23 ديسمبر، 2024 2:01 ص

إغتيال الطاقات في بلديi

إغتيال الطاقات في بلديi

أعلن مفتش كبير على المدارس، عن قيامه بزيارة مدرسة إبتدائية في قرية صغيرة، ولكنه توقف في الطريق لعطل في محرك سيارته، وبينما كان المفتش حائرآ أمام سيارته، مرَّ تلميذ وشاهد الرجل الحائر، وسأله عما إذا ما كان في وسعه مساعدته في وضعه المتأزم؟ أجاب المفتش: هل تفهم شيئاً عن السيارات؟!

لم يطل التلميذ الكلام، بل أخذ الأداة وإشتغل تحت غطاء المحرك المفتوح، وطلب من المفتش تشغيل المحرك، عادت السيارة الى السير من جديد، شكر المفتش التلميذ، ولكنه أراد أن يعرف، لماذا لم يكن في المدرسة في هذا الوقت؟ أجاب التلميذ: سيزور مدرستنا اليوم مفتش كبير!

وجه التلميذ كلامه للرجل قائلاً: بما أنني الأكثر غباء في الصف، فقد أرسلني المدرس الى البيت، لئلا أزعج الصف بغبائي، ويوهم المفتش بأن تلاميذه كلهم متفوقون في كل شيء، رغم أنني أبدع في أشياء أخرى، ولكنه لا يرهق نفسه ليتكشف طاقتي، وهذا أمر يحزنني وأتمنى نقله للمفتش، لكنهم أخرجوني قسراً.

هكذا تغتال الطاقات في بلدي الصابر، والذكاء، والإبداع، والتفوق، والتميز، والإنجاز، مؤشرات ليست مقتصرة على فهم المنهج الدراسي فحسب، وإنما لابد من وضع كل شخص في مكانه المناسب، لتتجلى إبداعاته ومهاراته، ونستفيد من هؤلاء الطلاب، ومن إبداعاتهم في مجالات أخرى، إذا لقوا مَنْ يدعمهم، فلا يوجد غبي إنما تعدد ذكاءات!

هل تتصور يوماً أن مؤسسات الدولة، يمكنها أن تُسيَر أعمالها بوجود حملة الشهادات بمختلف مستوياتها فقط، ولا تحتاج لميكانيكي سيارات، أو كهربائي، أو حارس، أو موظف خدمة، أو سائق، أو بستاني، وغيرها من المهن التي لا يمكن الإستغناء عنها، فهي وظائف مهمة أيضاً، فلا تبخسوا أبداً حقوق مَنْ يقوم بها.

معلمو اليوم نتاج الماضي، وقادة الحاضر، وصُناع المستقبل، وعليهم تقع مسؤولية إعداد الجيل الفاعل والمتفاعل، فوجب الإهتمام بالقدرات، والمهارات، والقابليات التي يشاهدونها في تلاميذهم، وألا تقتصر أيامهم المدرسية على القراءة والكتابة التقليدية والمنهجية، بل مراعاة الفروق الفردية، وإيلاء المواهب إهتماماً خاصاً لتنميتها وتطورها، وإلا فبناء الوطن يحتاج لأصابع اليد العشرة.

كثيرة هي الطاقات المعطلة والحقوق المؤجلة، والتي طالت آجالها حتى أفلت أقمارها، فذبل الإبداع في العقول، وتاه الإنجاز في متاهات القيود والقوانين العقيمة، التي أكل عليها الدهر وشرب، وحتى مع تجربة الحرية والديمقراطية، مازالت تلك المهارات تتطاحن مع الحكومة عبثاً، لمحاولة إقتلاع حقوقها ولكن دون جدوى، وكأنها تتقصد تمييع أحلام أبنائها.

الوعاء النظيف قادر على إستيعاب المعلومات الصحيحة، ويتعاطى معها تعاطياً سليماً، وهذه هي صورة المعلم الواعي، الذي يعتبر الطفل مشروعاً مستقبلياً، يحتاج الى تخطيط إستراتيجي بعيد المدى، فصورة الوطن لا تكتمل بغياب الطفولة وطاقاتها، خاصة وأن الأعداء جابوا الصخر بالواد، ليحطموا أجيالنا الحاضرة ويطمسوا هويتها، بإغراءات الحضارة الغربية والحداثة المزيفة فأحذروهم.

الحكومة القادمة عليها واجبات ومهام كبيرة، ولكنها بحاجة الى الإلتفات الأكثر أهمية، لمثلث التربية والتعليم والخاص بالإهتمام بالمعلم، والطالب، والكتاب، فهذه الثلاثة تبني ما نصبو إليه، إذا كانت الحكومة جادة للمضي في عملية تصحيح مسار المشهد الديمقراطي في العراق، وتعميق مبدأ بناء دولة المواطن والمواطنة، فلا وطن بلا مواطن ولا طاقات أو كفاءات.