23 ديسمبر، 2024 2:27 م

تنحو مقولة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام “اعملْ لدنياك كأنك تعيش أبداً…” منحىً عمرانياً بيّناً من ضمن تأويلات عدّة. وهي، على الرغم من ارتكازها على لغة خطاب موجّه للمفرد، إلاّ أن من السهل تبيّنَ العمومية فيها وصلاحها لكل زمان ومكان.
   وعلى الرغم من أننا علويون، أعني انحيازنا لهذا العملاق واتخاذنا من سيرته وسننه مناهج عمل وتفكير، إلا أننا لا نولي هذه المقولةَ ما تستحقُّ من العناية. ولي على هذه النتيجة شاهدان، شاهدٌ رسمي حكومي، وآخر يخصُّ مزاج الناس العمرانيّ.
   ولأبدأ من الشاهد الحكومي بسؤال: كم بناية جاءها أمر بالهدم، وإعادة البناء؟ تأكّدْ، صديقي القارئ، أن عددها كبير جداً إلى الحدّ الذي يرقى أن يكون ظاهرة. وفي هذا نكون قد خسرنا الثلاثيّة الذهبيّة التي تحدّد بوصلةَ التقدّم في العالم وتؤشر له، وأعني بها القدرة على توفير: المال والجهد والزمن.
     إن ما يضاعف الإحساس بالخسارة والمرارة في آن معاً، أن عمر بعض الأبنية لا يزيد على الأربعين عاماً. نكتشفُ بعدها، برهافةِ حِسّنا العمرانيّ المتقدّم، أن البناء لم يعد صالحاً، لذا نصدرُ الحكم بإعدامه ببساطة متناهية تقرب من العبث، إن لم تكن العبث بعينه، كما حصل مع إعدادية المصطفى في القطاع 23 في مدينة الصدر، وغيرها الكثير، فقد بُنيت هذه المدرسة من قبل شركة هنديّة في مطلع السبعينيات، وجاء أمرُ هدمها في شباط من عام 2008، على الرغم من أنها لا تستحقُّ هذا الحكم القاسي، وهي إلى الآن لم تتعدَ مرحلة الهيكل!!
 أما على مستوى المزاج العمرانيّ العام للناس فهو الآخر يعاني مما يمكن أن نسميه التقوقع وعدم مدّ البصر إلى الأمام. شاهدي هو المراحل البنائيّة التي مرّت بها مدينة الصدر مثلاً. ففي الإنشاء الأول لهذه المدينة الكارثة لم يمتد خيال الناس فيها إلى أكثر من الطين والقصب والسعف ليحاكوا ما أَلفوه من طريقة للسكنى في جنوبهم الذي غادروه مكرهين، على الرغم من وفرة وسائل البناء المدينيّة حينها. ثم، وفي مرحلة لاحقة، أقاموا أبنيتهم وأخطأوا حين أغفلوا العمر الافتراضي لهذه الأبنية، فصحّحوا أخطاء الجص والشيلمان بالكونكريت المسلّح والأسمنت، وقد يكتشفون بعد حين أن ما عدّوه نهائياً خالداً ما هو إلا خطوة في طريق التبديد المتصل للجهد والمال والزمن.
    ثمة بناية في فرنسا أقيمت لتكون ديراً أو مدرسة دينيّة في القرون الوسطى.. لم يبذل الناس هناك جهوداً جبّارة لتأهيلها لتغدو مستشفى، كما نفعل حين نقرّر هدّ البناء وتقويضه. كلُّ ما احتاجته البناية هو إعادة تقطيع صالاتها وغرفها وطلاء لجدرانها.. فكانت مستشفى!
     أتمنّى على مَن يغرس لبنة الطابوق في الأسمنت النديّ أن يمدَّ بصره ولو إلى خمسين عاماً قادمة امتثالاً لمقولة أبي تراب.. اعملْ لدنياك كأنك تعيش أبداً.
[email protected]