مع الإعلان -الغير رسمي – للمرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الامريكية دونالد ترامب ، بدأ المراقبون والمحللون السياسيون في الغرب ، يضربون الاخماس والاسداس ، حول طبيعة العلاقة التي ستكون بين الرئيسين فلاديمير بوتين ، والرئيس الأمريكي المنتخب ، وأطلقوا العنان لآرائهم واقتراحاتهم واحيانا أخرى لتساؤلاتهم ، عن طبيعة العلاقات الامريكية الروسية المستقبلية ، فاليوم وصلت تلك العلاقات الى أدنى مستوى لها ، وبالطبع بسبب السياسات الخاطئة التي سار عليها الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن تجاه روسيا ..
والمتتبع للعلاقات الامريكية الروسية، خلال فترة حكم دونالد ترامب السابقة ( 2016 – 2020 ) ، يرى انها لم تكن في أحسن أحوالها ، ففي تلك الفترة أصدر ترامب العديد من القرارات والعقوبات الاقتصادية ضد روسيا ، وكذلك الانسحاب من العديد من الاتفاقات الاستراتيجية الموقعة بين موسكو وواشنطن ، كما أنه أول من صدر الأسلحة أمريكية إلى أوكرانيا، ولاسيما صواريخ “جافلين” الموجهة المضادة للدبابات ، وأن الصيغة التي تم التعبير عنها في اجتماعات “الناتو” ، سيتمتطبيقها في عهد ترامب الجديد ، وهي أن “أوكرانيا وحدها لن تتمكن من وقف روسيا “.
واليوم أختار الرئيس الروسي منتدى فالداي الدولي للحوار ، باعتباره واحدة من منصات التفاعل الرائدة في العالم ، بين اهل النخبة الفكرية والسياسية الروسية والدولية مكانا مناسبا ، لأرسال إشارات مهمة الى الرئيس الأمريكي المنتخب ، أولها تهنئته لدونالد ترامب عقب انتخابه رئيسا جديدا للولايات المتحدة الأمريكية ، واستعداده لإجراء حوار مع ترامب، و أن موسكو مستعدة للعمل مع أي رئيس أمريكي يثق به الشعب الأمريكي، و أن تصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية “تستحق الاهتمام“ ، لأن روسيا منفتحة على إعادة العلاقات مع الولايات المتحدة إلى مجاريها، وقال ” نحن لم نفسد العلاقات معها، مشيرا إلى أن الكرة في ملعبهم الآن ” ، في إشارة واضحة على استعداد روسيا لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين روسيا وامريكا ، على أساس الاحترام المتبادل للمصالح المشتركة ، ليس مع واشنطن فحسب ، وانما مع جميع الأطراف الأخرى ، وأنه يحاول عدم إفساد العلاقات مع أي من زعماء العالم الآخرين ، إشارات تلقاها الرئيس الأمريكي المنتخب ، والذي أعرب معلقا على آفاق الاتصال بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، عن اعتقاده بأنه سيكون هناك حوار بينهما.
وروسيا التي لم ترفض قط مواصلة الحوار في مجال الاستقرار الاستراتيجي، ولكن الرئيس بوتين لم يفصح عن السر الذي يعرفه الجميع في العالم ، والذي دعا الولايات المتحدة وتابعوها بتسليط كل تركيزهم وأهدافهم على إلحاق الضرر بروسيا ، لكنه اكد أيضا ، ردا على سؤال، كيف ترى روسيا إمكانية الحفاظ على استقرار الإمكانات النووية ، عندما تنتهي معاهدة الأسلحة الهجومية الاستراتيجية (ستارت-3) ، تلك المعاهدة التي حدت من عدد الصواريخ الباليستية العابرة للقارات ، وبعض الصواريخ الأخرى والرؤوس الحربية النووية ، العائدة لروسيا والولايات المتحدة ، وقال “أن بلاده باعتبارها قوة نووية، تتفهم مسؤوليتها تجاه العالم ومستعدة لمناقشة الاستقرار الاستراتيجي” ، وأنه يجب على الجانب الآخر أن يكون صادقا، مع أخذ جميع جوانب العلاقة في الاعتبار.
وكما هو معروف ، ومنذ ان بدأ الرئيس الأمريكي المنتخب حملته الانتخابية ، صرح وكرر مرات ومرات قدرته على ” حل الازمة الأوكرانية خلال 24 ساعة ” ، ” وانه لو كان رئيسا لما بدأت الحرب في أوكرانيا ” ، وغيرها من التصريحات الرنانة حول الموضوع ، وبالطبع هناك عدة مسلمات عديدة لا يمكن للرئيس المنتخب ان ينفذ وعده بهذه السرعة لحل الملف الاوكراني ، ( سنعود اليها في مقال خاص ) ، وما يهمنا ماهية الإشارة التي أرسلها ، الرئيس الروسي الى نظيره الأمريكي الجديد القديم ، في حديثه في منتدى فالداي الدولي حول الموضوع ، حيث اكد بوتين أيضا إن موسكو مستعدة لإجراء مفاوضات سلام بشأن أوكرانيا ، ولكن ليس على أساس “رغبات” كييف، بل على أساس مفاوضات إسطنبول وحقائق اليوم” ، وأن المفاوضات بشأن أوكرانيا “لا ينبغي أن تكون هدنة لمدة نصف ساعة أو ستة أشهر حتى يتم تسليم القذائف إلى كييف“ ، وان موسكو مصممة على تهيئة الظروف لتسوية طويلة الأمد، وأن تصبح أوكرانيا في نهاية المطاف دولة مستقلة ذات سيادة ، والتشديد على أن علاقات حسن الجوار الروسية الأوكرانية مستحيلة بدون حياد كييف، وعلى أن ذلك هو الشرط الأساسي حتى لا تصبح أوكرانيا أداة في الأيدي الخطأ.
كما أن الحدود بين أوكرانيا وروسيا ، يجب أن تمتد على طول الخط الذي حدده القرار السيادي لسكان دونباس و نوفوروسيا، الذين انضموا إلى روسيا بعد الاستفتاء ، موضحا أن مزيدا من تطور الوضع سيعتمد على ديناميكية الأحداث ، والإشارة إلى القرار الشرعي لسكان الأقاليم الأوكرانية السابقة ، بإعلان الاستقلال والانضمام إلى روسيا، وهو قرار يحميه القانون الدولي، فوفقا للمادة 1 من ميثاق الأمم المتحدة، التي اكدت انه لكل شعب الحق في تقرير مصيره، والشعب الذي يعيش في شبه جزيرة القرم ، والشعب الذي يعيش في جنوب شرق أوكرانيا ، والذي لم يوافق على الانقلاب – وهو عمل غير قانوني مناهض للدستور – ، له الحق في تقرير مصيره ، وبالتالي فإن “حدود أوكرانيا وكما أوضحها الرئيس الروسي ، يجب أن ترسم وفقا للقرارات السيادية للأشخاص الذين يعيشون في مناطق معينة والتي نسميها أراضينا التاريخية”.
وحرص الرئيس الروسي خلال حديثه ، على قطع الطريق بالمرة عن جميع التكهنات والأفكار الأخرى التي تتعارض مع الأسس في اتفاقية إسطنبول ، والتي لم يسميها بوتين ” شروطا ” ، لان هذه الأسس قد تم الاتفاق عليها في إسطنبول ، وعند التوقيع تراجعت كييف عن توقيعها ، بأمر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون ، وبالتأكيد جرى ذلك بالاتفاق مع الرئيس الأمريكي بايدن ، معربا عن أسفه لأن خصوم روسيا ( والمقصود هنا الغرب الجماعي ) يتبعون طرقا وأدوات جديدة، ويحاولون التخلص من روسيا ، والآن كأداة لذلك يستخدمون أوكرانيا والأوكرانيين الذين تم تدريبهم بشكل دنيء ضد الروس، ويحولونهم أساسا إلى وقود للمدافع ، وأشارة بأن روسيا ستحمي نفسها وشعبها، ولا ينبغي لأحد أن يكون لديه أي أوهام بشأن هذا، ولا يقتصر دور روسيا على الدفاع عن نفسها والحفاظ على نفسها، لإن وجودها هو مفتاح التطور الناجح للعالم ، “ وجود روسيا في حد ذاته هو ضمانة لاحتفاظ العالم بتعدد ألوانه وتنوعه وتعقيده،وهذا هو مفتاح التنمية الناجحة” ، وبالتالي ان موسكو ترفض أنصاف الحلول ، وتصر على ان تكون هناك مفاوضات جديدة ، تأخذ بالاعتبار جميع المخاوف الأمنية التي طالبت بها وتطالب بها حتى الان ، كأحد الأسس المهمة في أي مفاوضات مقبلة .
وتحت عنوان ” يحتاج المسيئون للاتحاد الروسي إلى فهم أن العالم لن يتحسن بدون روسيا“ ، ، أراد الرئيس بوتين أن يوضح لمن ، لم يدرك هذا الامر ، حيث كان لدى بعض الناس فكرة أن العالم سيكون أفضل بدون روسيا ، وحاولوا في ذلك الوقت ، إنهاءها ، وتدمير كل ما تبقى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، والآن، وبحسب تعبير بوتين ، على ما يبدو، يحلم شخص ما بهذا أيضا، معتقدا أن العالم سيكون أكثر طاعة، وسيحكم بشكل أفضل ، لكن روسيا أوقفت أولئك .. “فالعالم بدون روسيا لن يتحسن ، وأولئك الذين يحاولون القيام بذلك يجب أن يفهموا في النهاية أنه سيكون أكثر صعوبة” ، والتشديد على ان روسيا لا تبادر أبدا إلى استخدام القوة ، لكنها مستعدة لاتخاذ جميع التدابير للدفاع عن نفسها.. وعليها القيام بذلك فقط عندما يصبح من الواضح أن الخصم يتصرف بقوة .. وقال “وسنحقق أهدافنا دائما”..
ان العالم الحديث لا يمكن التنبؤ به.. وهذا أمر مؤكد.. وإذا نظرنا إلى الوراء 20 عاما وقيمنا حجم التغييرات، ثم توقعنا هذه التغييرات في السنوات القادمة، يمكننا أن نفترض أن العشرين عاما القادمة لن تكون أقل صعوبة، وإن لم تكن أكثر ، كلمات أراد الرئيس الروسي التذكير بها ، للرئيس الأمريكي المنتخب ، هو إن السنوات الـ20 المقبلة ، ستكون أكثر صعوبة ، وأن لا أحد يضمن عدم استخدام الغرب للأسلحة النووية ، والتأكيد أن هناك صراع بين مبادئ العلاقات بين الدول والشعوب ، في غضون ذلك يتحدث الخبراء عن تهديدات الصراعات الإقليمية الجديدة، والأوبئة العالمية، وعن الجوانب الأخلاقية المعقدة والغامضة للتفاعل بين البشر والذكاء الاصطناعي، وعن كيفية الجمع بين التقاليد والتقدم مع بعضها البعض .
والغرب الذي يؤمن وبشكل أعمى بإفلاته من العقاب ، وهذا ينذر بمأساة.. فروسيا بحسب تعبير الرئيس الروسي لا تريد تعليم أحد أو فرض رؤيتها للعالم ، ولا تعتبر الحضارة الغربية عدوا ، وأن الأسس السابقة للنظام العالمي غرقت في غياهب النسيان، ويتكشف الآن صراع حاد لا هوادة فيه ، من أجل المبادئ التي ستبنى عليها العلاقات بين البلدان والشعوب في المرحلة التالية ، فقد ذهب النظام السابق في العالم بلا رجعة كما يقول الرئيس بوتين ، ويمكن للمرء أن يقول ذلك، لقد ذهب بالفعل ، وهناك صراع خطير لا هوادة فيه، صراع من أجل تشكيل نظام جديد ، موضحا في الوقت نفسه أنه “لهذا السبب، هذا ليس حتى معركة على السلطة أو النفوذ الجيوسياسي، إنه صدام بين المبادئ إياها التي ستبنى عليها العلاقات بين الدول والشعوب في المرحلة التاريخية المقبلة”.
الإشارات المهمة والواضحة التي بعثها الرئيس الروسي ، الى الرئيس الأمريكي المنتخب ، هي محاولات للتذكير ان نفعت الذكرى ، فكل التكهنات ترجّح ، تبنّي دونالد ترامب موقفا أشد في المواجهة مع روسيا في حال عودته إلى الرئاسة، وسعيه لإحداث شرخ في العلاقات بين روسيا والصين ، “عبر سياسة “الجزرة” على هيئة بعض المقترحات في ما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، وسوف يُطلب من روسيا أن تهدّئ من روعها، وكرجل أعمال، سوف يساوم ترامب روسيا والصين مما سيخلق وضعا أفضل لأمريكا في العالم ، فلا ينبغي علينا مطلقا أن نخدع أنفسنا بترامب.. فهو ليس صديق لروسيا ، ومع عودة القوة الاقتصادية للولايات المتحدة، ستحارب إدارة ترامب من أجل فرض هيمنتها ، بكافة السبل المتاحة في إطار حرب باردة أو هجينة أو ربما ساخنة.