ما حصل في 30 نيسان المنصرم, يقترب من 10 حزيران 2014, لحظة سقوط الموصل¸ ولعل أزمة الخضراء أقسى من الموصل لو إستمرت؛ إذ إنّ بقائها يعني سقوط الدولة والذهاب إلى مجهول وقيام جمهوريات حزبية وطائفية رغم إنّ حادثة الخضراء قابلة للحل, فالغالبية العظمى من المقتحمين ينتمون لفصيل سياسي منتمي للدولة, غير إنّ الإختراق وارد وقد حصل بالفعل. والمعنى الآخر الذي حرصت بعض الأصوات على إظهاره, هو إنّ أي بضعة آلاف تستطيع في أي وقت أنّ تقتحم مركز الدولة وتعطل الدستور بسهولة, بغض النظر عن أهداف تلك الآلاف القليلة مقارنة بعموم الشعب, بمعنى إنّ فرضية الإنقلاب عادت بلباس حزبي, ويمكن أن تصيغه أي سفارة, ببضعة شعارات والمبررات كثيرة. الزعماء والساسة إنتبهوا لهذه الحقيقة بعد الصدمة مباشرة, وكان للشعارات الغريبة دور في سرعة إستجابتهم. غير إنّ هناك ممارسة مكررة, تزامنت مع الإقتحام أو أعقبته بفترة وجيزة؛ إذ طرح السيد الصدر “الإعتكاف والتجميد” أثناء تلاوته لساعة الصفر. إنّ مفردتي, التجميد والإعتكاف, تقع ضمن قاموس الحلول الطارئة التي يلجأ إليها الصدر, وقد مارس “الإعتكاف” وجمّد (جيش المهدي) سابقاً, وبالتالي يمكننا معرفة ما بعد الحدث, وتقييم الحدث ذاته.. إنّ التركيبة الفكرية للصدر لم ترتقِ بعد إلى مصاف زعيم سياسي قادر على صناعة أزمة أو إدارتها, فهو يستطيع فقط أن يحرّك جمهوره الذي يعد عامل القوة الوحيد لديه, ولهذه النقطة يتوقف ويترك الظروف تتحكم, فإن ساعده الظرف إستمر بحملته إلى الآخر, وإنّ خالفه إنزوى وترك الحل لغيره؛ لا فرق بين الإنزواء والإعتكاف!. بدأ الإنسحاب التكتيكي لحركة الصدر, إذ تحوّلت الإحتجاجات أو الإعتصامات إلى مقار صلاة الجمعة التابعة لتياره, فيما تُرك حل الأزمة للآخرين الذين لم يجاملوه هذه المرة. صدر البيان الأول عن المرجعية العليا, وقد أعربت فيه عن “أسفها لما حصل” بمعنى إنّ المرجعية تأسف وترفض السبب والنتيجة, وتتخذ موقفاً وسطاً بين إعتصام البرلمان وإقتحام جمهور الصدر للبرلمان, وترفض طرح الأزمة بسلة واحدة وفق مبدأ “مع أو ضد”. في اليوم التالي مباشرة, ألقىى عمار الحكيم خطاباً قاسياً على جبهتي (إقتحام، إعتصام) داعياً إلى “تأسيس إئتلاف عابر للطائفية” وموبخاً لفريق المقتحمين معتبراً أياهم “فوضويون” إستهدفوا النظام السياسي ولم يستهدفوا الفساد والمفسدين. الحكيم تحدث بلهجة تشير إلى إمتلاكه عناصر قوة, وكان واضحاً إنّ العنصر الأول هو تماهيه مع بيان المرجعية. بعدها بساعات أعلن الحكيم عن لقاء جمعه بمراجع النجف, وفي أقل من يوم واحد أكدت المرجعية ومن خلال خطبة الجمعة على ما ذكره الحكيم في خطابه, وإنّ لغة التعميم مرفوضة و”على الحكام الإستماع إلى العلماء والحكماء”. أصبحت الصورة واضحة لجميع القوى السياسية, فالأطار الزمني والفكرة الخطابية جمعت المرجعية والحكيم بصورة لا تقبل الطعن، بل إنّ تدخل المرجعية ودعمها لرؤية معينة يعطي تصوراً واضحاً عن خريطة القوى السياسية وثقل ما تمثله. هكذا قرأ خطاب الحكيم، وتأييد المرجعية له بخطاب تأكيد لما قاله ورفضها لمبدأ التعميم وضرورة العزل بين الأضداد. العبادي أول من إستجاب لهذا التطور، عندما عزل مسؤول حماية الخضراء معتبراً ما حصل “فوضى وخرق أمني” وهو بذلك يدين أي محاولة لتقويض شرعية الدولة. رئيس الوزراء فهم الساحة متأخراً، وبالتالي هو سيكون المنفّذ فقط لخطة الخروج من الأزمة دون أي دور حاضر أو مستقبلي. المالكي وللمرة الأولى، يخرج عن سياقه المعتاد ويظهر تخوفه بطريقة تبدو غريبة، إذ دعا إلى الإلتقاء والحوار كأسلوب وحيد وأمثل لحل الأزمة، في إستجابة سريعة لدعوة الحكيم وتهديده، وبهذا أنهى الإعتصام البرلماني الذي تشير المعطيات أن المالكي يدعمه ويقف خلفه. إنّ خطاب الحكيم الذي تضمن إطروحات للحل رفضها سابقاً فريقا (الإعتصام والإقتحام) إرتكز هذه المرة على عوامل قوة مهمة، ولعل صيغة ولهجة الخطاب المختلفة تمثل أول تلك العوامل وتعكس العوامل الأخرى. الإسناد المرجعي أبرز نقاط القوى، ويتجلى في الكلمة الواضحة “نأسف لما جرى” بمعنى إن المرجعية تأسف على النتيجة والسبب بنفس الوقت، وتتخذ موقفاً حازماً يرفض تخريب الدولة ويرفض القفز على الأسباب، وللمرجعية كلمة سابقة في هذا الصدد إذ طالبت بمحاسبة “رؤوس الفساد” طيلة الفترة السابقة، واليوم يكرر الحكيم ذات الطلب بعبارات قاسية على الفريقين. يتضح لنا إتفاق وتكليف شبه معلن، بعد أن تجاوزت الأحداث الحدود المعقولة، وبالتالي قد تكون الحلول غير معقولة لبعض القوى أو بعبارة أدق غير متوقعة. لقد طرح الحكيم مشروع أحياء التحالف الوطني أو إعلان موته وتشكيل تحالف عابر للموكناتية وكأنه يعلن مسؤوليته عن هذا التحالف الذي يعتبر المجلس الأعلى مؤسسه الفعلي. وبالتالي يستطيع تأسيس تحالف جديد مدعوم بقوى الحل والإصلاح وعلى رأسها المرجعية. العامل الثاني هو التوجه الخارجي، والذي يبدو عليه اليأس من إصلاح الأوضاع السياسية في العراق بعد حادثتي الإعتصام والإقتحام وما رافقتها من تصرفات طائشة وروح إنتقامية حزبية. وهذا الخارج لا يستطيع الإستمرار مع تلك التصرفات ولن يستطيع ترك الساحة للآخرين، وبالتالي هو مضطر للتعامل مع الرؤى والأفكار المقبولة التي تحافظ على الدولة ودستوريتها، وربما يتتظر خطوة المرجعية القادمة، والتي أعلنتها، وعندها لن تكون تلك الأطراف إلا مع الدولة والفريق الداعم لها فعلاً وقولاً. والمراد بالخارج هنا، الأطراف الصديقة للعراق والمرتبطة معه بمعاهدات وإتفاقات (أمريكا وإيران).هذه النقطة تحديداً، تستقي معطياتها من مصدرين؛ الخاص والقراءة المنظورة لواقع القوى السياسية وممارساتها، والمخاوف أو الإعتراض والقلق الذي تبديه القوى الوطنية من طريقة (الكسر والإسقاط) والذي قد يُكثر الحديث عن الأقاليم أو الإنفصال الأمر الذي يفاقم الأزمة. الوجه الآخر لهذه العبارة؛ القوى السياسية العراقية تسعى لدعم من تطمأن له وتلزمه العهود. العامل الثالث هو القوى العسكرية الرسمية وتوجهاتها، والمقصود بذلك الحشد الشعبي بقواه الرئيسية، فالحشد يعتبر السند القوي للجيش والقوات الأمنية، ويعود له فضل رد الإعتبار وروح المبادرة للجيش بعد نكسة حزيران ٢٠١٤. أعلن الحشد عن إستعداده للدفاع عن “شرعية الدولة والحفاظ على العملية السياسية”، في سياق الأحداث يتضح إن الحشد يدعم توجه بعينه، وهو يقطع الطريق على أصحاب (آماني العودة)!. كل تلك العوامل، لم تأت عن فراغ أو رغبة بتفضيل جهة على أخرى؛ إنما الإدراك العميق المستند على المعلومة الدقيقة، يؤكد على توائم (الإقتحام والإعتصام) مع رغبات المحور السعودي وبعضها مدعومة بصورة خفية والغاية إنهاء العراق.. هذا لا يعني إن أحدهم عميل، ولكن الخدعة أنطلت، فواجهتها القوى المضادة بوضوح ويبدو لغاية اللحظة إنها أستطاعت الإلتفاف على ذلك المشروع وكسره، عندما أُبعد المقتحمون عن الخضراء، فسقوطها يعني سقوط الدولة العراقية إلى الأَبَد.