بعد احتلال العراق عام 2003 ، كنتُ اول من سعى لتأسيس فضائية تلفزيونية خاصة في بغداد ، وحيث انني كنت حريصا على ان تتم الأمور بصورة قانونية واصولية ،وان لا اصادف اعتراضات لاحقة ، سعيت للحصول على تصريح شرعي باطلاق الفضائية ، الا انني لم اهتدي الى الجهات التي ينبغي علي مراجعتها كي احقق هدفي الاعلامي الطموع . ولا ما هي متطلبات منح الترخيص و ماهي شروطه ومن هو الذي يمنحه . وقد عجزالذين سألتهم عن تسمية الجهة المخولة في العراق المضطرب بمنح او حجب تراخيص تأسس محطات تلفزيونية او إذاعية .
وبعد نصائح عشوائية تخمينية ومتاهة غير مجدية لعدة أسابيع بين دوائر عراقية تقليدية ودوائر تابعة لقوات الاحتلال ، لم يشفِ احد منهم غليلي بالمشورة المؤكدة ، فقررت مراجعة اعلى هيئة عراقية رسمية آنذاك ، الا وهو مجلس الحكم ، وقد يسر لي بعض المعارف الوصول الى رئاسة المجلس وكان آنذاك مام جلال طلباني رئيس مجلس الحكم في ذلك الشهر(نوفمبر 2003) ..
وهناك ، في مكتب واسع بمبنى مجلس الحكم نصحني الأمين العام ان اكتب طلبي الان وسيقدمه فورا للرئيس وحيث اننا لا نعلم فيما اذا كان من حق الرئيس الشهري ان يجيز او ان يمنع ، كتبت صيغة خاصة يفهم منها انها طلب موافقة كما يفهم منها انها اشعار باطلاق قناة ويكفي ان يكتب ” عُلم “.
بعدها جاءني جواب الرئيس بخط يده في ذيل طلبي ” يراجع وزارة الاتصالات “. التي كنت قد راجعتها من قبل وقالوا انهم لا يملكون اية تعليمات او صلاحيات في هذا الخصوص ، وكان جوابهم ذاته هذه المرة أيضا وانا اقدم لهم توقيع رئيس مجلس الحكم الشهري .
وسيطرت فترة متاهة عشوائية لتأسيس الاوكار الإعلامية العلنية وخاصة الصحف والمجلات ، الى ان بدأت إدارة شؤون الاعلام والاتصالات تنتظم في العراق وفق قرار بريمر رقم 65 الذي تم تشريعه بشكل انتقالي ومرتجل والذي تأسست وفقه ” هيئة الاعلام والاتصالات ” وما زالت تعتمد عليه بالرغم من صدور الدستور العراقي ، وتؤكد النائبة ميسون الدملوجي رئيسة لجنة الثقافة والاعلام النيابية (.. ان هيئة الاعلام والاتصالات الحالية التي تجني مليارات الدولارات من الهواتف النقالة والفضائيات مازالت تعمل بقرار بريمر رقم 65 الذي تم تشريعه بشكل انتقالي ولم يعد صالحاً)
وطوال اثنتي عشرة سنة لم تعمل الهيئة على تطوير عملها والاستفادة من تجارب الاخرين في دعم المؤسسات الإعلامية مع ان الإدارات المتعاقبة على هيئة الاعلام والاتصالات نظمت ورشات عمل ومؤتمرات كبيرة ومهمة بدعم من منظمات دولية واممية حول الأطر القانونية والتنظيمية للبث الإعلامي وحول مستقبل الاعلام العراقي . ولعل من ابرزها مؤتمر باريس عام 2007 بمساندة ودعم اليونسكو وكان منبرا لمناقشة استقلالية الاعلام وقانون الاتصالات وخدمات البث والتعديلات اللازمة إدخالها على القوانين العراقية ثم كان مؤتمر عمان بمشاركة مهمة وواسعة لاعلاميين عراقيين وممثلين عن الهيئات التشريعية والتنفيذية ناقشوا بصراحة وحرية شؤونهم المهنية والعلاقة مع هيئة الاعلام والاتصال .
وكأغلب المؤتمرات وورشات العمل العراقية المتخصصة والمصروف عليها بسخاء بقيت قراراتها وتوصياتها دون تنفيذ ولا متابعة ولا اهتمام لا من الدولة ولا من ذوي المصلحة المهنية واتسمت العلاقة بين الهيئة والمؤسسات الإعلامية بالفتور وانعدام التشاور المستديم لمعالجة ما يطرأ من إشكالات تطبيقية وهو امر كان يمكن ان يتحقق بسهولة لو ان الهيئة حرصت على اقامة علاقات تعاونية سليمة معهم والتشاور المهني قبل اتخاذ قرارات واجراءات مبنية على تصورات واجتهادات سلطوية ، تطبقها الهيئة حتى دون مناقشتها مع أصحاب الهم وان تسمع وجهات نظرهم !!
وقد منحت الهيئة نفسها سلطات رقابية وفرضت على الفضائيات عقوبات وغرامات قسرية لا ينظمها قانون او ضوابط واضحة في الوقت الذي لا توجد فيه رقابة على الصحافة العراقية ولا مواقع الانترنيت.
وقد اقرت لجنة الثقافة والاعلام البرلمانية في 5 أب 2012 في كتاب موجه الى هيئة الاعلام والاتصالات بعدم وجود آلية لتحديد مبلغ الغرامات، مما يثير تساؤلات عن كيفية احتساب مثل هذه الغرامات.” وتنتقد اللجنة البرلمانية الهيئة “.. لفرضها غرامة مالية لعرض مقاطع من أفلام اعتبرتها الهيئة “إباحية فاضحة”، وهي أفلام كلاسيكية وتعتبر من روائع السينما العالمية، ومنها مثلاً (مكبث) لشكسبير و(روميو وجوليت) لشكسبير أيضاً وفلم (طار فوق عش المجانين) الذي ربح عدة جوائز أوسكار)
والاطرف من هذا ان هيئة الاعلام والاتصالات فرضت مرة غرامة على قناة الديار بقيمة عدة ملايين دينار لظهور صورة امرأة جذابة معلقة وراء شخص في احد الأفلام اعتبرتها الهيئة فاضحة واباحية بينما هي عن لوحة فنية معروضة في المتاحف وقد يعلق الكثيرون مثلها في بيوتهم ، وقد توجد مثيلاتها في بعض الكتب المدرسية … فاية حماقة رقابية متزمتة هذه !!
** الامر الاخر ، ان هيئة الاعلام والاتصالات ابتكرت لنفسها حقا وهميا على البث الفضائي فطالبت بمبالغ طائلة مقابل ما سمته ” الطيف الترددي” وهو ينطبق على الموجات الاذاعية المخصصة للبث الأرضي وفق أنظمة الراديو الدولية وهذا الامر لا ينطبق على البث الفضائي اطلاقا ، فالفضائيات تستأجر تردداتها مباشرة من الاقمار ، وليس لاي دولة سلطة على تلك الاقمار ، ولا تحتاج اي قناة فضائبة لطيف ترددي محلي ـ ولو كانت الهيئة تريد ان تجبي رسوما على الفضائيا ت بإمكانها ان تجعلها رسوما صريحة وفق قانون اصولي لا ان تبيع ما لا تملك
ومؤخرا وصلت لجنة الثقافة والاعلام النيابية الى قناعة بأهمية تطوير التشريعات الخاصة بالاعلام فنظمت قبل أيام ورشة عمل بمشاركة مستشارين قانونيين وإعلاميين حول قانوني (جرائم المعلوماتية) و(هيئة الاعلام والاتصالات) ، بتمويل من الاتحاد الأوروبي وتنفيذ صندوق التنمية الإعلامية للبي بي سي. لدراسة قوانين الدول المختلفة في التشريعين أعلاه، للخروج بنصوص قانونية رصينة لصيانة الحريات التي كفلها الدستور ولتعزيز الإصلاحات البرلمانية ويلبي المطالب الشعبية في مكافحة الفساد والمحاصصة . كما صرحت رئيسة اللجنة البرلمانية للثقافة والاعلام .
عسى ان يصدر هذا القانون ويطبق لا ان يكون مصيره كمصير قانون شبكة الاعلام الذي صدر وما زال في الثلاجة