شهدت ساحة التحرير وسط بغداد وقفة بضع مئات من العوائل لمطالبة حكومة الخضراء بالإفراج عن الأبناء والازواج والاخوة الذين اعتقلتهم السلطات الحكومية او الميليشيات بعد عام 2003 لأنهم من مكون معين. وتصل اعداد السجناء لأسباب طائفية او لوشاية المخبر السري الى أكثر من سبعين ألف سجين اعتقلوا بعد الغزو الى ما لا نهاية كما يبدو ولم يتم إطلاق سراحهم بل ان كثيرا منهم يتهم بشتى أنواع التهم من قتل او وشاية غير موثقة يتجنب القضاء التحقيق في صحتها او يتغاضى عن أسباب الحبس والتجريم الظالم خضوعا لأوامر الجهات الطائفية من مليشيات وغيرها التي تتحكم بمصائر الشعب العراقي وتعتبره اسيرا عندها ليومنا هذا. لقد استخدمت كل الحكومات منذ حكومة حيدر العبادي الى حكومة السوداني ملف العفو العام الإنساني والقانوني كدعاية لتشكيلها ولمصالح انتخابية ضيقة تنسى فيه الوعود حالما تتشكل الوزارة وتحصل الأحزاب على حصصها من الكعكة والوزارات والصفقات لتهمل وتستبعد قوانين أهمها قانون العفو العام الذي يسمع به الشعب العراقي منذ عام 2014 على عهد حكومة حيدر العبادي دون ان يجد نتائج ملموسة تؤكد على مصداقية الحكومة في معالجة مشكلة خطيرة مثل الاعتقال الواسع وبأعداد مخيفة للعراقيين دون ذنب وابقائهم في السجون دون محاكمة ولا دليل على أي جريمة وبلا توجيه لاتهام يحاكم عليه القانون العراقي.
لقد تم تشكيل حكومة محمد شياع السوداني بتوافق الأخير على تنفيذ مطالب كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة الذي التزم بتحقيق المطالب الملحة لملايين المواطنين وتعديل قانون العفو العام المعدل أصلا قبل عامين. يشمل هذا التعديل إعادة محاكمة من اعترف تحت التعذيب او بسبب المخبر السري وحكم بالموت وكشف مصير المغيبين وإلغاء هيئة المسائلة والعدالة التي ارتكبت باسمها أبشع الجرائم وحالات الانتقام والسرقة والابتزاز. وبينما هرول رئيس الوزراء محمد شياع السوداني للاستجابة لمطالب مسعود البرزاني لان الامر يتعلق ببيع النفط فأنه مثل اسلافه نسي تماما تعهداته مع تحالف السيادة والتزامات حكومته بتنفيذ المطالب الشعبية الملحة والإنسانية التي تمس ملايين العراقيين لتصحيح مسار أجرم فيه بحق العراقيين ورفع هذا الحيف الثقيل عنهم على الأقل لأثبات مصداقية وجدية البرنامج الحكومي وحسن نية رئيس الوزراء نفسه امام المواطنين “ورغبته الفعلية” لتنفيذ برنامج إصلاحي ينتشل العراق من مستنقع الفساد !
ليس ذلك فحسب، بل ان النكث بوعد تنفيذ قانون العفو العام من رئيس الوزراء يبدو إصرار مسبق على استعمال هذا القانون دعاية انتخابية فقط لا غير تخدم المشاركين بالعملية السياسية بأطرافها المختلفة وان قرار العفو العام ليس من صلاحيات رئيس الوزراء سواء اسمه حيدر العبادي ام محمد شياع السوداني بل يعود الى راع العملية السياسية! يقول عضو سابق في في مفوضية حقوق الانسان: تأملنا صدور هذا القانون بمناسبة العيد لكن مع الأسف وبسبب التجاذبات السياسية لم يصدر وقد حولته الأحزاب السياسية من ملف انساني الي ملف سياسي… ولم نلمس أي جدية في اصدار هذا القانون وليس هناك أي اجراء ولا حتى نية لطرحه على البرلمان رغم ان 80% بضمنهم ثمانية الاف محكومين بالإعدام من السجناء هم أبرياء باعتراف مسؤولين حكوميون ! يبقى ملف قانون العفو العام الملف ملفا سياسيا بامتياز، حولته الطغمة السياسية الطائفية لمصدر فساد آخر كما حولت كل شيء في البلاد الى تجارة تتربح منها بضمنها السجون ليمتلئ فضاءه بعد السياسة بأبشع فضائع معاملة السجناء والسجينات من سرقة وجباتهم الغذائية وسرقة ملابسهم وادويتهم وبيعها والفساد والسرقة واللصوصية والاعمال غير الأخلاقية بشكل واسع يدر الملايين لفئة من العمائم واشخاص يتبعون الميليشيات والشخصيات السياسية نفسها.
وهذا ما يفسر ايضا الغياب الخطير لدور وزارة العدل ووزير العدل نفسه وشكلية “مفوضية حقوق الانسان” المقعدة عن كل ما يحصل في العراق من جرائم، وثقت كثير منها كجرائم ضد الإنسانية من قبل احدى لجان الأمم المتحدة الخاصة بالاختفاء القسري التي زارت العراق قبل أيام.
هذه اللجنة الأممية زارت العراق اكثر من مرة ونشرت تقريرها المتعلق بالاختفاء القسري بموجب المادة 29 ) 4 ( ) 1 ( الذي يتضمن المعلومات الخاصة بالعراق والتقييمات والمقررات التي اعتمدتها اللجنة في دورتها الثانية والعشرين. ورغم ان حكومة المنطقة الخضراء قد وقعت على الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري الا ان التقرير يفضح مراوغات ومغالطات الأشخاص المكلفين بالتواصل مع اللجنة ليس فقط حول الموضوع الأساسي الا وهو الاختفاء القسري بل حول القوانين والقضاء والمحامين وحول احترام حقوق الانسان اذ ان المسؤولين العراقيين يصفون أوضاع البلاد وأوضاع السجون والمعتقلين والإجراءات القانونية وكأن العراق هو دولة اوربية يحترم فيها القانون والانسان وفيه شفافية لا توجد الا في الديمقراطيات الغربية في حين ان ملاحظات وتوثيق اللجنة وتنقلها في مدن العراق المختلفة ومقابلة المواطنين وعوائل المفقودين والسجناء والأرقام التي بحوزتهم تكبل حكومات الاحتلال الأمريكي الإيراني بالمزاعم والجرائم التي وصفتها اللجنة بأنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. من الفقرات التي استهلت بها اللجنة تقريرها هو اعرابها عن قلقها إزاء التباين بين الأرقام التي قدمتها الدولة ) 13 993 و 16 000 ( شخص مختف بين أعوام 1968 و 2003 والأرقام التي ابلغتها مصادر موثوق بها ) ما بين 500 000 ومليون شخص مختف منذ عام 2003 وتضيف اللجنة ان ارقام الدولة حول فترة 1968-2003 لا تتضمن أرقاما واضحة ودقيقة ومصنفة ، أي ان أرقامها هذه تنقضها الدقة والمصداقية ! ليس ذلك فحسب بل ان اللجنة تطلب من الدولة اجراء عاجل ومستقل ونزيه، يصعب تحقيقه تحت الاحتلال وهيمنة المليشيات، في جميع ادعاءات الاحتجاز السري ووجود 420 مكان احتجاز سري وتحديد اماكنها رسميا والافراج عن كل الأشخاص المحرومين من حريتهم في تلك الأماكن وتقديم المسؤولين عن ذلك الاحتجاز السري الى العدالة ومعاقبتهم وفقا لخطورة افعالهم. كما تطرقت اللجنة في تقريرها الى اعتقال الاف من شباب ثورة تشرين وحرمانهم من الحرية وسجنهم من قبل القوات الأمنية والمليشيات دون أوامر قضائية.
في كل صفحة وفي كل فقرة وسطر من تقرير اللجنة الأممية التابعة للأمم المتحدة هذا حول الاختفاء القسري تلمس تهرب المسؤول عن الملف من مواجهة حقائق الجرائم العنيدة والدماء المسفوحة على ارض الرافدين منذ الغزو الهمجي واستمرار الاحتلال الأمريكي الإيراني الذي تقترف تحت انظاره وبموافقته كل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المصنفة كذلك من قبل اعلى مرجعية اممية في القانون الدولي! اذ رغم الرسائل المتكررة والتذكير بها من قبل اللجنة ، تتهرب حكومة الخضراء من الاستجابة الى اتخاذ الإجراءات العاجلة المطلوبة منها. وتصنف اللجنة العراق من اكثر الدول التي تلقت رسائل عاجلة بلغت 275 نداء من مجموع 492 اجراء عاجل لم ترد عليه واهملته حتى كتابة التقرير، ويقول التقرير انه لو حدث وتم الرد فان الردود لا تقدم أي معلومات مفيدة حول الموضوع لطمس الجرائم والتهرب من المسؤولية والإصرار على اقتراف هذا النوع من الجرائم ضد الشعب العراقي التي لم تعد منذ ثورة تشرين ضد مكون واحد فقط بل ضد كل من يريد تحرير العراق من الاحتلال الأمريكي الإيراني.
هذه هي المرة الأولى التي تشهد الأمم المتحدة وتوثق لجنتها حول الاختفاء القسري على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب في العراق منذ عشرين عاما دون عقاب تحت انظار العالم وقواه الكبرى وهي المرة الأولى التي تطالب فيها لجنة اممية بوضع سجل مركزي للمختفيين يسمح بالاطلاع عليه، وهي خطوة ان تحققت ستجبر السلطات الحكومية على اعلان أسماء المغيبين قسرا لديها ان عاجلا ام اجلا.