” الطريقة الوحيدة لمواجهة الحالة القصوى لهذا الوضع هي بقبولنا التام بتجريب الاحتمالات الجذرية الصعبة القادمة وتحمل ما يترتب عليها من قضايا”1[1]
لا يزال الناس في تخبط حول وجهة العالم المعاصر وطبيعة المرحلة ونوع الأهداف والوسائل التي يمكن إتباعها ولا تزال الضمائر تتبنى الحقائق المثالية والمغالطات والافتراضات والاعتقادات عن نظام الحكم
إذا كانت الهيبة السياسية تتشكل بواسطة تنظيم المراسم وتخليد الذكرى والابتعاد عن التشنج وإذا كانت التحولات الاجتماعية نتيجة انتقال الحكم من نظام سياسي إلى آخر تفرز الفراغ والتردد وإذا كانت التوترات الاجتماعية تظهر بسبب منح الامتيازات وتكريس الهرمية فإن ترتيب الشأن العام يتطلب إتباع أصلح الأنظمة وإقامة العدل وفرض المساواة وترسيخ البعد المدني في الفكر والسلوك لدى الناس وإشاعة السلم الأهلي وانتقاء الأخيار وتحميل المسؤولية إلى الأكفاء وكسب التأييد لبلوغ الاستقرار وطلب النماء.
ليست سيطرة المركز على المرافق العامة بواسطة الإدارة والأجهزة المتخصصة هو القاعدة التي تحقق التوازن بل الحكم المركزي هو الاستثناء الذي يسمح للسلطة بالانتشار في الأقاليم في ظروف انتقالية قصد التغلب على الصعوبات والنواقص والقيام بمهمات تنقل الفئات الاجتماعية من وضع التصادم إلى التنافس.
ليس تقليد الخطط هو الأمر المعمول به في النظم السياسية الناجحة بل إتباع أنماط جيّدة من البناء تجعل حياة المواطن في المدينة مزدهرة وتقيم جملة خيارات دقيقة تعمل على تلبية الاحتياجات العامة وتحقق الإنتظارات وفق معالجة جذرية للمشاكل المستعصية تقوم بتغيير حاسم لصورة الدولة في ذهن المواطن.
هكذا يراهن التأسيس الأنثربولوجي للسياسة على ضمان الاختلاف داخل الوحدة ويقوم ببناء جسور التواصل مع الغير في قلب الهوية ويتوجه بشجاعة نحو تشييد عالم جديد يسعى نحو السعادة ويستطيع أن يصنع من نفسه ما يريد وتتعايش ضمنه العقيدة والثقافة والعلوم ويكون فيه القانون الصلة بين الشعب والأرض ويقوم بتحرير كل القوى الايجابية ويقاوم النزعات التدميرية ويقضي على التشرذم الطائفي.
لا يتقدم الناس في مسار التحديث إلا بدمج الحاجيات الاقتصادية ضمن العواطف الأخلاقية خارج اقتصاد المنزل وضمن سوسيولوجيا الفضيلة ولا يبلغوا عصر الأريحية إلا إذا حول الميولات الدينية إلى علم سياسة الحرية وأطروا الانشقاق الراديكالي في تنوير جمهوري وجعلوا من اقتصاد العمل ديانة اجتماعية.
على هذا المنحى يمكن أن تكون مصادر البناء عند ممارسة الحكم عديدة ومبتكرة اذا ما استفادت من مخزون التراث الحي وقدرات الذاكرة الجامعية على الدمج والاسفاقة وعندما تعمل على شخذ درجة التلامس بين الثقافات وتركز على تأثير الثقافة والفنون والدعاية في الانعطاف نحو قيم جديدة تقطع من التخلف والوحشية والتفتيت والاختفاء والتراجع وتدشن نقطة الانطلاق وتحقق الأمل بالنسبة للعاطلين.
لقد تبقى للمرء أشياء كثيرة مطالب بأن يتعلمها ويقوم بها ومن بينها استكشاف الذكاء الفريد للعقل وشحن الوعي بالتعقيد البسيط والفوضى المنظمة والتعويل على الذكاء البشري وانجاز ما يفوق مهارات الآلات.
” الحوار في بعض الأحيان غير صحيح في وضعية نزاع رغم أن بعض السياسيين يعتقدون أن هذا أمر أساسي للتقدم…. النضال من أجل التحرر من الاضطهاد غالبا ما يكون بالضرورة عملية مؤلمة”2[2].
تغيير الأساليب المتبعة في تحصيل التحضر هو الأمر الذي يمكن للمرء أن يفكر به بجدية في بداية كل منعطف اجتماعي ولتلبية مستلزمات الاستحقاق السياسي للثورة.
المرجع:
1 سلافوي جيجيك ، مقدمات، ترجمة حسام الدين محمد، دار المتوسط، ميلانو، ايطاليا، طبعة أولى، 2016.ص38.
2- سلافوي جيجيك ، مقدمات، مرجع مذكور، ص139.
كاتب فلسفي
[1] سلافوي جيجيك ، مقدمات، ترجمة حسام الدين محمد، دار المتوسط، ميلانو، ايطاليا، طبعة أولى، 2016.ص38.
[2] سلافوي جيجيك ، مقدمات، مرجع مذكور، ص139.