18 ديسمبر، 2024 7:04 م

إعلان عرض أسعار.. حكومي!

إعلان عرض أسعار.. حكومي!

نشرت الصحف المحلية قبل يومين إعلاناً غير مألوف، احتل نصف الصفحة الأولى. صاحب الإعلان هو الحكومة؛ بالتحديد، وزارة الصناعة والتجارة والتموين. وعنوان الإعلان: “الحكومة تستثني أكثر من 70 % من السلع الغذائية من زيادة ضريبة المبيعات”. ولم يكن تصميم الإعلان صارماً متجهماً مهدِّداً مثل إعلانات تبليغ المحاكم، ولا هو متباهٍ متعالٍ مثل إعلان الدعوة إلى مهرجان أو احتفال. كان إعلاناً على الطريقة التجارية، فيه رسم بياني توضيحي وصور لسلع ومأكولات، على طريقة إعلانات “المولات” الكبيرة عن العروض على بضائعها.

كان محتوى الإعلان خبرياً، من النوع الذي يوزع عادة في بيان صحفي على الصحف وينشر كمادة خبرية عادية في صفحات الأخبار. لكنه أراد، فيما يبدو، استخدام أدوات الإعلان التجاري؛ من التأثيرات البصرية والنفسية، لإيصال فكرة. والفكرة هي تذكير المواطنين بأن هناك سلعاً لم تطلها زيادات الأسعار، وتركيز انتباههم على هذه السلع بالذات وليس السلع التي ارتفعت، وتطمينهم بالإجراءات المتخذة لضمان عدم خضوعهم لابتزاز التجار الجشعين. وحتى يتعمق الإدراك النصي، ضم الإعلان صوراً للسكر والخبز والسمك وغيرها، ليقول للمواطن: هذا هو شكل الخبز الذي لم نرفع سعره، واللحم والزيت والسمسم.

إذا كان هذا العرض غير المألوف لخبر استثناء سلع من رفع الأسعار يريد أن يخاطب سيكولوجيا المواطن، فإنه يمكن أن يشير أيضاً إلى “سيكولوجيا الحكومة”. ويقترح أنها تناضل من أجل العثور على سبل لاحتواء تأثير ارتفاعات الأسعار على المواطنين. ويبدو الإعلان –الذي لا يعلن عن هبوط أسعار وإنما عن مجرد تثبيت لأسعار- دفاعياً أشبه بالتماس، وليس “هجومياً” مثل إعلانات “المولات” التي تغري المستهلك بالشراء.

إذا جاز الاجتهاد، فإن معظم الأردنيين يدركون الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تجد الحكومات المتعاقبة نفسها فيها. وهم لا يعترضون غالباً على الحقائق، مثل إمكانات البلد الصغير وهباته الطبيعية المحدودة، أو الأوضاع التي تمر فيها المنطقة وتؤثر حتماً في البلد. إنهم يعترضون على ما يرونه خطأ في استثمار الموجود منها بالطرق المثلى الممكنة. ثمة الذين يركزون على الفساد والمحسوبية والواسطة والمظاهر كسبب لهدر المال العام والتضييق على المواطنين. وثمة الذين ينتبهون إلى تراجع التعليم وحرمان الشباب من الفرص بسبب ضعف التأهيل والقدرة على المنافسة. وهناك الذين يتعقبون المشاريع الإنتاجية والاستراتيجية المنتجة التي تتعثر أو تغيب. وهناك الذين يلاحظون قوانين الاستثمار غير الجاذبة للمستثمر الأجنبي. وهناك الذين ينتقدون تراجع واقع الخدمات والبيروقراطية وعيوب السياحة. وهناك الذين يلخصون المشكلة في أن الحكومات المتعاقبة تأتي إلى واقع أزمة موجود مسبقاً، وتتعامل معه بمنطق إدارة الأزمة، وليس البدء من نقاط واحدة لحل الأزمة.
يحب المواطن أن يتعاطف، لأنه يدرك أن بلده كله سفينة واحدة تسير بكل مَن عليها وفيها. لكن المواطن أيضاً مكشوف أمام كل دواعي القلق، وهو مطالب بحل أزماته الخاصة وعدم الغرق في إدارتها. وهو يريد أن يساعد، مثل أي فرد في أسرة كبيرة، لكنه يجد نفسه مطالباً بما ليس لديه. وربما يرى أن العلاقة لم تعد تبادلية تكافلية، بمعنى أنه يدفع ضرائبه ورسومه، ويتحمل ارتفاعات الأسعار، ليجد في المقابل عملاً لنفسه وأبنائه، أو تعليماً مجانياً ورعاية صحية معقولة وخدمات تعادل ما يدفعه.
إذا كان في تقديم خبر استثناء السلع الغذائية في شكل إعلان ملون شيء جديد، فهو أن الحكومة تبحث عن طريقة للتواصل مع المواطن بطريقة أكثر ودية واسترضاءً. وهي تريد أن لا تكون قراراتها فوقية جامدة هابطة بالمظلة، وإنما تريد أن تسوقها بالإقناع، حتى ولو باستخدام تقنيات الإعلان التجاري. وربما يمكن قراءة ذلك على أنه تحوُّل في العقلية؛ حيث تدرك الحكومة أن المواطن هو “الزبون” الذي يشتري ما تنتجه، وأن الزبون يجب أن يرضى عن المنتج ويشعر بأنه يخدمه حتى تنجح المؤسسة من الأساس.

إذا كان الأمر كذلك، فإنه واعد. لكنه يحتاج إلى أن يكون جدياً وواعياً لذاته. وينبغي أن تكون غايته تخفيف كلفة “المنتج الحكومي” (القرارات والسياسات) على المواطن وإقناعه بشرائه الشعور بجدواه. وقد يبدأ ذلك بكسر الدائرة الشرسة من إدارة الأزمة، والانطلاق من نقطة واضحة ما، في عملية إصلاح اقتصادي تكون غايتها طمأنة المواطن على مستقبله والسهر على رفاهه.

نقلا عن الغد الاردنية