23 ديسمبر، 2024 11:23 ص

إشكالية التوحيد عند اليهود

إشكالية التوحيد عند اليهود

لا تخلو التوراة من الإهتمامات الروحية التي قد تخدم التطلعات الدنيوية التحريضية الأهم ، التي تتمحور حول الوعد : [الأرض التي أعطيت إبراهيم وإسحاق لك أعطيها ولنسلك من بعدك أعطِ الأرض] ، تكوين 25 سِفر 11 ، 12 ، 13 ، كما يورد كتاب التوراة حول رواية : الإله عندما يخاطب يعقوب ، وهنا يبدو أنّ الإله مشغولٌ بصنفٍ من البشر ويمنح ورثتهم “كارت بلانش” ، بغض النظر عن أية معايير زمانية أو مكانية الذي ينبغي أخذهما ووضعهما في أي سياق تحليلي عند بحث أية قضية فكرية أو مسألة سياسية ما ، وتشكل في جوهرها العملي ، النقيض الفعلي والعملي لمفهوم “مساواة كل البشر” أمام القدرة الإلهية ، والذي ينبغي أنْ يقوم على أساس عمل الخير وعدم المّس بحقوق البشر الآخرين وتقديم الجهد الصالح الذي تبرره خدمة الكل والبعُد عن أية نزعات عدوانية تحت أية ذريعة كانت ، سواء تسترت بالنصوص الدينية “المقدسة” أو غيرها .
    ومن الأخطاء المُسَّلـّم عند أغلبية الباحثين في تأريخ الأديان ، المقولة التي تؤكد أنّ الدين اليهودي هو دين سماوي ، وما يستتبع تلك النظرة من مقولات ومفاهيم تتعلق بطبيعة النظرة الدينية ذاتها ، كون الدين السماوي هو دين كوني رحب يتوجه للبشرية جمعاء ، وكذلك للعالم أجمع ، ولم يقتصر الدين السماوي على شعب معين ، أو عشيرة ما محددة ، لها خصائص أنثروبولوجية لا تخضع لتأثيرات زمانية متقادمة ، وبطبيعة الحال فإنّ هذا الدين السماوي لا يخص قومية تحتكر منفردة مفهوم الإله/الرب ، الذي يقوم على خدمتها [أي هذه القومية] ، ويشتغل لصالحها بتهيئة مقدمات الصناعة المسـبقة للحرب الذكية ، من جهة ، والراهبة لجميع الأمم الأخرى بحذف حقوقها المكتسبة بحكم العوامل التاريخية والجغرافية ، من جهة أخرى ، على شاكلة ما جاء بالإصحاح السادس والعشرين “وتسكنون الأرض التي أعطيتُ آباءكم إيـاها وتكونـون لـي شـعبـاً وأنـا لكـم إلــه” ، حـزقيـال ،الإصحاح 26 ـ سفر 8  .

تعدد الآلهة عند اليهود

    الدين على العموم منظومة روحية متكاملة ترسم طبيعة العلاقة بين الخالق (الله) والمخلوق (الإنسان) ، مشروطة بسلوك يقوم على أساس الإيمان المسبق ، إيمان المخلوق بقدرة وقدسية وجلالة وعظمة الخالق ، والتسليم بإستقامة وطهارة الرسول أو النبي الذي إختاره الخالق وإصطفاه من بين عباده لتبليغ رسالته وإيصال المعلومات التي يريد نقلها للبشر ، وهذا التبليغ هو محتوى ما يريد تعميمه على كل البشر كتكليف ملزم للجميع أمام الله ، كي يبعدهم عن الشر الذي قد يتورطوا بإرتكابه ، من ناحية ، ويرشدهم للخير عبر العبادة ، والخشوع لله ، والسلوك اليومي ، من الناحية الأخرى .
     وتشكل تلك المنظومة الفكرية والروحية والسلوكية ، المقاييس الأساسية في محاكة البشر الذي ستسوَّد وجوه بعضهم ، وتبيَّض أخرى ، حين يقفـون بين يدي الله عند يوم الحسـاب النهائي ، من حيث الجزاء عبر غـُرم العقاب أو نيل الثواب .
     لم تتدنَ مكانة الإله (الرب) في دين سماوي أو دين وضعي أو حتى في أية منظومة فكرية وثنية ، كما تدنت مكانة الإله في الدين اليهودي ! ! !  ، فيعقوب يتغلب على الإلـه ويصـرعه في نزال بينهمـا ، كما يذهب إلى ذلك النص التوراتي ، الذي يرِد في “تكوين 26 ، 29 ، 32 :
    (وقال إطلقني لأنه قد طلع الفجر ، فقال لا أطلقك إنْ لم تباركنِي ، فقال له : ما إسمك ؟ فقال يعقوب ، قال لا يُـدعى إسمك فيما بعد يعقوب ، بل إسرائيل ، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت ، وسأل يعقوب : أخبرني بإسمك ؟ فقال : لماذا تسأل عن إسمي وباركه هناك) . . .
      إذن إسرائيل الذي هو يعقوب وفقاً للتكوين التوراتي ، قد صرع الإله ، وإنتزع المباركة له منه عنوة .
     وفي الحقيقة نحن لا نعرف على وجه التحديد التالي : هل إمْتِحنَ الإله بهذا الشعب ؟ أم الشعب هو الذي إمْتِحنَ بهذا الإله ؟ لقد خبر اليهود قوة الإله وعرفوا مدى بطشــه من خلال صراعه مع يعقوب ، لذلك لم يحظَ بالتبجيل والقدسية عندهم ، لا بل أنهم ألصقوا به كمّاً من الصفات الإنسانية (أي البشرية) المنبوذة والسـلبية ، فالإله ، كما وصفته التوراة ، إله حســود ، غيور ، غاضــب ، مهزوم ، قلق ، نادم ، شهواني ، شرير .
    وفي ذلك يقول سيجموند فرويد ، العالم النفسي المعروف ، عن الإله الذي تم تحديد سـماته في كتاب التوراة : “إنه شـيطان ضـاميء للدم بشـكل غريب ، يسـير في الليل ويتجنب النهار” ، جوناثان كيرتش ، ص 200 .
    وتشير التوراة في حزقيال ، إصحاح 25 ، سٍفر 12 ـ 13 إلى التالي :  “هكذا يقول السيد الرب وأمُّد يدي على أدوم وأقطع منها الإنسان والحيوان وأصيرها خراباً” ، فهل مهمة الرب الإنتقام الجذري من البشر وما أقاموه من مدن وبساتين ؟ ، أم السماح لكل الخطائين بالتوبة ، والعفو عنهم ، في الحياة الدنيا ؟ ! .
    كما إحتوى التكوين التوراتي أيضاً ، سِفر 6 ـ 7 النص التالي : “فقال الرب : أمحوا عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته ، الإنسان مع بهائم وديابات وطيور السماء لأني حزنت إني عملتهم” . . . إذاً هو إله شرير شَرِه متعطش للدماء وعاشق للقتل ، يسـحق ويبيد الأمـم والشـعوب لصالح “شعب إصطفاه” من دون البشر . . . أي لصالح شعب إسـرائيل ، للدرجة التي تكبد معهم عناء التيه في صـحراء سـيناء لمدة أربعين عاماً ، كونه لم يعرف الطريق إلى فلسطين . . . (أرض الميعاد) ، وفي سيناء ملـّوه ونبذوه فأغلظ فيهم السيف والقتل .
     وفي سِفر حزقيال ، الإصحاح 21 ، سٍفر 1 ـ 2 ، ورد النص التالي : “وقل لأرض إسرائيل هكذا ، قال الرب : ها أنذا عليك وأستـّل سيفي من غمده فأقطع منك الصديق والشرير”   .
    تعددت الآلهة في كتـاب التوراة وإختلفت أسـماؤهم ، وهذه نماذج على تلك التسميات نذكر منها على التتـابع : أدوناي ، ياهو ، يهوه ، إيل ، ألوهيم ، بعل ، أهيه ، هذا العدد الكبير من الآلهة يشــير بشــكل ملموس إلى فكرة رئيسـية محتواها ، دحض فكرة الدين السماوي الموحد . . .
     أي دحض مفهوم التوحيد عند اليهود ، علاوة على أنه كان لليهـود عبادات أخـرى لم ينقطعوا عنها ، عبادات وثنية منها عبادة العجل الذهبي الذي صنعوه في سيناء اثناء خلوته الطويلة مع الإله وعندما عاد وجدهم على عبادة العجل ، وهو الأمر الذي دفعه إلى كسر الألواح التوراتية
     . . . ” كانت السامرة عاصمة الأسباط العشرة ، مركزاً لعبادة العجل الذهبي ! بينما كانت أورشليم عاصمة يهوذا معقلاً للعبادة الوثنية ، والإعتقاد في آلهة متعددة” ، [اللاهوت العربي ، يوسف زيدان ، ص 64] ، وهذا نص توراتي يذهب إلى تعدد الآلهة في جملة واحدة . . . ففي التكوين 3 : 22 ، 24 ” وقال الرب الإله : هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا ، عارفاً الخير والشر والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً”  .

الدين اليهودي دينٌ وضعي

    أصبح من المسـلـَّم به تماماً لدى الباحثين وأصحاب الإختصاص ، أنَّ التوراة كـُتِبَت في الفترة الزمنية التي أعقبت مرحلة السبي البابلي ، وفي ذروة “مجدهم” الزائف ، و”إنتصارهم” المزعوم ، وذلك بعد سقوط بابل على يد الفرس . كانوا يشاركون بشكل فاعل في سبيل تحقيق هذا الهدف السياسي والفكري عبر المساهمة غير المباشرة في هذا الحدث المأساوي في نظر كل العراقيين المخلصين لدولتهم التي أنارت بصيرة العالم ، وكانت المجموعات اليهودية في حالة مرتبكة من الهيجان والحراك والحركة الموارة للدرجة التي يصعب معها لَمَّ شعث هذه المجموعات ، ولكن هذه المجموعات تبنت المنظومة الفكرية التي كان جوهرها : لـُحمتها وسُداها ـ كما يقال ـ الإرتكاز إلى “قدسية” الشعار القائل بمفهوم شعب الله المختار وما أعطي له من وعد إلهي : “أرض الميعاد” من خلال إبرام عقد بين “شـعب” متمـرد ، من ناحية ، وبين “إله شـرير” ، من ناحية أخرى .
    كان كتاب التوراة ، من الناحية السياسية ، أشبه ببرنامج عمل عنصري الجوهر ، يسعى القائمون على صياغته لتحقيق أهداف دنيوية ، وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى أنَّ الكتاب ذاته لا يتطرق إلى مسألتي الثواب والعقاب الأخرويين ، كون التوراة تعبٍّر عن دين وضعي وليس ديناً سماوياً ، ويهتم بإنجاز أهداف دنيوية بحتة ، كما لا تحتوي التوراة على الإشارة إلى مفهوم نهاية الحياة : أي مجيء يوم القيامة ، أي مفهوم “اليوم الآخر” الذي “بشَّــر” به الدين الإسـلامي و”أنذر ”  .
    ولكنَّ الدين اليهودي أدخل لاحقاً هذه المفاهيم من خلال “التأثر” اللاحق بالديانتين اللتين سيراهما العالم خلال مراحل زمنية أعقبت نشوء المفاهيم اليهودية الوضعية ، والديانتان المقصودتان بتأثيرهما المعرفي على الرؤية الدينية اليهودية ، هما المسيحية والإسلام ، يتبدى ذلك جيداً من خلال إدخال فكرة ، مفهوم ، البعث ، ومفهوم القيامة ، وما يتعلق بهما من شروحات تتناول مراحلهما الأخروية والتي يتجسـد خلالهما الجزاء بـ”العقاب” أو “الثواب” بناء على محاسـبة الإله لأعمال الإنسان / الفرد بالحياة الدنيا .
    وهذه المفاهيم والأفكار الأخروية التي تميزت بها الديانتان السماويتان ، المسيحية والإسلامية ، قد خلى تماماً منها كتاب التوراة ، ولكنها أدْخِلتْ في النصـوص المتأخرة التي حملتها “المنشاة” و”الجمارا” ، ومن هنا صارت عقيدة البعث ، جزءأ رئيساً من الديانة اليهودية ، وهو “جزء رئيسي من المفاهيم التي حملها اليهود في صدورهم ، والتي تمت إضافتها لكتبهم الدينية بعد قـُرابة السبعة قرون” ، كما يؤكد السيد يوسف زيدان :
     “استكملت المنظومة الدينية اليهودية لذاتها اعتماداً على الديانتين المسيحية والاسلام بادخال فكرة البعث أو القيامـة ومـا يتعلق بهما من الاخرويات وهو ما خلت منه النصوص اليهودية ، الصفحة 31 من كتابه المعنون : اللاهوت العربي .
    وكان الإله التوراتي ، في مرحلة التيه الصحراوي بصحراء سيناء ، يجالسهم في الخيمة ، ويتقدمهم أثناء المسير على هيئة عمود من النار يضيء الليل ، ويبدو في النهار شاخصاً على شكل أو هيئة من العُتمة ، ويخاطبهم ! ! كلهم ، إذ لم يكن النبي موسى كليم الله وحده آنذاك ، لقد كلم الله هارون أيضاً ، كما كلم مريم أخت هارون وموسى ، وكذلك خلت التوراة من أي ذكرٍ للجنة بالمفهوم الأخروي ، إنما ذكِـرَتْ فقط أثناء الحديث عن جنة عدن التي طـُرد منها آدم .
     لقد تميز كتاب التوراة بأسلوب سردي مفعم بالحيوية إلى جانب كونه أسلوباً ساحراً أخـّاذاً ، ويتضمن لغة أدبية عالية الصنعة ، على الرغم من تكرار ألفاظ القتل وصفات الدم المتناثر ووقائع الإبادة الجماعية التي تقشعر لها الأبدان ، بناء على مقولة تزر الوازرة وزرَ الثانية التي إرتكبها الآخر ، علاوة على الإنحدار الأخلاقي لمنظومته القيمية تجاه السلوك البشري السوي ، للدرجة التي جعلت من كتاب التوراة مصدراً أساسياً في تفكير أتباعها وباعثا للإلهام لهم ، كي يقوموا بحفر أنهار الدم ، فعلى سبيل المثال ، يؤكد الكاتب والمحقق يوسف زيدان على الحقيقة التالية :
     “لقد إنقلبت في التوراة منظومة القيم الإنسانية رأساً على عقب ، وصار القتل مباحاً ما دام يتم بإسم الرَّب ص 58 . . .
إضافات لا بد منها
    إنَّ بعض ما ورد على شكل معلومات في كتاب التوراة التي منها ما ورد في : خروج ، الإصحاح الثاني ، السِفر ـ 1 ، إذ يورد الإصحاح الأقوال التالية : “ذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي ، فحبلت منه وولدت إبناً ! !” . . فمَنْ هذا الرجل ومنْ هي الفتاة اللاوية ، كلا الشخصيتين مجهولتان ، إنّ هذا الإبن هو “النبي موسـى” بالذات ، والتوراة أو كتبة التوراة لا يعرفون إسمَ أمه ، والدة النبي موسى ، وستزداد دهشـتنا حين نعلم : إنّ سِـــفر الخروج هذا ! ! . . هو جزء أساسي من الأسفار الخمسة التي هي : تكوين ، خروج ، لاويين ، عدد ، تثنية ، تتضمن النصوص الكاملة لما يُسمى بـ : أسفار موسـى الخمسـة التي يُطلـَق عليها (التوراة) .
     أما الكتاب الذي يُطلـَق عليه (العهد القديم) فيثير لدينا تساؤلاً حول كيفية تمكن كتبة التوراة من التوصل إلى فرضية “إحكام” النسب من إبراهيم إلى نوح ثم وصولاً إلى “يقين” منتظم من أسماء أفراد الأرومة بشكل متصاعد ، حتى آدم ـ جد البشر الأول ـ عبر تسلسلٍ “موثـوق” من الأسماء والتواريخ ، في حين أنهم لا يعرفون النسب الحقيقـي لصـاحِـب الدعـوة الدينيـة :
    النبي موسـى ؟ ! .
    الإعتراضات المنطقية على كتاب التوراة كثيرة جداً ، نأخذ الرابعة منها التي أشارت إليها موسوعة الحضارة ـ على سبيل المثال وليس الحصر ـ الذي ذكره الأستاذ وول ديورانت عبر قوله التالي :
    “إنَّ العهدَ القديم هو كتاب تشريع وتاريخ الأمة العبرية رغم ما إحتواه من أغلاط تاريخية تفقده بالضرورة ، الخاصـِّية المتعلقة بمصدرية الوحي من السماء ، وتجبر الباحث ـ أي باحث جاد ورصين ـ على الإستخلاص بكونه مجرد إقتباسات مقتطعة من أفكار وقوانين حضارة بابل والحضارة الآشورية والحضارة الفينيقة والحضارة المصرية القديمة وأساطر الجزيرة العربية”  .
     أما فيما يتعلق في الجانب الديني المسيحي فقد رفض كلٌ من بولس ومتي الربط بين اليهودية والدين المسيحي ، وكان هذا الرفض خجولاً بعض الشيء ، في حين أنَّ متي أول مـَنْ ربط السيد المسيح بنسل داوود .
    وكان الرفض القطعي يعود إلى مرقيون (العقيدة المرقيونية) في منتصف القرن الثاني الميلادي ، سـنة 144 م ، ويرى مرقيون أنَّ إله التوراة إلهاً جاهلاً ، ويلخص القمص نادر ملطي ـ الباثرولجي ، ص 324 ، تلك المعلومات والإستنتاجات على الوجه التالي : “كان مرقيون يزدري ويأنف من إله اليهود ، وكذلك يرفض كتاب العهد القديم” ، ولقد عـُد مرقيون هرطيقياً في نظر الكنيسة .
     وسنذهب إلى القرن السادس عشر ، كي نتوقف أمام الفيلسوف اليهودي الهولندي ياورخ سبينوزا الذي قال : “إنَّ شقاء اليهود وشقاء العالم من اليهود يكمن في عدم إيمان اليهودي بالدين فقط ، و “عدم” تخلصه من أسطورة (شعب الله المختار) و”عدم” تخلصه من العصبية القومية ، “مما” يتيح لهم التنعم بالأمن والسلام في كل مكان ، خصوصاً إذا حافظوا على الفضائل وإلتزموا شرائع الدين وأسقطوا فكرة (أرض الميعاد) ، لأنَّ الله لا يشترط لعبادته مكاناَ جغرافياً بعينه) ، إبراهيم دسوقي ، ص 33 .
   وإذا شئنا الإنتقال إلى أحد الكتاب العرب المسلمين المعتبرين ، فسنتطرق إلى الكاتب الكبير المرحوم إبن حزم الأندلسي ، وكتابه الموسوم بإسم : الفصل في الملل والأهواء والنِحَل ، فقد ورد في الجزء الأول منه وعلى الصفحة 197  بالتحديد ما يلي :”كانت كتابة عزرا للتوراة بعد أزيد من 70 عاماً على خراب بيت المقدس ، وإدعوا كذباً وزوراً أنَّ توراة موسى الأصلية فـُقِـدَت ، وإنَّ جبريل ـ لقيَ عزرا فلقنه التوراة ، وإنه عرضها على العلماء فوجدوها مطابقة للتوراة الأصلية” . . .  ومن المعلوم للجميع أنّ إبن حزم في تناوله للتاريخ تتسم أعماله بالدقة التاريخية الموثوقة .
    ومن المفيد جداً ، إختتام عملية إيراد هذه الشهادات التاريخية بمصدر معاصر إستحوذت كتاباته في هذا المجال على التقويم الإيجابي لدقة إلتزامه الصرامة التوثيقية والتدقيق المتناهي في إيراد المعلومات التاريخية ، وإقران أعماله البحثية بإستنتاجات حديثة توصل لها الباحثون الغربيون الذين تعاملوا مع الوثائق وحرصوا على عدم الوقـوع في المطبات الأيديولوجية المناصرة للحركة الصهيونية ، ونعني به الدكتور الفقيد عبد الوهاب المسيري ، إذ تضمن كتابه المعنون :  مَنْ هم اليهود وما هي اليهودية ، الإستخلاص التالي :
    “ويبقى التوحيد اليهودي غير متكامل حتى القرن الثاني عشر الميلادي ـ القرن السادس الهجري على يد موسى بن ميمون ، إذ “قام موسى بن ميمون بتطوير عناصـر التوحيد في اليهودية وأكدها” ، ومن المعلوم أنَّ موسى بن ميمون ولـِد في قرطبة الأندلسية / الإسبانية في 20 آذار من سنة 529 هجرية ـ 1135 م ، وتوفي في العاصمة المصرية : القاهرة في عام 599 هجرية ـ 1204 م ، أي عاش في كنف الحضارة العربية الإسلامية وربما تأثر بأفكارها بشكل كثيف .

الإنتقال من الوضع الأيديولوجي في خدمة الذات اليهودية
إلى لعب الدور الإستراتيجي في خدمة أوروبا الإستعمارية
    
     وعندما غدت الحاجة إلى قوة عسكرية محلية في الوطن العربي ومحددة في خدمة التوجهات الإستعمارية الأوربية ، كانت الرؤية النابليونية : نسبة إلى الإمبراطور الفرنسي نابليون ، التي إستشف فيها الإمبراطور الفرنسي أهميتها الإستراتيجية ، وكذلك ، سارت في ظلها الرؤية السياسية البريطانية مثلما مشى الوعي الأوروبي السـياسـي في دروب هذه الرؤية الإستراتيجية والسير على خطاها ، وبادرت تلك القوة العسكرية التي هي طور الإنشاء ، أي الجسم البشري اليهودي وقيادتهم الحركة الصهيونية العالمية ، للتطوع في خدمة هذه الرؤية السياسية الأوربية .
     إذ إلتقت مصالح الطرفين للحفاظ على المصالح الأوروبية عبر تشكيل مخفر عسكري لحماية قناة السويس : تلك المنطقة المركزية للمصالح الأوربية الصناعية الرأسمالية ، وأهميتها التجارية من خلال إختصار خطوط النقل المائية بين الشرق والغرب بدلاً من المرور حول الرجاء الصالح الطويل والمكلف في مضمار النفقات ، من ناحية ، ولِعْب دور الحاجز البشري بين المشرق العربي والمغرب العربي ، من ناحية ثانية ، وهو الإستنتاج الذي توصل له القادة العسكريون الأوربيون بناءً على قراءة واعية لدروس الحروب الصليبية على الوطن العربي ، ودور الوحدة العربية الإسلامية في دحر هجماتها والقضاء النهائي عليها بعد قرنين من الحروب المتواصلة أو المتقطعة .
     إن قراءة الوثائق التاريخية الأوربية بهذا الصدد تعطينا الدلائل الملموسة على كيفية إنتقال هذه الكتلة البشرية من العمل على أساس المعتقدات الدينية لبناء الذات العنصرية ، إلى لعب الدور السياسي في سبيل الآخر كمرحلة لابد منها لتجسيم الذات السياسية اليهودية عبر الحركة الصهيونية العالمية ، ولعل من بين أبرز هذه الوثائق التي تدلل على هذا الإنتقال ، هي الوثيقة الفكرية والسياسية المسماة بوثيقة : “كامبل بانرمان” الذي هو إسم رئيس الوزراء البريطاني في يدايات القرن العشرين ، التي ورد نصها في الكتاب الثمين الذي رأى النور بإسم :  العرب واليهود في التاريخ : حقائق تاريخية تظهرها لمكتشفات الآثارية ، تأليف الدكتور المهندس أحمد سوسة ، الطبعة السابعة الصادرة عن العربي للطباعة والنشر والتوزيع ، دمشق سوريا ، دون تاريخ .
     ففي الفصل الثامن والمعنون فلسطين في خطط الاِستعمار الأوروبي ـ مقررات مؤتمر كامبل بنرمان لسنة 1905 أو مؤتمر لندن ، القسم الخامس ،  الذي يبتديء من الصفحة 725 وحتى 731 ، يورد العالـِم الكبير المرحوم الدكتور أحمد سوسة نص البرنامج السياسي لأوربا الغربية تجاه الوطن العربي ، والدور المخصص لليهود في السنوات المقبلية خلال العقدين الأولين من القرن العشرين .
     ونص ذلك التقرير البرنامج المرتبط بدور اليهود في تنفيذ بعض بنودها ، وعلى أية حال فإنَّ الوثيقة التي نتجت عن هذا المؤتمر الهام الذي شارك فيه العلماء والسياسيين و”المؤلف من مشاهير المؤرخين وكبار علماء الاِجتماع والجغرافية والاِقتصاد والتاريخ والنفط والزراعة والاِسـتعمار في دول الاِتحاد” الأوربي ، التي عزمت على “تشكيل جبهة اِستعمارية موحدة من الدول ذات المصالح المتوافقة في العالم آنذاك وهي : بريطانيا وفرنسـا وبلجيكا وهولندا والبرتغال وإيطاليا وأسبانيا” إضافة إلى العديد من المفكرين الإستراتيجيين كان إنقاده يهدف للبحث في كيفية تأبيد الحضارة الأوربية السائدة إلى الأبد .
      مثلما حضره البروفيسور جيمن جيمس مؤلف كتاب البحوث التاريخية المشهورة وزوال الإمبراطورية الرومانية ، ولوي مادلين الأستاذ في السوربون ومؤلف كتاب نشوء وزوال إمبراطورية نابليون ، وليستر الأستاذ في جامعة لندن ، ولتسنخ ، وسميث ، ودرتنج ، وزهروف وغيرهم ، من مشاهير العلماء والأساتذة” ، ص 727 ـ 728 ، وأكد العلماء المؤتمرون على حقيقة :
      كون الشعب العربي الواحد والأمة الواحدة عبر النص التالي الذي أمكن الإطلاع علية ـ كما يرد ذلك في الكتاب الضخم المؤلف من 1014 صفحة ، وعلى الصفحة 730 ـ “إنّ الخطر ضد الاِستعمار في آسيا وفي أفريقيا ضئيل. ولكن الخطر الضخم يكمن في البحر المتوسط ، وهذا البحر هو همزة الوصل بين الغرب والشرق، وحوضه مهد الأديان والحضارات ، ويعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد تتوافر له وحدة التاريخ والدين واللسان ، وكل مقومات التجمع والترابط ، وهذا فضلاً عن نزعاته الثورية وثرواته الطبيعة ، فماذا تكون النتيجة لو نقلت إلى هذه المنطقة الوسائل الحديثة وإمكانيات الثورة الصناعية الأوروبية ، واِنتشر التعليم فيها واِرتفعت الثقافة ؟ ! إذا حدث ما سلف فستحل الضربة القاصمة حتماً بالاِستعمار الغربي” .
ومن ثم يقترح برنامجاً للحفاظ على التخلف الذي يسود سكانه البالغة عددهم يوم ذاك حوالي 35 ملوناً ، وتمزيق المنطـقـة بتجزتها سياسياً ، في إطار سياسة فصل السواحل عن الدواخل ، وإقـامة حاجـز بشــري يفصـل المشــرق العربـي عن المغرب العربـي ، قـوي وغريـب . . . قـوة صديقة للاِستعمار وعدوة لسكان المنطقة” ص 731 ، ويُفضل من اليهود .
ومن المعلوم أنَّ المؤلف المولود في مدينة الحلة العراقية قد نال الدكتوراه في الهندسة والفلسفة من الجامعات الأمريكية ، ومن جامعة جونر هوبكنز على وجه التحديد ، وذلك في العام 1929 بدرجة الشرف ، وله نشاطات فكرية كثيرة ومتعددة الجوانب ، فهو إضافة إلى اِنجازاته الوظيفية ومساهماته في تأسيس جمعية المهندسين العراقيين سنة 1938 ، ومشاركته في تأسيس المجمع العلمي العراقي سنة 1940 والمقالات والتعليقات في الجرائد والمجلات ، فهو مؤلفاً لخمسة وأربعين كتاباً في مختلف صنوف العلم والمعرفة في الهندسة ، والري ، والتاريخ وإلخ . . . ،  منها ثلاثة وعشـرون مؤلفاً باللغة العربية وسبعة كتب باللغة الإنكليزية ، وله حالياً كتابان هما الشريف الإدريسي في الجغرافية العربية و”ري العراق القديم” الذي أصدرته كلية الهندسة التي تبنته كمرجع دراسي ، والدارس لمؤلفات أحمد سوسة ـ كما يقول إلياس بيطار الكاتب للموجز عن حياة المؤلف أي أحمد سوسة ـ يجد أنها جميعاً لم تكن سوى اِمتداداً لطفولته المثيرة في مكانها وزمانها وأنها لم تكن سوى علامات على درب مسيرته الكبرى “العرب واليهود في التاريخ” الذي هو خلاصتها أو في أساسها جميعاً لاسيما كتاباه الضخمان “الري والحضارة” و”فيضانات بغداد في التاريخ” تجدر الإشارة إلى أنه اِعتنق الإسلام في العام 1932 بعد أنْ كان قد وُلـِد لعائلة موسوية في العام 1900 ، وهذا الأمر كله من حيث البعد الثقافي والعلمي الموسوعي يعطينا الحق بالقول إنَّ نظرته العلمية ناجمة عن تبصر عميق صادرة من فرد عاش في داخل تلك الرؤية السياسية والإجتماعية بالرغم من تمرده عليها .  .   
 “وينبغي التذكير هنا ، بأنَّ الأستاذ هيكل قد ذكر في كتابه الأول عن المفاوضات السرية بين العرب واليهود ، إلى أنَّ “سنة 1904 توصلت بريطانيا وفرنسا إلى الاِتفاق الودي بينهما” ، [ص 79]   ، وهو ما يعني التوافق الأوروبي على تحديد تخوم الدور اليهودي في نطاق خدمة الحلقة الإستعمارية الجديدة وموافقة اليهود والحركة الصهيونية على لعب ذلك الدور بإنتظار تغير الظروف للعمل تالياً في سبيل خدمة الذات “القومية” العنصرية . .