25 نوفمبر، 2024 7:45 ص
Search
Close this search box.

إعرف نفسك ، محاكمة سقراط نموذجا

إعرف نفسك ، محاكمة سقراط نموذجا

مهاد
قد يبدو من المستغرب  أن َتحمل المعرفة البشرية سرها من خلال الموت.. الموت الذي يعني  موت الآخر ” الغريم ، الند” .. لكن موت  الآخر يؤدي الى إنبثاق قيمة عامة للحياة ، تتضمن معرفة الكائن بنفسه وبالآخر المقصي ” الميت”.
الموت هنا فكرة جسدية والمعرفة فكرة عقلية ورحية  .. فالميت هو مقصي جسديا بحسب القانون الذي  ُطبق عليه  ..ووفقا لقرار  القضاة الذين نطقوا بالحكم ، المقيد تنفيذه  بآلية  معلومة  الأداة  .. ولكن الموت الجسدي والذي يفسر أقصاءً لجسد الند ، الغريم ، سوف يكون مبعث إنتاج  أسئلة وجودية عميقة جدا  سوف  تطال حقيقة الموت  ذاته كنهاية .
ومن خلال النفي ” الموت” والإثبات ” الموت ” أيضا ..  هناك جملة من التفاصيل  التي يمكن  من خلالها الوصول الى شعور الجاني والضحية  معا ..  لنأخذ مثال المعلم سقراط  الذي قُتل   قبل أكثر من الفين سنة .
ربما كان درس ” جلجامش وأنكيدو” يستحق الريادة في البحث عن سر الخلود  ومحاولة الإنتصار على الموت  بطريقة الحصول الى الأسرار الإلهية  . ولكن  درس سقراط  أهمل تماما موضوعة الخلود الجسدي  وسره .. بل  ذهب سقراط  لتفعيل السؤال الفلسفي عن الوجود والكائن .. وكان سقراط مشاكسا ” ندا”  عنيدا .. لنخبة “أثينا” بكل مستويات إنتاجها العقلي  والعاطفي .
…………………..
مشهد 

الإسم : سقراط بن سوفرونيسكوس ..
الصفة : معلم وفيلسوف  أغريقي  عظيم ..
التهمة :   إفساد عقول الشباب وطرح أسئلة محرجة للجميع .
هيئة الحكم : “ميليتوس” و”أنيتوس” و”بوليقراط”  من الطبقة الأرستقراطية  في أثينا .
نص الإتهام : “إلى متى سيبقى هذا الهرِم الخرِف يثير أسئلته السخيفة ويحاول إحراج الجميع … لم يسلم من لسانه أحد .. لا الشعراء ولا المسرحيون ولا حتى الاستراتيجيون – وهم القيادة العسكرية العليا في أثينا والمكونة من عشرة أشخاص”
وسيلة الإتهام : “في السوق جاء الصوت الجهوري للمنادي حليق الرأس قوياً وواضحاً لفت انتباه الجميع إليه… ووقف يتلو البيانات الرسمية والأحكام القضائية عليهم” سقراط بن سوفرونيسكوس .. إن عليك المثول أمام المحكمة العليا في أديون في الشكوى المقدمة من قبل ميليتوس بن ميليتوس “.
..لم يحرك سقراط ساكناً وإنما أخذ الأمر ببرود وثقة …. وكان المنادي يذيع أحكاما آخرى ” آيونيس بن ستراتون .. متهم بتوجيه الإهانة للأماكن المقدسة المرتبطة بديميترا .. الحكم.. إعدام..
آكريب بن هويسيبوس.. متهم بقطع شجرة الزيتون المقدسة .. الحكم .. إعدام!!..فلان بن فلان .. …………إعدام..”  أحكام قرقوشية  في فضاء السوق .
رأي المشتكين : أحدهم ” إن أكثر ما يقلقني هو حماس الشباب لتبني أفكاره .. ولا أخفيكم أيها الأصدقاء بأن ابني واحد منهم …أنا قلق للغاية…،  أخر يقول :   لقد  سرق سقراط  مني  الأضواء  وأنا الكاتب المسرحي المرموق!!.
الحكم : الموت ..
طريقة التنفيذ: لقد كانت ” المحكمة العليا في أديون” كريمة جدا مع سقراط ، فأعطته خيارات متعدد  لموته .. ” يعتقدون الموت  هو النهاية القصوى للإقصاء / لذا كان هذا العرض السخي “.
سقراط يرفض دعوته  تلاميذه للهرب  ويوافق  على  تنفيذ الحكم ، مختارا ” السم ” كوسيلة لموته ..”
إستدراك:  ” أعتقدُ أن إختيار السم من قبل  سقراط يمثل فعلا مضاد للموت الجسدي الذي اراد الخصوم  له ، لان تناول السم يأتي بطريقة الإرادة الشخصية ”  كأس يتم شربه بإرادة واعية  مشتركة بين الجسد والعقل معا  وليس كالمقصلة مثلا .”
إن سقراط أسقط الموت كعقوبة  من يد الحاكم ، وحوله الى إداة معرفة لادانة الحاكم والانتصار للمعرفة ليس بصفته  ضحية .. وانما بصفته  سؤالا مشاكسا حرا  غير قابل للموت .
…………………………………….
 سؤال  المَتن

لقد أنتج سقراط في موته قيما معرفية في دروب الحق والخير والجمال .. أمات جسده  .. ولكنه حلّق عاليا  في  معرفة النفس ” إعرف نفسك” ..وهو بداية الجدل الإنساني مع خرافة التجهيل ..  تجهيل الآخر بنفسه أولا … اعتمادا على  إعلان مضبّب حول الذات .. اعلان يستمد  قوته من غفلة الأخرين ، ميوعتهم ، وعبوديتهم .. لذا إنتصر سقراط للموت الذي يؤدي الى إثارة الأسئلة بمعرفة الذات مفضلا التواري الجسدي ، ومخلصا الى حقيقة الحضور العقلي والروحي ..
 لقد فضل سقراط الحضور في الذات  وليس على موائد ومسارح الأخرين .. حتى أنه صمت  تماما ولن يتكلم  ويدافع عن نفسه ، لانه كان يعيّ  تماما ان موت جسده ” وهو مطلب المشتكين” سوف لن يحقق لهم ما أرادوه .. لان سقراط أينع أسئلة خصبة في معنى الحوار الجدلي والفعال .. وليس الإصغاء السلبي  لآخرين لا تجربة لهم ولا حياة .. سوى مهمة الاقصاء المنظم للآخر بالحيلة  وسواها ..
كان سقراط يعي تماما  أن كأس السم  لا يلغيه روحيا وعقليا .. بل أن الموت سيكون معادلا لحضور الفكر .. لحضور الجدل والاسئلة . أكثر مما يثيره الحضور الفيزيقي من نتانة وخفة .
.. ومن الطريف جدا أن سقراط طلب من سجانه .. أن يسكب قليلا من السم قربانا  للآلهة .. ولكن السجان رفض وقال له: السم في الكأس  مخصص فقط لموتك .. وبهذا فأن سقراط  قد تناول قربانه كاملا دون شفاعة ..
المعرفة التي أطلقها  سقراط  هي معرفة معجونة بالروح والإيثار  ضد الإقصاء .. ضد وجود الجسد ” ميتا”  بهيئة الحي .  .. المعرفة  التي أثارها سقراط في مجتمع ” أثينا ”  هي  الإنصات الى صوت الروح الداخلي  وليس الإنشغال  بتواطأت  ومخادمات إجتماعية ” نفعية ” .. الإصغاء الى الآخر وفقا لسقراط  يعني التعريف أولا بماهية ” الندّ، الغريم” .. وعندما  سعى سقراط  الى الموت  فانه اقرّ حوارية  من  نمط آخر .. ليس حوار الضحية والجلاد .. ليس  حضور القوي  وغياب   الضعيف . ليس موت سقراط  هو الانتصار أو الضعف ..  بقدر ما هو  إقتراح   لألق الفكرة .إذ ان الفكر لا يمكن أن يموت ..
كان سقراط قد عقد العزم  الإخلاص للسؤال ” لواجبه الفلسفي” ولو كلفه الغياب المؤقت  بوجوده  جسدا .. وهو كان مخلصا لإزعاج السلطات كما يقول ” سارتر ، لاحقا ” إن  مهمة المثقف الأساسية هي ازعاج السلطات” والسلطة مع سقراط هي الآخر الذي لا يمكن الاصغاء اليه  ومحاولة فهمه لانه كان عارفا طبيعة  ” الند”  الذي لا يطرح شيئا للتأمل والمعاينة ، بقدر ما يلزم سقراط والآخرين  بالتسليم  له فقط.
وهذا الوهم الذي يقع فيه الكثير من المنتجين ” المنتفخين بذواتهم” قبل إمتلائهم من الآخر .. هنا  سوف يكون الإصغاء لهؤلاء ضرب من العبث المعرفي والأخلاقي معا .. لانه يشيعون ثقافة ” العبد والسيد” في الإصغاء .. وليس الانتصار الى قيمة الحوار بوصفه إثارة زوابع ، وحلول بركانين ضد  اليقين  الذي يُطرح  بدم بارد وبمعية مريدين سفهاء ، لايملكون  ألسنة  ناطقة وعقول ، بل رؤوس  لا تجيد سوى الإيماءة تصديقا .، والإبتسامة  الباهتة  تسليما .
.. كان سقراط يعرف تماما قبل فولتير ” أن تحرر السذّج من الأغلال التي يبجلونها  قضية غاية في الصعوبة” ..
ولكن عظمة سقراط  تجلّت في أنه  كان  مزعجا  جدا للآخرين.. الذين  لا يمكن الإصغاء لهم  دون مشاكسة وإحراج .. إخلاصا لرسالة  الدرس الفلسفي والإنساني  والتاريخي معا .
لقد مات جسد سقراط  ولكنه بقي خالدا في فكره وأسئلته التي لا تصدأ ..
……………………………..

أحدث المقالات

أحدث المقالات