23 ديسمبر، 2024 9:28 ص

إعاقة التحول الديمقراطي : من المجتمع المدني إلى الطائفية السياسية  

إعاقة التحول الديمقراطي : من المجتمع المدني إلى الطائفية السياسية  

المقدمة :
لاريب في إن النص المكتوب يحمل بصمات مجتمعه ويستبطن قيم بيئته ويستطلع تخوم وافعه . بمعنى انه ، وان يحاول إضمار نزوعه إلى الشمولية وإخفاء رغبته صوب الكلية ، فهو مشدود باستمرار إلى آنية اللحظة التي تحفزه وراهنية الحدث الذي يثيره . ومن هذا المنطلق فان الحديث عن هموم السياسة وشجون المجتمع في إطار ظروف وأوضاع تمتاز بسيولة الوقائع وانثيال المعطيات ، قمين بمنحنا المسوغات الواقعية والمبررات المنطقية ، لكي نتناول – باقتضاب شديد جدا”- واحدة من أعقد المسائل وأخطرها في واقع الحياة العراقية المعاصرة ، التي كان الحديث عنها وفيها يعد ضربا” من المحرمات السياسية التي يعاقب عليها القانون بدواعي ( الحرص ) على وحدة المجتمع وسلامة كيانه . تلك هي ظواهر العصبيات الطائفية والعنصرية والقبلية ، التي طالما أعتبرت من أبرز ملامح المجتمع العراقي على امتداد تأريخه الاجتماعي ، فضلا عن طبيعة العلاقة – سلبا” أو إيجابا” – بين تلك العصبيات من جهة ، وبين نزوع المجتمع السياسي المتواصل لإرساء دعائم التحول الديمقراطي المنشود ، عبر إحياء مؤسسات المجتمع المدني التي ما أن تشرع بالولادة حتى تجهض من جديد ، تحت وابل من المزاعم الكاذبة والذرائع الباطلة . وعلى ما يبدو فان تداعيات الأزمة البنيوية التي ما انفكت تعصف بأركان المجتمع العراقي جراء أحداث التاسع من نيسان قد فتحت مجددا” ملف هذه القضايا الساخنة أبدا” ، ليس من منطلق التوصل إلى تسوية مشاكلها العالقة بين الأطراف المعنية كما يفترض ، وإنما من باب تفاقم أوضاعها وتسعير أوراها على خلفية مظاهر انعدام السلطة السياسية وغياب مركزية النظام وتعطيل هيبة القانون .
وهكذا آثرنا طرح قضية انكفاء مؤسسات المجتمع المدني وضمور دورها في الحياة السياسية الجديدة ، نتيجة لتفاقم أعراض العصبيات النازعة إلى التحول من كونها أشكال حضارية متنوعة ضمن نسيج المجتمع الواحد ، إلى كيانات سياسية متعددة ومتقاطعة تهدد مدماك الوحدة الوطنية للمجتمع وتضرب بقوة أسس كيانه المتماسك . آملين من خلال ذلك إثارة النقاش وتحفيز الاهتمام حول هذه القضايا / الإشكاليات ، عسى أن يثوب الفاعلين في هذا المجال إلى حس المسوؤلية الوطنية في هذا الظرف العصيب . ذلك لأن المشكلة الحقيقة تبدأ – كما لاحظ بصواب المفكر برهان غليون – (( عندما يصبح لهذا التمايز الثقافي وجود سياسي مميز ، أي تصبح الأقلية أو الطائفية حزبا” سياسيا” وقناة للسلطة . وتتعقد المشكلة أكثر عندما ترتبط هذه الجماعة بقصد الدفاع عن نفسها أو لأسباب تأريخية موضوعية خارجة عن إرادة كل فرد فيها بسلطة استبدادية أو بدولة أجنبية مهيمنة عالميا” ))  . ولأجل توضيح الإطار العام للصورة وتقريب مدلول تفاصيلها، فقد تضمن البحث على ما يعتقد إنها تشكل المحاور الرئيسية التي أسهمت بتبلور هذا المشهد المفعم بالقلق والمشحون بالمخاوف وهي كما يلي :
• شخصنة السلطة ونسييس الطائفة .
• تغليب الانتماء الطائفي وتغييب الولاء الوطني .
• شرعنة الخطاب الطائفي وتكريس القطيعة الوطنية .
أولا”: شرعنة السلطة وتسييس الطائفة ؛
ما من سلطة سياسية تستطيع ، بعد اليوم ، أن تصادر الحق الطبيعي لمكونات المجتمع المدني ، حين تروم التعبير عن خصائصها القومية ، والإفصاح عن تنوعها الثقافي ، والمطالبة بتعيين حقوقها الاجتماعية ، والسعي لتأمين دورها السياسي ، إلا عن طريق توظيف عناصر القسر ، واللجوء إلى أساليب القهر باستخدام العنف المادي والإرهاب الفكري والترويع النفسي ضد أشخاصها ومؤسساتها ، بغية إقصائها سياسيا” وتهميشها اقتصاديا” وتغريبها اجتماعيا” واحتوائها ثقافيا” ، مما يفضي بالسلطة المعنية الإعلان عن إفلاسها السياسي وافتقارها لطابع ( الشرعية ) التي تبيح لها تسويق خطابها وتبرير مواقفها وتسويغ تصرفاتها من جهة ، والإفصاح من جهة أخرى عن تعارضها مع صيغة (المشروعية) التي تجيز لها ممارسة العملية السياسية وقيادة مؤسسات الدولة وأجهزتها على وفق قواعد القانون الأساسي ( الدستور ) والارتكاز من ثم على بقية القوانين السائدة والأعراف المرعية . إذ إن (( النظام الذي فيه يلتهم العنف السياسة – كما يكتب الباحث روبير ريدكر – بحيث تنعدم تماما” كل سلطة سياسية : فيمارس كل من عنف الطبيعة وعنف
التأريخ في محل وبدل القوانين ، والحق ، والسلطة السياسية )) . وغاليا” ما تنجح تلك الأنظمة الاستبدادية لا في قدرتها على لجم تطلعات عناصر المجتمع المدني وتقييد حريتها السياسية وقمع خطابها الفكري وتقويض بنيتها الاجتماعية فحسب ، ولكن أيضا” باستعداء بعضها ضد البعض الآخر بهدف إبقائها رهينة الإحساس بالضعف في حلبة تنافس المصالح ، والعجز في إطار توازن القوى . إلا إن تلك السلطات المتطرفة أو الأنظمة المتصلبة ، لا تلبث أن تواجه أمامها ، إن عاجلا” أو آجلا” ، دوامة المشاكل التي تحاول عبثا” طمسها وإخفائها تارة ، وإهمالها وتجاهلها تارة أخرى ، قد تحولت فجأة إلى عاصفة سياسية مدمرة وتآكل أمني متعاظم ، تكون عواقبها نخر كيان المجتمع المأزوم ، ونسف أسس استقراره الهش ، وتعرية انسجامه الكاذب . الأمر الذي أثبتته على نحو بالغ الدلالة وفائق المغزى أحداث ما بعد التاسع من نيسان ، عقب سقوط النظام السابق . ذلك لأن (( عالم السياسة – كما أجاد الوصف الأستاذ جورج بوردو – هو نظام متحرك وما نسميه استقرارا” اجتماعيا” ليس سوى توازن في القوى .. وان وجود الدولة بالتحديد هو الذي يعطي هذه الجدلية الإطار الذي يسمح في الوصول إلى التجاوز وليس التدمير ))  .
وإذا كان من الطبيعي والمألوف ، من وجهة نظر ديموغرافية / أنثروبولوجية ، إن غالبية المجتمعات الحديثة والمعاصرة – المتقدمة منها والمتخلفة على حد سواء – تشتمل على طيف واسع من التكوينات الاجتماعية والعقائد الدينية التي تعكس تعدد أعراقها وتنوع طوائفها ، بحيث يستدل منها على طبيعة المجتمع المعني ، وتشكل بالنسبة له علامة فارقة يتميز بها قياسا” إلى غيره من المجتمعات الأخرى . إلا انه من غير الطبيعي والشاذ في نفس الآن ، أن تتخلى تلك المكونات عن موقعها السوسيولوجي وتغادر طابعها الرمزي ، حيث تمارس وظيفتها في رأب صدوع المجتمع ورتق تشققاته والحفاظ على مرونته ، لاسيما عند حدوث الأزمات الحادة والمنعطفات الخطيرة ، إلى التطلع نحو استثمار ورقة العصبيات الطائفية والعنصرية والقبلية وزجها في أتون تجاذبات نظام المحاصصة السياسي ، في ظل غياب كامل لدولة القانون وانعدام مؤسسات المجتمع المدني ، لاحتمالات أن يفضي هذا الفعل النكوصي إلى تعويض ما خسرته تلك العصبيات من امتيازات سياسية ، واسترداد ما فقدته من مكاسب اقتصادية ، واستعادة ما أضاعته من فرص تأريخية ، دون الأخذ بنظر الاعتبار أن لا علاقة منطقية تربط بين خصائص المجتمع المدني بكل تنوعاته ، وبين النظام السياسي المنبثق عنه والسائد فيه ، إن من حيث الواجب والوظيفة ، كما إنها لا تراعي إن عملية استعادة الحقوق المهضومة ، والحصول على المطاليب المصادرة لا يستلزم في مطلق الأحوال تسييس النوازع الطائفية واستنفار الرموز العنصرية ، وشحذ التهويمات القبلية ، لوضعها في مسار مواز لمسار مؤسسات المجتمع المدني ، لكي تقاضي النظام التسلطي بالقصاص من المجتمع . صحيح إن سائر الاختلافات الاقوامية / القبلية والتباينات الدينية / الطائفية التي تزخر بها المجتمعات الإنسانية كافة ، تتوق إلى تأكيد ذاتها وترغب بتمييز أناها ، بسائق الاعتزاز بخصائص هويتها الحضارية إزاء سواها من الهويات الأخرى ، لاسيما حين ينحل الرابط الوطني وينفرط عقد الثوابت المعيارية ، إبان فترات الحروب السياسية والصراعات الاجتماعية ، مما يضطرها إلى التخندق خلف روابطها الأولية ، والتشبث بأشكال رموزها الدينية ، والدعوة لتوثيق عراها البينية ، من منطلق إن (( الهويات المهددة في وجودها – كما يشير الأكاديمي والباحث غسان سلامة – أو الساعية لإثبات هذا الوجود ، تبحث عن وسائل التمأسس )) . أي إنها تنحو باتجاه تأكيد وجودها وإبراز فاعليتها من خلال تأطير كيانها وتجسيد قدراتها في مؤسسات تمتلك قوة الفعل وتمارس هيمنة التأثير حيال بقية المؤسسات الناشطة في إطار المجتمع بشقيه المدني والسياسي .
والجدير بالملاحظة إن القيام بمثل هذا النشاط المؤسسي ، لا يعد خروجا” على قواعد المشاركة السياسية وصيغ التآلف الاجتماعي ، طالما انه لا يهدف إلى تعطيل آليات المجتمع المدني ، ولا يسعى لإضعاف حقوق المواطنة . ذلك لأن محاولة زج الشوؤن الخاصة بالطوائف الدينية وسواها في أمور الشأن السياسي العام للمجتمع ، سيفضي بالنتيجة إلى شق وحدة الصف الوطني ، ويقود إلى بعثرة قوى التيارات السياسية العاملة على ضمان سلامة التراب الوطني وصيانة مصالح الشعب . ولهذا ولأجل أن تتمكن الطوائف والعصبيات من فرض حضورها الثقافي وتأكيد حقوقها الاقتصادية وبلوغ أهدافها الاجتماعية ، فانه لا مناص لها من التخلي عن فكرة الخوض في غمار السياسة بواسطة الخطاب الطائفي ، كما ينبغي لها التنحي عن ركوب موجة المشاعر الطائفية لغرض الوصول إلى السلطة . حيث إن ذلك سيرجح الاعتماد على معايير المفاضلة والتمايز فيما بين الطوائف الأخرى على أساس حجمها في بنية النظام الاجتماعي ، وقوتها في الإمساك بخياراته السياسية ، مما سيوؤل لاحقا” ليس الأضرار بوحدة مبدأ المواطنة الذي يشكل مرجعية سياسية موحدة لكل أطياف المجتمع العراقي ، بصرف النظر عن طبيعة الانتماء المذهبي أو الولاء العنصري ، حيث تتاح للجميع فرصة المشاركة في صنع القرار المتعلقة بالمصلحة الوطنية العامة، والتمتع بالحقوق السياسية والاجتماعية
والاقتصادية والثقافية على قدم المساواة ، وإنما إلى بروز نوازع الاستئثار وهوامات التسلط ودوافع العدوان
وعليه فقد وجد الباحث العراقي حسن العلوي في أحد كتبه (( إن الطائفية كالقومية ليست خطرا” إذا لم تتحول إلى استحواذ وتسلط على الآخرين واستلاب هويتهم والتعالي عليهم . إن التمييز الطائفي وليس الانتماء هو الذي يجعل المرء طائفيا” )) .
والحقيقة انه متى ما يبدأ النظام السياسي بالانحراف نحو التسلط على شوؤن المجتمع ومؤسساته ، ويشرع بامتهان القمع المنظم ضد المواطنين ، ويمعن بانتهاك الحريات العامة والخاصة ، ويسرف بمصادرة الحقوق المشروعة لمكونات الطيف الاجتماعي ، حينذاك تظهر عليه علائم التحول باتجاه شخصنة السلطة وأقنمة رموزها ، الأمر الذي يستتبع محاربة الرأي الآخر وإقصائه من المعادلة السياسية ، فضلا” عن مناوئة الاختلاف الفكري والعقائدي بكل أشكاله ، وتضييق الخناق على مكونات المجتمع المدني وكبت إرهاصاتها ، بحيث لم يعد بوسع المعارض سوى اللجوء إلى خيارين أحلاهما مرّ ؛ إما الانضواء تحت خيمة النظام والاندماج بآليات علاقاته الاستتباعية والاستزلامية ، أو معارضته والنأي عن ممارساته ، والتالي قبول لعبة التخفي السياسي والتقية الإيديولوجية في أحسن الأحوال ، وإما التعرض لبطش أجهزته البوليسية وطغيان مؤسساته الأمنية في أسوأها . هنا وفي مثل هذه الأجواء الفاسدة والعلاقات الموبؤة تظهر النوايا السياسية وقد تلبست لبوس الحساسيات الطائفية والضغائن العصبيوية محيلة كيان المجتمع المدني إلى ساحة صراعات ضارية لاستثارة الأحقاد القومية الكامنة وتصفية الحسابات الطائفية المؤجلة على حساب ثوابت الوطن ووحدة المواطنة .
ثانيا”: تغليب الانتماء الطائفي وتغييب الولاء الوطني  
بداية نشير إلى أن حالة الانتماء التي يكون عليها الفرد أو الجماعة ، لا تستولد بشكل تلقائي الإحساس بغبطة الولاء الذي يمحضانه لهذا الحزب أو تلك الطائفة في لاحق نشاطهما السياسي أو الاجتماعي ، برغم إن حقيقة الأول سابقة على الثاني ومتقدمة عليه من منظور أنثروبولوجي محض . إذ إن واقعة الانتماء تعبر عن معطى تأريخي يتسم بطابع الضرورة الاجتماعية / الموضوعية . في حين إن ظاهرة الولاء تتبلور على أساس حضاري يشي بطابع الاختيار الفردي / الذاتي . فالإنسان ، وفقا” لذلك ، لا يختار طبيعة المجتمع الذي يولد فيه ، أو نوع القومية التي ينتمي إليها ، أو نمط الدين الذي يؤمن به . بيد إن انخراطه في حزب سياسي أو انتسابه إلى منظمة اجتماعية أو ضلوعه بنشاط جمعية ثقافية ، يأتي في سياق اختياره الذاتي ورغبته الشخصية ، بعد أن يعتقد و / أو يقتنع بأن تلك الأنشطة يمكنها أن تلبي جزء من طموحاته ، وتنسجم مع بعض ميوله وتطلعاته . وهذه الحقيقة أعطت للباحث العربي (( ناصيف نصار)) المسوغ المنطقي لأن يقول في أحد مؤلفاته ما نصه (( إن الفرد ، من حيث هو عضو في طائفة ، موجود إذن في كيان يحيط به من جميع الجهات . وهذه الاحاطة الشاملة مفروضة عليه بصفة كيانية غير قابلة للنقاش . فهو ( الابن) للطائفة كما هو الابن للعائلة )). على إن هذا الفصل النظري والتمييز الافتراضي لا ينبغي أن يقودنا إلى تفسير ظاهرة الولاء للوطن أو الأمة ، على سبيل المثال ، وكأنها تتعارض مع واقعة الانتماء للطائفة أو العشيرة . فالذي لا يحسن تقدير روابط انتمائه الطائفي أو القبلي ، ويدرك حدود كل منهما بالنسبة لعلاقاته الاجتماعية ، لا يستطيع بالمقابل أن يثمن قيمة ولائه الوطني ويستشعر أهميته في إطار بلورة هويته السياسية . وبالعكس فالذي يسهل عليه التفريط بفروض ولائه الوطني والتخلي عن رموز ثوابته ، لا يمكن أن يضمر الاحترام لطقوس انتمائه الطائفي أو انتسابه العشائري . هذا من ناحية ، أما من الناحية الثانية ، فان الحديث عن ضرورات ارتباط الولاء بالوطن وواقعة الانتماء للطائفة ، لا يعني إن المشاعر الوطنية تنبعث في وجدان المواطن من العدم بغير مقدمات تتداخل فيها الاعتبارات المادية والمعنوية ، لتفصح عن مغزى تعلقه بأصوله العضوية على خلفية رواسب التأريخ والاجتماع والثقافة والدين ، باعتبار إن (( التماهي مع الطبيعة – كما يشير عالم النفس الأمريكي اريك فروم – مع العشيرة ، مع الدين يعطي الفرد شعورا” بالأمان . فهو ينتمي إلى كلّ منظم ويشعر بجذوره فيه ، ويعرف إن له فيه مكانا” أكيدا” . قد يشعر بالجوع والحرمان ، ولكن لن يبتلى بأسوأ أنواع الأوجاع وهي العزلة الكلية والشك )) . كما إن إعلان المرء عن تمسكه بأعراف انتمائه الطائفي وإذعانه للالتزام بها ، لا يعني التنصل عن الولاء الوطني أو التخلي عن ثوابت الهوية السياسية الواحدة .
والواقع إن التجربة التأريخية لمجتمعات العالم الإسلامي بشكل عام ونظيرها العالم العربي على وجه الخصوص ، تشير إلى أن هناك مجموعة من العناصر السوسيولوجية والمكونات السيكولوجية ، تنتظم فيما بينها – عند حصول الأزمات الاجتماعية الحادة التي تستهدف البنية التحتية للخصية الوطنية – على وفق آليات معينة من المدخلات القيمية والمخرجات السلوكية ، لتشكل معادلة حضارية غاية في التعقيد والحساسية ، تتكون أطرافها بصورة رئيسية من مخلفات الانتماء الطائفي وما يترتب على معطياته من جهة،
ومحددات الولاء الوطني ومايستلزمه أولويات من جهة أخرى ، بحيث إن أي تغيير يطرأ على محمولات هذا الطرف أو ذاك ، دون أن يفطن إلى حسابه بدقة ومراقبته بانتباه ، فان مردوده السلبي سيكون كارثيا” ليس فقط على سلامة الوحدة الوطنية المجسدة للعلاقات الاجتماعية القائمة على أساس قيم التعايش ومعايير التضايف فحسب ، وإنما على توافق الانتماءات الفرعية بكل أنماطها الطائفية والقبلية والأثنية أيضا”، لاسيما وان التداخل بين الحدود والاختلاط بين الفواصل بات من الصعوبة بمكان فصلها أو عزلها الواحدة عن الأخرى دون حصول أضرار سياسية ومضاعفات اجتماعية وإشكالات ثقافية .
ولأغراض الدراسة المقارنة يمكننا اتخاذ المجتمع العراقي كحالة واقعية ملموسة ، بعد أن أرهقت كيانه الحروب العبثية ، ومزقت نسيجه السياسات الهمجية ، للقدر الذي لم يكن بوسع منظماته المدنية أن تبادر إلى تأسيس هوية وطنية عامة تكون بمثابة القاعدة / المرجعية لكافة أطيافه وتياراته ، وبالتالي تتيح للجميع فرص الارتقاء بوعيهم التقليدي إلى مستوى إدراك ولائهم الوطني الموحد ، الأمر الذي دفع بكب فرد عراقي إلى تلمس سبيل خلاصه بنفسه والبحث عن حقيقة وجوده بمفرده . ولهذا كانت التكوينات الطائفية والقبلية – برغم عجزها عن بلورة مبدأ المواطنة ، فضلا” عن تقاطعها مع قيم المجتمع المدني – هي الملاذ الوحيد والملجأ الأخير الذي يؤمن له حاجته المادية كشخص ويعزز ثقته بنفسه كمواطن ، مما أستتبع أن تهيمن في وعيه قيم الماضي على الحاضر ، وتستبعد هموم الحاضر إزاء انشغالات الماضي . وصار الوضع شبيها” بما وصفه المفكر المغربي ( محمد عابد الجابري ) بقوله (( في ميكانزم الدفاع تلجئ الذات إلى الماضي ونحتمي به لتؤكد من خلاله وبواسطته شخصيتها ، ولذلك يعمد الإنسان إلى تضخيمه وتمجيده مادام الخطر الخارجي قائما”. أما في ميكانزم النهضة فالإنسان لا يطلب الماضي بذاته بل يختزله في ( أصول ) يعيد إحيائها على صعيد الوعي ، بالصورة التي تساعد على تجاوز الماضي والحاضر ، على صعيد الوعي كذلك ، والانطلاق إلى المستقبل ، تفكيرا” وممارسة )) . ولهذا نجد إن الطائفة أو القبيلة تتحول ببطئ ولكن باستمرار من حاضنة اجتماعية لتلقين القيم الدينية وغرس المبادئ الأخلاقية ، إلى مؤسسة سياسية تتطلع نحو السلطة عن طريق تسييس الدين وتوظيف رموزه في السياسة ، الأمر الذي يسوقها – كما لاحظ الكاتب اللبناني جوزيف مغيزل – إلى أن تضع (( بين المواطنين وبين الدولة والوطن تبعية وسيطة ، هي التبعية الطائفية . لا تملك ، لا بل تضع التبعية الطائفية قبل التبعية الوطنية ، وبالنتيجة تحل التبعية الطائفية محل القومية ، وبالنهاية يحول ذلك دون بلوغها كجماعة مستوى الوجدان أو الوعي القومي )) .
ولأن الولاء الوطني يستلزم – لكي يسنوطن عقل المواطن ويمتلك جوارحه – تجاوز النعرات الطائفية والتخلي عن التنابذات العصبية والسعي لتخفيف حدة خطابها التعبوي ، المبني على المفاضلة المناقبية وتغليب المطالب الجزئية والجانبية على حساب المصالح الكلية والأساسية ، فان الحركة الطائفية لا تملك ، بما هي كذلك ، سوى التأكيد على أهمية الانتماء الطائفي والتركيز على خصوصية الهوية الطائفية ، وذلك عبر إحياء الموروث الديني في المخيال الشعبي باستخدام الرموز والشارات وإقامة الاحتفالات والمهرجانات ذات الطابع الفولكلوري ، ناهيك عن التعويل على تأثيرات السير الشخصية والملاحم البطولية للشخصيات الكارزمية التي تحمل مغزى سلطان المقدس وهيبة المتعالي في بنية الوعي الجمعي لأفراد الطائفة المعنية  مما يمنحها أفضليات ليس فقط القدرة على التمأسس في تجمعات أو منظمات حزبية ذات طابع شبه عسكري يتمتع بمستوى عال من الانضباط والالتزام فحسب ، ولكن أيضا” قوة الشعور بالتواصل والترابط والتوحد ، لا بل التماهي في الحالات القصوى إزاء غيرها من الطوائف الأخرى ، التي يفترض إنها سلكت نفس السبيل وسيقت إلى ذات المنزع الطائفي لعقلنة طروحاتها وأمثلة أهدافها .
ومع اشتداد أزمة المجتمع المدني ، وتآكل مبدأ المواطنة ، وانشطار وحدة الهوية ، تأخذ العلاقات الطائفية المشحونة بالأضاليل الإيديولوجية والمشوبة بالمغالطات التأريخية ، طابعا” يساعد على تغيير المواقف وانقلاب الأدوار . إذ بدلا” من أن تكون الطائفة أو القبيلة لبنة أساسية في كيان المجتمع لتماسك وحدته وترابط علاقاته وتعظيم قيمه ، على الأقل لحين تجاوز محنته وتخطي كبوته ، فإذا بها تسهم في نسف أسسه وتصديع مقوماته وتمزيق نسيجه ، بحيث يكون السعي باتجاه تغليب الانتماءات الفرعية وتغييب الولاء الوطني ، هو المثل الأعلى للطائفية السياسية المدججة بأفكار التعصب ضد قيم المجتمع المدني ، والتطرف ضد رموزه ومؤسساته ، مما يعتبر بمنظور التحول الديمقراطي خطوة نحو الانكفاء الاجتماعي والتقهقر الحضاري والانحدار صوب جاهلية الأنا ضد الآخر .
ثالثا: شرعنة الخطاب الطائفي وتكريس القطيعة الوطنية 
في المجتمعات التي من النمط التقليدي البكر ، حين تنعدم مظاهر السلطة السياسية ويختفي وازع القانون الوضعي ، فان الضرورة الوجودية تلجأ تلك المجتمعات إلى الاعتماد على رصيد خبرتها الذاتية، واللجوء إلى
موروث قيمها الخاصة ، لابتكار ما يناسبها من ضوابط عرفية ويلائمها من أنماط سلوكية ، تتخذ منها معايير قارة لتصريف شوؤنها الداخلية ومرجعيات ملزمة لتنظيم علاقاتها الخارجية ، طالما إن أمور المجتمع – أي مجتمع وبصرف النظر عن مستوى تطوره ودرجة تعقيده – لا تستقيم إلا من خلال سلطة شرعية آمرة ، تتخطى جميع الاعتبارات القائمة على أساس الجاه الشخصي والنفوذ الفردي ، لأجل أن تستتب مظاهر الأمن وتعم أوضاع الاستقرار في ربوع المجتمع . عند هذه المرحلة المفصلية تبرز الحاجة إلى وجود نمط معين من أنماط السلطة تواضع علماء الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع على وصفه بالسطة ( المجسدة ) تمييزا” لها عن مفهوم السلطة ( المؤسسة ) ، حيث تظهر – كما يرى أستاذ العلوم الإنسانية جان وليم لابيار – (( في كل مجتمع يكون في البداية مغلقا”، ثم يدخل في تماس واحتكاك دائمين مع جماعات أخرى ، ويرسي معها علاقات منتظمة . هذا الانفتاح يحصل عن طريق الجوار ، أو المبادلات ، وحتى النزاعات ، أي باختصار عن طريق كافة العلاقات الاجتماعية ، السلبية أو الايجابية ، التي يمكن أن ينشئها هذا المجتمع مع المجتمعات الأخرى )) . وغالبا” ما يرتكز هذا الضرب من السلطة على قاعدة اقتصادية ذات طابع ديني ، تتشكل ملامحها عن طريق ظاهرة ( البوتلاج ) – وهو احتفال ديني ذو صبغة اقتصادية ، حيث تتبادل الجماعات من خلاله الهدايا والهبات لإظهار قوة الجماعة وشدة بأسها – التي تحرص على ممارستها معظم المجتمعات البدائية عند مفتتح علاقاتها الاجتماعية مع الآخر ، على أساس قيم المغايرة والتخالف التي نشأت عليها في غابر عصورها الطوطمية الأولى .
وحالما نيمم وجهنا شطر المجتمعات الحديثة لنلج عوالمها المأخوذة بالجدليات الاجتماعية الناشطة ، ونستقصي علاقاتها المنهمكة بشتى ضروب التنوع الأقوامي والتعدد الديني والتداخل الاجناسي ، لاسيما في مجتمعات بلدان العالم الثالث ، سنقع على مجموعة من الدلائل الثقافية والمؤشرات القيمية التي تظهر انه برغم تخطي هذه الأخيرة لعتبة طفولتها الحضارية وشروعها بالنهوض في مضامير البنية التحتية ، بعد أن استكملت مقومات كيانها الوطني وبلورة مشاعرها القومية ، إلا إنها ما برحت تعاني وعلى أكثر من صعيد مخلفات ماضيها العشائري وراسبها الطائفي وانشدادها الأثني ، خصوصا” عند تعرضها لأية أزمة طارئة سواء أكانت دوافعها داخلية أو خارجية . إذ سرعان ما يتشظى المجتمع المعني وتتقهقر مكوناته إلى أصولها العصبوية ( عنصرية أو دينية ) لتلتمس عونها وتحتمي بقيمها خشية التعرض لتبعات التهميش الاجتماعي والإقصاء السياسي . وعلى هذا يؤكد الباحث اللبناني ( جورج قرم ) إلى انه من (( الثابت بالفعل ، إن كل شعب يعبّر عن تدينه وفقا” لوحه الخاصة ، فإذا ما وقع هذا الشعب ضحية اضطهاد جماعة قومية أو اجتماعية أو سياسية أقوى منه ، أخذ تمرده شكل توكيد متعصب لنزعة خصوصية دينية تعبّر عن مزاجه القومي أو الاجتماعي إذا ما وقع الاضطهاد على طبقة اجتماعية أو الأثني إذا ما وقع على جماعة أثنية )) .
وإذا ما نظرنا إلى واقع المجتمع العراقي وحاولنا تقييم أوضاعه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية ، من خلال الأزمة التأريخية التي ضربت مرتكزاته الأصولية ، وطبيعة التداعيات الهيكلية الناجمة عنها منذ لحظة أفول النظام السابق ولحد الآن ، فإننا لن نجد – خلافا” لكل ما يقال  أو يعلن لأغراض الاستهلاك الإعلامي – سوى مجتمع تصدعت بنيته ، وتحطمت أنساقه ، وتفككت روابطه ، وتخلعت أصوله ،وتذررت مكوناته ، على نحو بات يثير العديد من التساؤلات حول حقيقة وجود هوية عراقية موحدة أصلا”.
فعلى وقع جلبة الانفلات الأمني ، والانهيار السياسي ، وتلاشي هيبة القانون ، وانتشار حمى الجريمة بكل أنواعها ، وتفشي أوبئة السلب والنهب ، وطغيان نوازع العنف والعدوان بكل تجلياته المادية والرمزية ، بحيث أمسى بأمكان كل فرد ومهما كان شأنه أن يسن قانونه بنفسه ، ويشرّع أعرافه على طريقته ، ويبرر تصرفاته بوحي من مصالحه ، دون أن يخشى من مواجهة أي رادع قانوني أو وازع أخلاقي أو مانع ديني . إذ أصبح كل شئ جائز من وجهة نظر هذا الطرف أو ذاك ، فضلا” عن كونه مباح تعاطيه على وفق صيغة الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز (( حرب الجميع ضد الجميع )) ، الأمر الذي جعل أصوات الطوائف وضجيج العشائر وصخب العصبيات الأخرى لا يعلو فقط على صوت الضمير الوطني الخافت والمستغيث فحسب ، وإنما تعمد لإخراسه وإسكاته ، وان أمكن استئصاله جذريا” من المعادلة الاجتماعية برمتها .
وإذا ما سلمنا برأي أستاذ علم السياسة ( جورج بوردو ) الذي يذهب فيه إلى أن أي مجتمع (( غير قابل للحياة دون حد أدنى من التفاهم بين أعضائه ، ومن الاتفاق الذي يترجمه الانتماء إلى القيم الأساسية التي تؤمن البنى الاجتماعية وضعها موضع التنفيذ )) ، أدركنا حجم الكوارث وطبيعة المآزق التي ستواجه الشعب العراقي بكل ألوان موشوره الاجتماعي قبل القابل من أيامه ، ما لم يصحو من ثمالة زعرنته المستديمة ويتحسب لعواقب تصرفاته المدانة . فلا يحسبن البعض ممن غشية أبصارهم المنافع العجلة ، وأعمت بصائرهم المطامع الآجلة ،إن مراكب العنصرية والطائفية والعشائرية التي اختاروها سبلا”شتى لبلوغ تلك 
المآرب ، سوف لن تعصمهم من طوفان الموجة الاستعمارية العاتية التي ما فتأت نذرها تتجمع في الأفق .
وعلى وفق آلية الحراك الاجتماعي الذي لا تسير ديناميته مقاصد الإرادة الواعية بقدر ما تتحكم باتجاهاته أفعال الضرورة العمياء ، يفقد المجتمع السياسي مركز توازنه وينحرف عن ناظم إيقاعه ، بعد أن تتخلى سلطة الدولة عن طابعها المؤسسي وترتد خطوات إلى الوراء كسلطة مجسدة للجماعات العصبيوية النافذة . كما إن قدرتها على إدارة دفة الصراع بين القوى وضبط مستوياته ضمن حدود الجدلية الاجتماعية ، تشرع بالتآكل تدريجيا” وتضمحل طردا” مع استفحال بواعث الأزمة وتفاقم وطأتها . إذ إن (( كل انسداد في النظام السياسي – كما عبر عن ذلك المفك السوري برهان غليون – يخلق انفجارا” في المجتمع المدني ويؤدي إلى نشوء عصبوية مغلقة )) .
ولأن أواصر وحدة المواطنة هي بالأساس ضعيفة نسبيا” إن لم تكن مفقودة أصلا” ، بفعل الممارسات الخاطئة للأنظمة السياسية المتعاقبة ، فضلا” عن إعراض النخبة المتعمد في بذل ما يستحقه مشروع معمار الهوية الوطنية الموحدة المنوط به استيعاب وتمثل كل أطياف التكوينات الاجتماعية والحضارية المتآخية عبر السنبن ، بصرف النظر عن كثافة أعراقها وطبيعة أديانها وتلاوين طوائفها وأهمية لغاتها . فقد استيقظ على حين غرة الحس الطائفي من رقاده بكل عنفوانه واشرأب خطابه النشاز بكل جرأته ، ليطرح على الساحة السياسية تحديا” جديدا” يعادل في خطورته وجسامة عواقبه كل التحديات التي ما برح العراق يواجه ريحها الصفراء من شتى الاتجاهات الإقليمية والدولية ، وكأنها لعنة أبت إلا أن تجهز على صروحه الاجتماعية والحضارية والتأريخية والثقافية والدينية .
والحقيقة إن المشكلة لا تكمن في وجود الظاهرة الطائفية وسواها من العصبيات الأخرى بهذه الكثافة الملفتة للنظر ، تعبيرا” عن الطبيعة الفسيفسائية للمجتمع العراقي ، كما لا يشكل انتظامها وتنظيمها بهذه الطريقة الصارخة والباعثة على القلق ضد وضع وجدت نفسها فيه محاربة من حيث الإفصاح عن خصائصها ومقموعة من حيث التطلع إلى حقوقها لأسباب باتت معروفة ومفهومة . ولكن المشكلة تكمن في إنها تحاول صب جام غضبها المزمن وتطلق حمم كبتها المتراكم على ما يعتبر رموز هويتها السياسية بالذات وثوابت ولائها الوطني بالتحديد ، الأمر الذي يشي بانبعاث سابقة حضارية خطيرة لم يألف وجودها تأريخ المجتمعات المأزومة من قبل . حتى بالمقارنة مع إسقاطات التجربة المريرة للاتحاد السوفيتي السابق ، اثر سقوط الدولة الشيوعية وانفراط عقد مكوناته القومية والدينية واللغوية ، ناهيك بالطبع عن خلاصة فرشة واسعة من تجارب المجتمعات الأفريقية والآسيوية التي أكتوت بنار الصراعات العرقية وتعفرت بسموم الحساسيات الطائفية . لا بل على العكس من ذلك تماما” فان استمرار تداعيات تلك التجربة المذكورة على الصعد كافة ، قمينة بإعطاء القوى السياسية العراقية – المتكالبة على الظفر بأي مكسب ومهما كان الثمن – بعضا”من الدروس الضرورية في انتهاج الكيفية الملائمة لنبذ النعرات الطائفية ، والتخلي عن التناحرات العنصرية ، والتغلب على المهاترات القبلية ، ورأب صدوع الوشائج الاجتماعية ، وتفادي حصول القطيعة الوطنية ، حيث الخسران المبين للجميع . وقد أصاب الأستاذ ( جورج بوردو ) كبد الحقيقة حين قال : (( ماذا يفيد أن يكون الإقليم وطنيا” إذا كانت القلوب بلا جنسية وطنية ؟ )) .
وعلى خلفية هذه المشاهد المأساوية التي تكتنف الواقع العراقي بكل ضراوة ، وتخترق بناه وأنساقه أفقيا” وعموديا”بكل حدة ، فان الضرورة المصيرية تستلزم من النخبة العراقية – طالما إن الجمهور العام لا يزال يرسف في أغلال عبودية الوعي الشقي – بمختلف قطاعاتها وتنوع تخصصاتها ومشارب أفكارها وتعدد اتجاهاتها ، لاسيما الغيورة منها على ولائها الوطني والحريصة على هويتها السياسية ، ليس فقط الاهتمام بدراسة أسباب تفشي هذه الظواهر وتلك العلل ، والانكباب على تحليل أنماطها واستخلاص حصيلة نتائجها على مستوى العلاقات الاجتماعية المضطربة والمشاعر النفسية الملتهبة فحسب ، بل إن الأهم في إطار هذه المرحلة الحرجة هو الإسهام المجرد من الهوى بإيجاد السبل الكفيلة بتحجيم تأثيرات الخطاب الطائفي وكل أنواع الخطابات العصبوية المبثوثة في السايكولوجيا الاجتماعية المسكونة بهواجس الماضي والمعبئة بمخاوف المستقبل من جهة ، والمثابرة من جهة أخرى على حث وإقناع العناصر الوطنية المشتتة ، التي غالبا” ما تنظر بعين الرضى لمواقف نخبها وتميل إلى احترام آرائها ، على لم شعث تمزقها ، وتخطي حواجز فرقتها ، والسعي نحو تماسك لحمتها ، من خلال التأكيد على حقيقة إن (( الطائفية ليست الدين ولا التدين – كما أوضح المفكر برهان غليون – وإنما هي بعكس ذلك تماما” إخضاع الدين لمصالح السياسة الدنيا ، سياسة حب البقاء والمصلحة الذاتية والتطور على حساب الجماعات الأخرى )) .