت باليأس المتعلَّم , والخيبة المتعلمة والكآبة الشديدة القاتمة , وبرضوض نفسية وروحية وفكرية لا يعلم بشدتها وقسوتها إلا رب العالمين , فقد أرهقتها الحروب وأوجعتها الصراعات والتداعيات المأساوية الشديدة.
ومع هذا فالدنيا تتعاظم قسوتها ويتنامى تجاهلها لويلات العراقيين , وتقول بأنها تريد لهم الخير الكثير وتحاول أن تزفهم في عرس الديمقراطية الأحمر.
لكنها في واقع أمرها حولت بلادهم إلى ساحة قتل وفتك عظيم , تدعي أنها تقاتل الإرهاب فيه , بعد أن قدمت بطاقات دعوة لكل إرهابيّ الأرض للقدوم إليه , والصراع على حلبته وفوق جثث أبنائه وخرابه ودماره , وفق خطة حارقة لم تخطر على بال البشرية من قبل.
نعم إن الدنيا تقسو على العراق , ولا يحق لها أن تجعله مسرحا لشرورها وتستدعي آلهة الأشرار , وتؤسس نظاما للتعبير عن عقيدة الصراع الفتاك ما بين العراقيين , بعد أن رفعت شعاراتها وأكدت المفاهيم الطائفية التدميرية , التي تقضي بالتعامل مع أبناء الوطن الواحد على أساس الإسم والمعتقد والمنطقة والعشيرة
وغيرها من دواعي التفاعلات المدمرة لكل الأشياء والقيم والتقاليد والأعراف والوطن.
الدنيا قست وحوّلت الناس إلى قساة على إخوانهم , بعد أن أهلتهم نفسيا وفكريا وماديا وسياسيا وإعلاميا لكي يمعنوا بالقسوة ويعبروا عن إرادتها , ووفرت لهم العناوين والمسميات والمصطلحات والهيئات الكفيلة بتسويغ قسوتهم وتعذيب أبناء شعبهم.
تلك مصيبة عظيمة وجريمة شنيعة أرتكبت بحق وطن وشعب , ولا زالت ترتكب وبشراسة تفوقت على توحش أعتى أعداء الإنسانية والبشرية والدين.
فهل سيستيقظ ضمير الوحوش المحلية والعالمية المؤهلة للإجرام , وهل سترأف البشرية أو يصيبها بعض تأنيب ضمير وتمتلك قليلا من شعور الآدمية ووجدان الطين.
ألا يكفي هذا الإنقضاض السافر المشين على شعب لا ذنب له إلا لأن أكبر مخزون للنفط يكمن في أرضه.
فلا ذنب للعراقيين إلا أن النفط العالي الجودة بمخزوناته العظيمة كامن في بلادهم.
نعم لا ذنب لهم إلا هذا البلاء العظيم : النفط وما أدراك ما فعل بالعراق والعراقيين.
فما يعانيه العراقيون هو نقمة النفط وكل إدعاء غير النفط هراء وضحك على الذقون.
فتغرغروا بديمقراطية النفط وتمضمضوا وكحلوا بها العيون , فلن تجلب إلا النزيف والخراب والإنفجارات والصراعات وتملأ المعتقلات وتبني المزيد من السجون , وتحقق الفقر والجوع والرعب والخوف. تلك هي الوحشية السافرة والإفتراس المشين , ويبقى للقوى المحلية بأنواعها ومسمياتها ورموزها الدور الأكبر بفجيعة العراق .