بالرغم من الخطوات القليلة والمتعثرة لديمقراطيتنا، إلا إن هناك الكثير من هو مدين لها، من دول ومنظمات ومفكرين. عدا الشعب العراقي الذي أذاقته ديمقراطيته المرارة والخذلان.فهي لم تستوفِ ابسط مقومات الديمقراطية ومع ذلك فان فرسانها يراهنون على إنها الأنموذج الأمثل للديمقراطية في الشرق الأوسط. الديمقراطية العراقية نبته غريبة، زرعت في ارض لا تصلح لها، وعلى خلاف العادة، أثمرت هذه الديمقراطية، لكن شوكا! وللأسف، هناك من يرعى هذه النبتة ويقدم لها مقومات البقاء من وصوليين وسذّج.
بدايةً لا ضير من اعتبار ديمقراطيتنا تنتمي إلى الخط الذي يقول بان الديمقراطية هي مجرد شكل للحكم،( وحتى هذا الافتراض، ثمة ما يدحضه، فباعتبار إن الانتخابات هي الركن الأساسي له، يشير بعض الباحثين القانونيين إن نسبة النواب الذين تم انتخابهم فعلا! دون دفع!! من رئيس الكتلة، أو من القانون الذي سنّه رئيس الكتلة لا يتجاوزوا نسبة 20% من النواب!! فأي ديمقراطية هذه؟). لكن أن تكون بيد أناس بعيدين كل البعد عنها، فانه يجعلها اقرب إلى الفوضى منها إلى النظام. ذلك إن النظام السياسي ينبغي أن يكون انعكاسا للنظام الاجتماعي في أي بلد، لكن في العراق، وبالرغم من الادعاء القائم بأن شرعية السلطة في العراق مستمدة من انتخاب الشعب لها، نلاحظ الكثير من التقاطعات والاختلافات بينها وبين الشعب، فالمجتمع العراقي بكل أطيافه، لم يكن يوما متناحرا عدا بعض الفترات التي شهدت التي شهدت احتقانا طائفيا، وقد ولت، وللأبد. أما النظام السياسي، فلم يخلُ يوما من الأزمات، ومفردة الثقة بين أفراده مختفية، فيا ترى: هل حقا إن الأطراف السياسية المتصارعة على المكاسب والامتيازات، هي فعلا تمثل العراقيين؟ الطامة الكبرى لا تكمن هنا، بل إن السياسيين في العراق، لا يملكون ابسط مقومات تسنم المسؤولية، وهي المواطنة، فالإحساس بالانتماء إلى الوطن غائب، والشعور بتمثيل البلد بأكمله غير موجود في أذهانهم، وإلا كيف نفسر قيام بعض المسؤولين بزيارات مشبوهة إلى دول مجاورة، بصفتهم يمثلون مكون معين، بينما هم يشغلون مواقع حكومية رسمية، ومن الأمثلة التي لا تحصى على كلامنا هذا، قيام مسؤول برلماني كبير بزيارة دولة جارة ، في الوقت الذي كانت فيه علاقتنا الرسمية معها متوترة، وما أشيع في الإعلام، إن هذا المسؤول (الرفيع) قد زارها لاستعراض العلاقات الثنائية بين البلدين!! وأصبحت الدول توجه الدعوات إلى قادة كتل، لها قدم في الحكومة وقدم في..! وسياسيون منقادون إلى مرجعيات هي الأخرى منقادة إلى جهات لا يعلمها إلا الراسخون في السياسة! فإلى جانب انغلاقهم العقائدي، وتكفير الآخرين، سياسيا ودينيا، نراهم يعانون من مراهقة سياسية، فهم اليوم يلزمون أنفسهم أخلاقيا بأمر ما، وغدا يعتبرونه امرا منسيا. يرى على حرب : إن الديمقراطية تفترض مواطنا حرا، قادرا على الاختيار، لا عبدا مؤمنا يعتقد بأن ثمة من هو أولى منه بنفسه. فكيف بمسؤول ارتضى أن يكون مجرد عين لغيره! مشكلة السياسيين عموما، هو إن ولاءهم مطلق!! ليس للعراق طبعا، إنما لرفاقهم القدماء الذين آووهم أيام المحنة، فما جنوه من الديمقراطية لا يكفي لنقل ولاءهم لها. إذا، مشكلة الديمقراطية العراقية بالدرجة الأولى لا تكمن بماهيتها، ولا بطبيعتها المختلفة عن الديمقراطيات الأخرى، بل في السياسيين الذين قادهم القدر ليكونوا فرسانها. وقد كان لجون ديوي رأي في ديمقراطيتهم، نراها تنطبق حرفيا على ديمقراطيتنا، إذ يقول: إن التهديد الخطير الذي يواجه ديمقراطيتنا ليس هو وجود دول تسلطية شمولية خارجية، بل انه الوجود داخل مواقفنا الشخصية وداخل مؤسساتنا هو الذي يعطي انتصارا للسلطة الخارجية والنظام والهيمنة والاعتماد على(الزعيم) في الدول الأجنبية. ومن ثم أيضا فان ساحة المعركة، هي هنا، داخل أنفسنا ومؤسساتنا.
إذا: الديمقراطية العراقية، بحاجة إلى ديمقراطيين، أكثر من حاجتها إلى شعب يمارس الديمقراطية، أو ثقافة تسعى إلى تأصيل قيم الديمقراطية، وجعلها قيم وسلوك وممارسة. فعندما تتحقق الديمقراطية بالطريقة السليمة فإن هذا يعني إنها قد بدأت من النخبة المثقفة التي بدورها تقوم بتنوير المجتمع وتربيه على الفكر الديمقراطي، وبالتدريج ، تأخذ الديمقراطية منحى سياسي راسخ. أما في الديمقراطيات المصدرة من الخارج، والتي هبطت مع القاذفات الصواريخ، فإنها غالبا ما تبدأ من قمة الهرم السياسي، باتجاه تثبيت دعائمها في أوساط المجتمع، لكن للأسف، نحن لا نملك سوى حفنة من السياسيين لا يفقهوا من الديمقراطية سوى إنها سلّم إلى السلطة، وقناع يستترون به خلف وجوههم الحقيقية، المكتظة بالاستبداد و التخلف . يقول علي حرب: إن الديمقراطية تتنافى مع العقل العقائدي، سواء كان هذا العقل دينيا أم كان غير ديني…ذلك إن العقل العقائدي والإيديولوجي عموما، يؤول إلى وحدانية السلطة ومن ثم إلى ممارسة الاستبداد والطغيان…
فما بالك إن غالبية الساسة في العراق هم من أصحاب العقائد! وانتماؤهم إلى مصالحهم أكثر من انتمائهم إلى طوائفهم، وبعد كل هذا، نأتي نحن ونطلب منهم الانتماء إلى العراق! والشعور بالانتماء والإيمان بالمواطنة هما ابسط مقومات الديمقراطية كما قلنا. فمن الطبيعي أن تكون الساحة السياسية مفخخة بالأزمات، ذلك لأنها لا تملك ديمقراطيا واحدا يمكنه تطهيرها من الممارسات الاستبدادية التي تنخر جسدها، ذلك الجسد الذي سالت ولا تزال تسيل له لعاب حرّاسه. فكأن علي حرب يقول انه ليس غريبا أن تتولد دكتاتورية من رحم ديمقراطية هجينة!
ثم إننا لا نفهم إن ثمة ديمقراطية غير قادرة على تحديد فلسفة حكم الدولة، أو عاجزة عن وضع خارطة سياسية تحدد ملامح توجهات الدولة، فالدستور الذي تقول مادته الأولى ( جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي( برلماني) ديمقراطي، وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق ) . فأين هي الوحدة التي ضمنها هذا الدستور، وكل يوم يطل علينا محافظ يهدد ويتوعد بإعلان محافظته إقليما، وآخر لا تفارق لسانه مفردة الانفصال! فأين هي الوحدة إذا؟ ثم انه لا يوجد نظام في العالم لا هو مركزي ولا فيدرالي، فهناك إقليم كردستان، إلى جانب محافظات غير منتظمة بأقاليم، وتسمية الشمال بإقليم يعتبر لفظة مهذبة لو قورنت بالواقع الذي لا تختلف في العلاقة بين الإقليم والمركز عن العلاقة الكونفيدرالية، بل إن الكونفيدرالية، بما تعنيه من وجود اتفاق بين دولتين أو أكثر، على وجود مظاهر متعددة للتعاون بينهم، تستدعي وجود روابط بين هذه الدول، أكثر من الروابط بين حكومة المركز وحكومة إقليم كردستان! إذ إن محور هذه العلاقة لا يتعدى الأموال والنفط!!
إن الديمقراطية، كما يذهب الجابري ( غير مؤسسة في الوعي العربي ) بمعنى أنها لم تتحول بعد إلى قضية أو طرح عام تنتجه مؤسسات تسعى لتأصيله في الفكر الجمعي، وجعله مرجعا للسلوك اليومي للأفراد. فإذا ما أردنا تقويم ديمقراطيتنا، فان هذا الأمر يقع على عاتق المثقفين الذين يتحملون عبئ تأسيس فكر حر، ورؤى تنويرية، تحررية تكون اللبنة الأولى لبناء فكر ديمقراطي تكون أهدافه بناء دولة المؤسسات، وخلق طبقة سياسية تمارس الديمقراطية بإيمان ووعي، وان ترى فيها طريقة لبناء دولة حديثة، لا غطاء لممارسة النهب.