20 مايو، 2024 8:02 م
Search
Close this search box.

إطلالةٌ من نافذةٍ على جدار الغربة

Facebook
Twitter
LinkedIn

“عرب وين … طنبورة وين” … مثلٌ عراقي شائع من التراث الشعبي العراقي قِيلَ بعد حادثة واقعية طريفة. أصبحَ هذا المثل فيما بعد كثير التداول في المجتمع العراقي للدلالة على الإختلاف الشاسع بين حدثين بينهما قواسم مشتركه من نوعٍ ما. كما يضرب المثل للشخص الذي لا يعي ما يقالُ لهُ أو لايفقهُ ما يحدث من حولهِ.لا أعرف كيف ولماذا خَطرَ في مُخيلتي هذا المثل وبشكل لا إرادي وأنا أُتابع مجريات احداث الإنتخابات البرلمانية الفدرالية الأسترالية الأخيرة و أُقارنها بما حدث ويحدث في العراق “الجديد”. مما دعاني الى تدوين خواطري في هذه الأسطر القليلة، والتي هي “غيضٌ من فيض” للتعبير عن حالة الاحباط لا بل اليأس الممزوجة بالحزن والألم على كل ما يجري في بلدي وعلى شعبي وأهلي. وهذه الأسطر هي أيضاً صرخات إدانة لكل التصرفات الهجينة التي يمارسها “ساسة” العراق “الجديد”، بالمقارنة بممارسات أرباب السياسة والقادة في بلدان العالم المتحضر.
أسفرت النتائج الأولية للإنتخابات البرلمانية الفدرالية الأسترالية التي جرت يوم السبت الموافق السابع من أيلول عن فوز تحالف حزبي الأحرار والوطني بأغلبية ٨٨ مقعداً مقابل ٥٤ مقعداً للحزب الحاكم (حزب العمال) من مجموع الـ ١٥٠ مقعد التي يتشكل منها البرلمان الفدرالي الأسترالي. ومن المتوقع أن يُحسم موضوع توزيع المقاعد بشكل نهائي في غضون الأيام القليلة القادمة حالما يتم ألفرز ألنهائي لأصوات الناخبين.
فتحت مراكز الاقتراع أبوابها في تمام الساعة الثامنة صباحا وأُغلقت في تمام الساعة السادسة مساء. كانت هناك تغطية واسعة لمجريات الأمور أولاً بأول من قبل محللين سياسيين وخُبراء الإعلام  في العديد من محطات التلفزيون. فيما لم تأبه محطات أخرى بالحدث وكانت تبث برامجها الاعتيادية مثل رياضة كرة القدم الأسترالية المحببة لدى شريحة كبيرة من الشعب الأسترالي.
الشارع الاسترالي في يوم التصويت كان هادئاً كالمعتاد مثلما هو الحال في كل يوم سبت أول ايام عطلة نهاية الأسبوع، ما عدا طوابير منتظمة على أبواب مراكز الاقتراع ويافطات وبوسترات رُفعت لدعم هذا المرشح او ذاك او هذا الحزب او ذاك اضافةً الى وجود عدد قليل من منتسبي الأحزاب للترويج لمرشحيهم على ابواب المراكز.
بدأت صورة النتائج الأولية للانتخابات تتضح شيئاً فشيئا في الساعات الأولى مباشرةً بعد إغلاق مراكز الاقتراع مع تتابع وصول نتائج العد والفرز من مراكز الاقتراع في عموم القارة المترامية الأطراف لتبث من على شاشات التلفزيون التي تغطي الحدث. وما ان تجاوزت الساعة الثامنة بقليل (أي في غضون ساعتين من إغلاق المراكز الانتخابية) حتى بدت الصورة تكتمل لتظهر بوضوح تفوق ائتلاف الأحرار / الوطني على منافسهما الحزب الحاكم ( حزب العمال).
لا اخفي دهشتي وانبهاري للسرعة الفائقة والمهنية العالية التي تم فيها وصول النتائج الى المركز الرئيسي للعد والفرز ومن ثم تحليلها بشكل أرقام وبيانات وبتفاصيل دقيقة على مستوى المرشحين والأحزاب والولايات الى أصغر المراكز وبالشكل الذي يسهل على المتتبع استيعابها وفهمها.
 وما ان اقتربت عقارب الساعة من التاسعة مساءً حتى ظهر رئيس حزب الأحرار (Tony Abott) فرحاً مبتسماً ليعلن على الملأ وأمام عدسات التلفزيون وجموع ممثلي الإعلام فوز ائتلاف الأحرار / الوطني واندحار حزب العمال الحاكم. كما أعلنَ بانه سيعدُ العُدة مع فريق العمل في الإتلاف ليتسلم مقاليد الحكم كرئيس وزراء استراليا الجديد.
ياللدهشة مرة اخرى!!! كيف يمكن لهؤلاء ان ينجزوا كل هذا وبدقة عالية وفي غضون ساعات ويتمكنوا من إعلان النتائج الأولية في نهاية اليوم ليحتفل من يفوز … ويتقبل الخاسر الهزيمة؟
وأنا في لحظات الدهشة هذه سرعان ما جال في خاطري شريط الانتخابات العراقية الأخيرة ومسلسلات التزوير والتشكيك والطعون عدا الدماء التي سالت والأرواح التي اُزهقت،والتي استمرت اسابيع او ربما اشهر (لا أكاد أتذكر)، ولحين التوصل الى صفقة مصالحة مقيتة (ارتأى السياسيون أن يطلقوا عليها مصطلح المحاصصة) والتي أًفقدتطعم المشاركة في الانتخابات لدى الكثير من العراقيين.
دعوني اعود الى الإنتخابات الأسترالية وهو موضوعي الأساسي، وبالتحديد الى كلمة السيد ( Tony Abbott). فقد استهل السيد ( Tony Abbott) كلمته التي استغرقت مايقارب ١٢ دقيقة بتأكيد تعهده للشعب الأسترالي بشكل عام بتنفيذ وعودهُ الانتخابية وتشكيل حكومة كفوءة قادرة على تلبية طموحات الشعب الأسترالي.
وفي معرض حديثهتقدم السيد ( Tony Abbott) بالشكر والإمتنان الى رئيس حزب العمال ورئيس الوزراء السابق (الخاسر) السيد ( Kevin Rudd) والجهود الكبيرة التي بذلها مع فريق عمله في إدارة شؤون البلد خلال الفترة السابقة.
وفي لحظة مقاربة ظهر رئيس حزب العمال ورئيس الوزراء (المهزوم) ( Kevin Rudd) ليعلن للملأ  وأمام عدسات المحطات التلفزيونية بانه قد خسر في الإنتخابات وأنه وفريق عمله بذلوا ما بوسعهم من جهود لكنهم فشلوا في إقناع الناخب الأسترالي في أنهم الأفضل في قيادة البلد في المرحلة القادمة. كما أعربَ عن شكرهِ لكل الذين صوتوا له ولحزبه ووعد الآخرين الذين لم يصوتوا لحزبه بان الحزب سيعمل كي ينال ثقتهم في السنوات القادمة ولحين الدورة الانتخابية اللاحقة. كما اعلن بأنه سيتخلى عن دوره في قيادة حزب العمال في المرحلة القادمة ليترك الدور لمن يختاره الحزب ويقتنع بأهليته لهذا الدور.
والجميل في الأمر ان السيد رئيس الوزراء (المهزوم) ورغم مرارة الخسارة والشعور بالإنكسار ذكر في معرض حديثه الذي قارب النصف ساعة بأنه قبل ظهوره الى ممثلي الإعلام كان قد اتصل بالسيد رئيس حزب الأحرار (الفائز) -Tony Abbott- ليهنئه بالفوز وليتمنى له الموقفيه في أداء رسالته في خدمة الشعب الأسترالي. كما اعلن السيد – Kevin Rudd – أيضاً بانه وزوجته يتوقان لاستقبال السيد -Tony Abbott- كرئيس جديد للوزراء في السكن المخصص له قبل ان يغادر هو وعائلته هذا المسكن المخصص لرئيس الوزراء ليعود للسكن في مسكنه الأصلي في منطقته الإنتخابية.
يذكرني هذا الموقف بحدثٍ ليس بالبعيد حين رفض احد المسؤولين بمستوى رفيع جداً في دولة العراق “الجديد”، رفض التخلي عن السكن المخصص له كمسؤول (وليس كشخص)، بعد ان فقدَ موقعه نتيجة صفقة المحاصصة المقيته ولسوء اداء المؤسسة التي كان يديرها حينذاك. كان لسماع هذا الخبر (الذي نقله شخص في وسط الحدث)، وقع الصاعقة على نفسي كوني كنتُ حينها اُصنفُ هذا المسؤول بأنه على قدرٍ عالٍ من الورع والمسؤولية والوطنية ونكران الذات و (الشفافية).
ان الساسة الأستراليين في ممارستهم الديقراطية هذه يضربون للعالم المتحضر (قبل العوالم الأخرى) مثلاً عالياً في ترسيخ قيم الديمقراطية الحقيقية والتعامل مع إرادة الشعب وتداول السلطة بأعلى درجات التحضر والمسؤوليهوأسمى معاني الوطنيه.
لقد اختلف الطرفان في كل شيء، اختلفا في المنهج، واختلفا في برامج وأساليب العمل في ادارة البلد حين كان احدهما في موقع الحاكم وكان الآخر في موقع المعارض. وحين قال الشعب كلمته عبر صناديق الإقتراع كان عليهما ان يحترما ارادة الشعب ليتبادلا الأدوار ليصبح بعد ذلك وبإرادة الشعب الحزب المعارض في سدة الحكم ويتنحى الحزب الذي كان حاكما ليأخذ دور المعارضة، وكل ذلك تحت خيمة حب البلد وخدمة الشعب. ويبقى فوق هذا وذاك ان الشعب هو صاحب الإرادة في التغيير وما على السياسيين إلا احترامها.
وما أجمله من مشهد يسمو بمعانيه حين يتقدم بالشكر رئيس الحزب الفائز ويشيد بدور رئيس الوزراء (الخاسر) واصفاً إياه بأنه قد أدى رسالته من خلالالقيام بواجبه الوطني باخلاصٍ وتفانِ … ويزداد المشهد روعة وجمال حين تصل اول التهاني لرئيس الحزب الفائز من قبل رئيس الوزراء (المندحر) ليتمنى له الموفقية في أداء مهمته القادمة في خدمة الشعب والبلد … وهما في هذه الممارسة الراقية يضعان خلافاتهما جانبا ليضيفا الى المشهد درجة أخرى من الرقي في التعامل الإنساني المتحضر ودرساً بليغاً في التعامل مع مفهوم الفوز والخسارة في معركة بناء الوطن وبناء المواطن. لا أجانب الحقيقة عندما أقول ان هذه الممارسة لا تعبر إلا عن احترام الذات لدى هؤلاء الساسة قبل كل شيء واحترام ارادة الناخب ثانياً كما تمثل عمق الشعور بالمسؤولية الوطنية إضافة الى كونها ممارسة تمثل واحدة من أعلى درجات سلم الرقي والمدنية والتحضر.      
هل يعي أرباب السياسة في العراق دورهم؟
وهل يطلعون على تجارب العالم المتحضر؟
أين نحن كشعب من كل ما يدور من حولنا؟
“عرب وين … طنبورة وين”
لا اريد التجني على أحد هنا في هذه العجالة، ورغم اني اعترف بأن المشهد العراقي كثير التعقيد، لكني في ذات الوقت لا اعتقد ان هناك من بين هؤلاء (السياسيين) ممن يجهد نفسه ليقرأ يوماُ ماذا يدور في بلدان العالم المتحضر وليطلع على تجارب الشعوب والأمم. أضف الى ذلك ان الكثير ممن يدعون السياسة في العراق (ولا أقول جميعهم) ليس هم سوى أناس على قدر كبير من الجهل السياسي والأكثر من ذلك انهم أحاطوا انفسهم وملأوا مؤسساتهم بحاشية أكثرَ جهلاً وأشدَ تخلفاً… وللأسف نقول بأن الكثير منهم أيضاً وبدون ادنى شك ليس سوى اناس لايعون مايفعلون ولا يقدرون حجم مسؤوليتهم ودورهم التاريخي … وحقيقة الأمر ليس هم سوى نفرٍ من الذين قادتهم الصدفة التاريخية المحضة،لا بل قادهم قدر العراق العاثر لان يتحكموا في مقدراته في هذه المرحلة الحرجة من تاريخه. انه قدر هذا البلد الحزين وهذا الشعب المحروم أن تتسلط على مقدراته شلة من القتلة والمجرمين منذ نهاية العقد السادس من القرن المنصرم  … ثم يتحكم فيه اناسٌ قليلو الخبرة وعديمو الحنكة ويفتقرون الى ابسط مقومات القيادة منذ مايزيد عن العقد من الزمن.
أكاد اتقطع ألما – مثلما الملايين من العراقيين الشرفاء – وأنا أرى بلدي وشعبي ينحدران في متاهات التخلف والتراجع فيما تتسابق الامم والشعوب لترتقي سلم المدنية والتحضر وتتنافس في سبيل تحقيق الأمن والسلام والطمأنينة والعيش الكريم. 
سلامٌ على أرضٍ كان عليها بلدٌ اسمه العراق ……
وألفُ سلامٌ على شعبٍ اتعبته سنونٌ طوال من الحروب و القهر والحرمان والإملاق ……
وسحقاً لكل من يشعلُ الفتنةَويمارسُ الفسادَ والقتلَ والتهجيرَ والتزويرَ والنفاق ……

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب