26 نوفمبر، 2024 9:30 م
Search
Close this search box.

إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة

إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة

رغم ان السلطات السياسية تحاول بمختلف السبل كسب المثقفين الى جانبها لدعم سلطتها وفرض هيمنتها، الا ان الأشكالية تبقى قائمة بين الجانبين، خاصة عندما تتجاوز السلطات السياسية حدودها في ممارساتها التي تتعارض أحيانا كثيرة مع أهداف المثقفين في خدمة الحقيقة وخير الإنسانية.
بادىء ذي بدء يجب ان نعرف من أين جاءت كلمة  الثقافة، انها أشتقت من الفعل الثلاثي ثقف، يثقف، فلو عدنا الى الجذور الأشتقاقية لهذه الكلمة في كتاب لسان العرب وفي بعض المعاجم العربية الأخرى لوجدنا ان الرماح الصقيلة الصنع كان يطلق عليها بالرماح  الردينية، نسبة الى أمرأة عربية كانت تجيد يومذاك تثقيف وصقل هذه الرماح ولقد ورد ذلك في العديد من القصائد ومنها قصيدة الشاعر مالك بن الريب ، يقول فيها:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلــــــــــــة              بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا

فليت الغضا لم يقطع الركب عرضــه              وليت الغضا ماشى الركاب لياليــــــا
تذكرت من يبكي علي فلم أجـــــــــــد              سوى السيف والرمح الرديني باكيـــا

تثقيف الشيء يعني تقويم المعوج منه، وسرى هذا التعبير على أصلاح وتثقيف وتعديل ما يطرح من لدن أولي العقول من آراء وأفكار .
أما كلمة السلطة، تعني القهر والغلبة ، فالرجل السليط والفصيح اللسان يجمع بين كلمتي الحكمة والحكومة اللتين تعبران عن الشفقة والمعرفة أضافة للسيطرة. إن مفهوم السلطة التقليدية قديم كقدم المجتمعات البشرية،  وأول من بحث فيه بشكل متطور هم فلاسفة اليونان وعلى رأسهم أرسطو، أحد تلاميذ أفلاطون، تناول موضوع الدولة المدنية وشرعية سلطتها بشكل مفصل،  وبعد عصر النهضة الأوربية، أصبحت السلطة  تعني على انها الرقابة على سلوك الآخرين لتحقيق أهداف جماعية إستنادا على إتفاق وتفاهم تلك الجماعة التي تعطي الشرعية للسلطة، ولكن عندما تتحول السلطة لخدمة مصالح خاصة، فأنها تفقد شرعيتها المستمدة من المجتمع. يمتد مفهوم السلطة الى سلطة الدين والتقاليد الإجتماعية الذي يستمد شرعيته من التزامات الناس بتعاليم الدين والعرف الإجتماعي وتكون أحكام هذه السلطة أكثر قسوة من احكام مؤسسة الدولة، لذلك تبقى إشكالية المثقف مع سلطة الدين والمجتمع أكثر تعقيدا ً واشد تداخلا.
من المفيد متابعة الرحلة التطورية لمؤسسة السلطة  والثقافة لتبيان العلاقة الحميمة القائمة ما بينهما وما تتخذه من أشكال ومظاهر مختلفة عبر الملابسات التاريخية والأجتماعية، وعلينا ان نتوقف مليا ً عند تحديد مفهومي الثقافة والسلطة، بتحديد طبيعة كل منهما بصورة موضوعية . هناك من يـُعـّرف  المثقف بأنه الحاصل على الشهادة العليا الجامعية وهناك من يـُعـّرفه بأنه المتخصص قي شؤون الثقافة والذي يتعامل مع الأفكار المجردة التي تضع إعتباراتها فوق مختلف الإعتبارات الإجتماعية اليومية، أو انه المفكر المرتبط بقضايا عامة أكبر من حدود تخصصه ، أو هو صاحب الرؤية النقدية للمجتمع، وهو العـَالـِم ُ القلقُ، أو هو المبدع في مجال الآداب والفنون والعلوم، أو هو المتعلم  ذو الطموح أو هو واحد من صفوة ٍ أو نخبة ٍ ذات فعالية نشيطة على المستوى الإجتماعي الى غير ذلك من تعريفات.
وقد يكون أبسط تعريف هو ذلك الذي يميز بين العمل الذهني والعمل اليدوي وبالحقيقة من الصعب التمييز بصورة مطلقة بين هذين العملين فكل عمل يدوي مهما كانت بساطته  يسبقه ويرافقه  بالضرورة  قدر من الجهد الذهني.
مما لا يشك فيه ان مفهوم المثقف يتسع ليشمل المفكرين والكتاب والفنانين ورجال الدين والأطباء ورجال القانون والمهندسين والأعلاميين ويتسع ليشمل العمال والفلاحين وسواهم وبهذا المعنى ينقسم المثقفون الى مثقف عام ومثقف متخصص، وبهذه المعاني يشكل المثقفون طبقة إجتماعية محددة، تنتسب الى مختلف الطبقات الإجتماعية ، الإرستقراطية ، البرجوازية، الطبقى الوسطى والطبقة العاملة.
ان المثقفين ليسوا فئة متجانسة بثقافاتها ولا فوق الطبقات، إنما يختلفون بتنوع إنتسابهم كشرائح وفئات إجتماعية الى هذه الطبقة أو تلك بطبيعة موقعها وموقفها من نظام الإنتاج السائد.
ان الإنتاج والإبداع الفكري والعلمي والتقني والمنجزات العلمية عامة تتضمن بالضرورات إمكانات تغييرات بل إضافات الى قوى الإنتاج الإجتماعي والبشري بشكل عام. ولكن يبقى السؤال من يسيطر على هذه المنجزات المعرفية ولمصلحة من توجه وتوظف؟ وما أكثر ما تستخدم لتحقيق هيمنة سياسية ضيقة ولأغراض إقتصادية  وعسكرية وإعلامية تسود أصقاع العالم هذه الأيام.
لقد أدركت غالبية الدول ومنذ مراحل تأسيسها الأولى ، أنه لا سلطة سياسية لها، ولا مشروعية ولا أخلاقية ولا إخضاع لمنظمات المجتمع المدني  ولا تكريس لسيطرتها وأمتلاك وسائل الإنتاج بغير إمتلاكها السلطة الثقافية، أي المعرفة – الأيدولوجيا، ولهذا تسعى دائما الى دعم إنشاء المعابد والمساجد ومنظمات أخرى لتجنيد رواد ٍ لها لتكريس سلطتها والهيمنة على جميع تجليات المعرفة. ولكن مهما جهدت السلطة من فرض سلطانها، تبقى الإشكالية قائمة بينها وبين المثقف ولنا امثلة كثيرة بذلك .
فمثلا ً، سقراط الفيلسوف اليوناني، أول من أرسى أسس الحوار الفلسفي والمنطقي قبل أكثر من ألفي عام، برع في مجالات مختلفة، لعل أهمها في علم الأخلاق والمنطق، غير ان السلطات الحكومية أدانته بالهرطقة، بسبب تعالميه، التي أعتبرت مخربة لتفكير الشباب، وَحـُكـِم َ عليه بالأعدام عن طريق تناول شراب السم، ولكن بقت أفكار سقراط ومدرسته الفلسفية منارا للباحثين ونبراسا ً للفلاسفة الى يومنا هذا. وفي أسبانيا ، في نهاية الحضارة العربية الإسلامية، بأمر من السلطة المستبدة ومساندة أئمة الدين، تم حرق كتب الفيلسوف أبن رشد وفرضت عليه الإقامة الجبرية في قرية نائية، بسبب خوف السلطة من وعي الناس وتمردهم نتيجة الفكر التنويري الذي جاء به أبن رشد. وفي القرن السادس عشر، أدانت  الكنيسة العالم الجليل غاليلو بفرض الإقامة الجبرية عليه وعدم البوح بأفكاره لقوله بكروية الأرض ودورانها، ما كان يتعارض حينذاك مع معتقدات الكنيسة والسلطة المتنفذة.
ان العلماء والباحثين كشرائح ثقافية مهمة في المجتمع يهدفون في بحوثهم وتجاربهم الى خدمة الإنسانية وتقدمها وليس الى سحقها وتدميرها  كما تـُوَجه نتائج بحوثهم أحيانا كثيرة من قبل السلطات السياسية. فالعالم السويدي الفريد نوبل أخترع الديناميت في عام 1867م لغرض إستخدامه في حفر المناجم وشق القنوات في سبيل تخفيف عبء العمل عن كاهل العاملين،  غير ان نوبل شهد في آخر أيامه إستخدام الديناميت في أعمال الحرب، فحزن حزنا شديدا ً لما شاهده من خراب ودمار بسبب إختراعه، فأوصى بوضع كل ثروته في عهدة بنك سويدي، تعطى أرباحه سنويا لمبدعين في مجالات علمية مختلفة لخدمة البشرية والعاملين لأغراض السلام الإنساني، فكانت مؤسسة جائزة نوبل  المعروفة.
 ويقترن أسم العالم نوبل بأسم العالم الفذ ألبرت آنشتين الذي حاز على جائزة نويل في عام 1921م لأنجازاته الضخمة في مجال علوم الفيزياء، خاصة النظرية النسبية و إكتشافه مبدأ الأنفجارات المتسلسلة في إنتاج طاقة هائلة.  تألم آنشتين هو الآخر كثيرا ً في عشية تفجير القنبلة الذرية، على مدينتي هيروشيما ونغازاكي في اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م، ولـِما تركه الإنفجار من دمار ونخريب هائل ، كتب آنشتين: كان يجب حرق أصابعي قبل أن أكتب تلك الرسالة الى الرئيس الأمريكي، روزفلت ، حيث بينت فيها إمكانية تحويل عنصر اليورانيوم الى مصدر هائل للطاقة، ووضحت له ان الألمان في طريقهم لإنتاج القنبلة الذرية. مما حدى بالرئيس الأمريكي الى تأسيس لجنة خاصة لصنع القنبلة الذرية وَرصـَدَ المبالغ اللازمة لأنجاح المشروع، فـَسـَبق َ الألمان في صنعها واستخدامها لحسم الحرب.
الفيلسوف والرياضياتي المنطقي البريطاني  برتراند رسل، من أكثر المؤثرين في الفكر البشري في القرن العشرين، ومن الداعين للسلام العالمي، له قصص معروفة ضد سلطات حكومية مختلفة، دخل السجن مرتين، في المرة الأولى عارض مشاركة بلده، بريطانيا، في الحرب العالمية الأولى، واعلن العصيان الجماعي ضدها،  فسجنته بريطانها لمدة ستة أشهر للحد من نشاطاته في قيادة المظاهرات وكتابة النشرات المحرضة للسلام.  وفي المرة الثانية، حين كان أستاذا للفلسفة والمنطق في الجامعات الأمريكية، سجن وله من العمر تسعون عاما ً، بسبب موقفه المعارض لأشتراك أميركا في حرب فيتنام ودعوته للسلام. كما وان المحاكم الأمريكية أدانته بتهمة أنه يـُفـسِد عقول الشباب بترويجه للأفكار الداعية للحرية ومعارضة الدين، ومنع على أثر ذلك من تدريس الفلسفة والمنطق في الجامعات الأمريكية.   
ان الإشكالية بين المثقف والسلطة تتحدد في كون المثقفين يدركون أنهم جزء ٌ من السلطة فيساهمون بإنتاجهم  في دعمها ويصبحون موضع إستغلال وإستبداد من قبلها ، ما يؤدي الى ان العديد منهم يعانون من التناقض بين أهدافهم الإنسانية من جهة، و خدمة مآرب السلطة من جهة أخرى، ورغم ان مختلف السلطات تسعى لتطوير المعارف لدعم مشروعاتها، غير أنها تسعى الى أهدار جوانب أخرى وتحاول تحول المثقفين الى موظفين مكتبيـين بيروقراطيـين.
ولنا مثال آخر، الفيلسوف والأديب الفرنسي  جان بول سارتر، كان غزير الإنتاج الأدبي والفلسفي، أرتبط أسمه بالفلسفة الوجودية، يشدد على ان الحرية جوهر الإنسان. هو الآخر له  مواقف معارضة لسلطات حكومية مختلفة على رأسها سلطة بلده، الحكومة الفرنسية، إذ إنه شارك شخصيا في المظاهرات التي إجتاحت فرنسا عام 1968 م تطالب بحقوق الطبقة العاملة وإسقاط ما يسميها  الدولة البوليسية التي كان يترأسها الجنرال شارل ديكول.  كان يشدد في إطروحاته على دور المثقف الملتزم في المجتمع ويرى ضرورة تطبيق أفكاره على ارض الواقع وليس التقوقع في نطاق الطرح الفكري والنظري فقط.  ساند حركة التحرر الجزائرية في حركتها ضد الحكومة الفرنسية المحتلة، وعارض حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد الشعب الفيتنامي، كما وانه خلق ضجة عالمية عام 1968 م برفضه إستلام جائزة نوبل في الأدب، معتبرا تلك الجائزة سياسية، تجعل من المفكر مؤسسة، تقيد حريته، فيما إنه يريد ان يبقى مستقلا عن تأثيرات أي سلطة سياسية. اذا كان المثقف يعاني من أزمات وأختناقات في المجتمعات الديمقراطية المتقدمة كبريطانيا وفرنسا وأميركا، فكيف ستكون حاله في المجتمعات المتخلفة ومنها مجتمعاتنا العربية؟
ان المثقف في المجتمعات العربية الإسلامية  بحاجة الى ثقافة جادة والثقافة الجادة لا حياة ولا تطوير لها بغير سياسة جادة لحل إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة. فالمثقف العربي يعيش الأمرين، فهو من جهة  تحت قيود خيمة الدولة المتسلطة،  ومن جهة أخرى  تحت قيود سلطة الدين وقهر المجتمع، فالإشكالية والأزمة بين الطرفين تبقيان حادتين ولا يجد المثقف سبيلا ً للخلاص من الموت والملاحقة الا الهروب خارج هذه الأوطان، ما يزيد من تخلف وتقهقر هذه المجتمعات وتراجعها الى الوراء. وتبقى الدولة صديقة مع المثقف طالما لا تتعارض نتاجاته مع أهدافها وطموحاتها، وما ان يحصل التعارض تستخدم السلطة أذرعها الطويلة وانيابها القوية  للنيل من المثقف. وما يحصل هذه الأيام من أزمات واختناقات في المجتمعات العربية بعد الربيع العربي المزعوم الا صورا ً ناطقة لأشكالية المثقف القائمة بين سلطة الدولة وفروض المجتمع والدين.

أحدث المقالات