أخيراً، تمخضت الدولة الإسلامية في العراق والشام، “داعش”، عن الخلافة الإسلامية، وبويع أبو بكر البغدادي من “أهل الحل والعقد” الذين لم تعرف هويتهم أو ماهيتهم، وهو موضوع إشكالي في الفقه الإسلامي، خليفةً على كل المسلمين في شتى أقطارهم، وتم الإعلان عن دولة الخلافة الموعودة.
استفادت داعش من الحاضنة الشعبية ذات الأصول السنية في العراق، والتي تمردت على سياسات نوري المالكي المجحفة بحقها، وتمكنت، بالتعاون مع قوى أخرى حزبية وعشائرية، من السيطرة على غالبية الجزء السني في العراق خلال ساعات. وكانت، قبل ذلك، قد نجحت في السيطرة على أجزاء واسعة من سورية، ومن ثم في القضاء على حلفائها بالأمس من جبهة النصرة أو الجيش الحر، ورسخت زعامتها في مناطق نفوذها.
إعلان الخلافة ليس ترفاً، ولا دعاية حزبية أو سياسية، أو دعوة دينية. بل هو، ومن المنظور الديني لهذه الاتجاهات، له بعده المتجذر في العقيدة وأصول الدين. وكما كانت له مقدماته التي امتدت من القاعدة وأبو مصعب الزرقاوي والدولة الإسلامية، فان له نتائجه التي يدركها تماماً صانعو الإعلان. ويدركون انعكاس هذه النتائج على سياساتهم، وعلى معاركهم التي يخوضونها.
دولة الخلافة المفترضة لا تحتمل التعددية، في مناطق سيطرتها، وفي شتى بقاع المسلمين، فالخليفة هو خليفة كل المسلمين الذين عليهم السمع والطاعة، وسلطته مطلقة عليهم جميعاً، ولا يجوز أن يكون لهم أكثر من دولة، فما بالك بأكثر من جماعةٍ، أو حزبٍ، أو تنظيم.
لنتمعن في ما ورد في إعلان الخلافة، حين يقول “وإياكم وشق الصف، ومن أراد شق الصف، فافلقوا رأسه بالرصاص، وأخرجوا ما فيه، ولا كرامة لأحد”. كما أنه يخاطب الجماعات والتنظيمات الإسلامية الأخرى في كل مكان، ويقول “بطلت شرعية جماعاتكم وتنظيماتكم، ولا يحل لأحد منكم أن يبيت دون أن يبايع”، مذكراً إياهم بأن سبب تأخير النصر “وجود هذه الجماعات”.
إذن، أصبح من الواجب شرعاً، ضمن هذا المفهوم، على الجميع من الظواهري إلى الملا عمر و”طالبان” إلى “الإخوان المسلمين”، وإلى أي فردٍ، أو جماعةٍ، أن يبايع الخليفة البغدادي فوراً، ومن دون أي تأخير، وإلا اعتبر مرتداً خارجاً عن جماعة المسلمين، ووجب قتاله.
أما الحاضنة الشعبية التي مكنت الخليفة البغدادي من بسط سلطته، وتوسيع دائرة نفوذه، فإن عليها، أولاً، أن تنصاع لهذه السلطة. لم يعد مقبولاً أن يقال إن قوى حزبية، أو قوميةً، أو إسلاميةً أخرى، أو حتى عشائرية، شاركت، أو ستشارك في سلطة الخليفة ودولته. وحتى يتمكن الخليفة من تحقيق وحدانية السلطة، عليه أن يتجه، أولاً، إلى محاربة المرتدين من مسلمي الأمس الذين لا ينصاعون لسلطانه. تماماً كما فعل الخليفة أبو بكر الصديق، عندما توجه لمحاربة المرتدين، قبل أن يتوجه نحو الفتوحات الخارجية.
بمعنى آخر، إن العقد الاجتماعي والسياسي الذي سمح لـ “داعش” ببسط نفوذها في الشام والعراق سيجري استبداله، بالقوة، بسلطة الخليفة الدينية المطلقة، وعلى هذه السلطة لكي تترسخ وحدها من دون شريك أن تشتبك مع حلفاء الأمس. لذا، من المتوقع أن تتحول الجبهة مع نوري المالكي أو بشار الأسد إلى جبهة ثانوية، وتشتعل في الداخل جبهات أخرى، سواء على أرض دولة الخلافة الحالية، أم مع القوى والجماعات الأخرى التي سترفض، قطعاً، منطق المبايعة والانطواء تحت راية الخليفة في بلدانها الإسلامية. كذلك، قد تتحول الأوليات لتوسيع نطاق دولة الخلافة من العدو الافتراضي الحالى (المالكي وبشار أو الشيعة) مع إبقائهم هدفاً دائماً للتعبئة والتحريض المذهبي إلى نواحٍ وبلدانٍ أخرى في الإقليم قد تعتبر بمثابة خاصرة رخوةٍ في النظام الإقليمي برمته. وهدفاً أسهل لزعزعته، والانقضاض عليه، فثمة جبهةٌ تكاد أن تخف وتيرة الصراع فيها، وجبهات تشتعل أو تكاد، وقواعد جديدة للاشتباك تتشكل في منطقتنا.