23 ديسمبر، 2024 9:34 ص

(مقاربة لكتاب سيرة إيرانية، للكاتبة كامليا انتخابي فرد)
للمقال مدخل، فكان اﻵتي:
لست ميالا الى مصادرة حق القارئ في الإستنتاجات التي قد يتوصل اليها، بعد الإطلاع على النص الذي بين يديه، وذلك تحقيقا للفائدة والمتعة المرجوتان منه. لكني في هذا الكتاب الذي سأسبره، سأستبق اﻷمر وسأجنح الى كشف بعض من مجرياته، وبشكل أدق فإن هناك موضوعا بعينه لم أستطع هضمه أو إستيعابه بل وتقبله، وذلك لإنطوائه على إلتباس وإرتباك واضحين، على الرغم من توقفي طويلا عنده، محاولا إيجاد ما يمكن تسميته مخرجا أو عذرا لصاحبة النص. وعنه أيضا ومع سيرورة القراءة ستجده (الموضوع الذي شغلني) مُطلا برأسها بين الفينة واﻷخرى ليبدو اﻷمر وكأن كاتبته تعمَّدَت تسليط الضوء عليه وبتركيز عال. ما ذهبت اليه يمثل وجهة نظرشخصية ليس الاّ، فربما ستجد عزيزي القارئ وبعد قراءتك للكتاب إن تسنى لك ذلك ما لم أجده، أو ربما ستختلف معي فيما تتوصل اليه. وعن ذات النقطة التي هي موضع حديثنا، فربما تكون الكاتبة قد ذهبت الى ما تراه منسجما ومتسقا مع أهدافها البعيدة. في كل اﻷحوال فها نحن ماضون في التوقف على أهم المفاصل التي جاءت في متنه، آملا أن يتوفق كلانا، أنا وأنت فيما نبتغيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ 1 ــ
بعد مضي قرابة الشهرين على إعتقالها فها موعد محاكمتها قد حان، ولم يكن في حوزة كامليا ما تغطي به رأسها، فإذا ما إنكشف وعلى وفق فهم المتأسلمين والجدد منهم على وجه الخصوص، فسيعدٌون ذلك عورة لا يمكن القبول بها أو غض الطرف عنها. وعلى ما يقولونه، فإنَّ إرتداء الحجاب ليس فيه إجتهاد، بل هو ركنا أساسيا من أركانهم، لذا لا مناص ولا مخرج لـ(كامليا) الاّ أن تغطي رأسها بمعطفها اﻷسود الذي كانت ترتديه لحظتذاك. وإستكمالا لطقوس المحاكمة، كان لزاما عليها أيضاً الوقوف بثبات وإحترام ومن غير رمشة عين، أمام ما يسمّى بقضاة المحكمة الثورية، إنتظارا لما سيصدرونه من قرار بحقها. ومن طرائف ما حصل معها في ذات الجلسة، إنَّ إحدى السجانات والتي طاب للمتهمة وصفها بالرقيقة الحاشية، متخصصة في تفسير اﻷحلام والصلوات النوافل، قد لقَّنتها إحدى اﻵيات القرآنية، وما عليها الاّ أن (ترددها أربع مرات خلال الإستجواب ثم تنفخ على مستجوبها لكي تعمي بصيرته)ص46. ويمكننا أن نبني على هذه الواقعة وشبيهاتها، ما يمكن قوله بأنَّ هناك تعاطفا صريحا مع الضحايا المعتقلات والمعتقلين حتى من بين سجانيهم.
ومن خلال عملية الإستجواب وما أستشِفَّ منه، فلم تستبعد كامليا أن يكون المحقق قد داعب قلبها، وهنا نتحدث عن علاقة من نوع ما، بدأت تشق طريقها بيسر الى قلبيهما. وبوضوح أكثر، فها نحن نتحدث عن علاقة عشق بين طرفين غير متكافئين، يفتقران وهي بدرجة أكبر بكل تأكيد الى أهم قواعد العشق، الا وهي رغبتهما المشتركة الحقيقة في مواصلة لعبة الحب والإستجابة لخفقة القلب، فضلا عن الإرادة وحرية الإختيار واتخاذ القرار. وما يُجدَرُ ذكره، فهي لم تبلغ بعد سن الحب من عمرها ويا له من عمرٍ قلقٍ .
غير انها ورغم ما أحيط بها من ظروف خاصة وإستثائية، كانت قد ترافقت مع أجواء المحاكمة ونتيجة لها، وفي لحظات كهذه، وهنا المفارقة، راحت تبحث عمَّن يداعب قلبها ويصغي الى عاطفتها، (كنتُ أتخيل أنه ـ أي المستجوب ـ ليس قادماً لكي يُعذبني بل لكي يُحبني)ص49. إستنادا الى هذه الجملة الإعتراضية التي أوردتها الكاتبة، فأظنهاستوقعنا نحن القراء في الإلتباس الذي قصدته، حين أشرتُ اليه في بداية المقال، لذاسيأتي التساؤل مشروعا: أبهذه الخفة والسرعة، وجَفََ قلبها ومع مَنْ، مع مستجوبها؟.
لكنها وفي ذات الصفحة، ستحاول أن تجد تفسيرا ومبررا لإعتقادها هذا، فربما أرادت من خلاله التخفيف من وطئة الإعتراض الذي يُمكن أن يثار من قبل القارئ، أو ممن يتربص بها سوءا، لا سيما وانها سليلة عائلة عريقة، معروفة بمحافظتها وإلتزامها بجملة من القيم والعادات، والتي كانت قد نشأت وكبرت معها ومن الصعوبة بمكان أن تحيد عنها، لذلك راحت مدونة: كنتُ في حاجة الى راحة البال وإبعاد شبح الجنون.. إذن وحالة كهذه التي تمرٌ بها كامليا، وبإفتراض صدق مشاعرها ونواياها، فإنَّ ما كانت تقاسيه من عذاب وضغوط، هي وزميلاتها السجينات اﻷخريات، ما لا طاقة لها على تحمّله، ولا أظننا سنختلف على ذلك، فنحن أبناء الشرق المبتلين بأنظمتنا، همّنا واحد ونعيش تحت خيمة واحدة، كالحة اللون، ضرجَّها الدم، تَخَبَّرنا مستوى القمع والبطش الذي يلاقيه المعارضون للحكم.
وطالما دخلنا في عائلتها فلا بأس من تسليط الضوء على عائلتها. فعن والدها مثلا، تُشير الكاتبة الى انه قد تمَّ إعتقاله بسبب رفضه تناول الحلوى، إبتهاجا بمقتل الرئيس المصري أنور السادات، الذي كان قد زار القدس الشريف وما يمكن أن يترتَّبَ على ذلك. فعلى الصفحة 58 من الكتاب تقول: لقد إستجوب (تقصد والدها) وهو معصوب العينين، على مدى ساعات بينما كان الحراس يَغيرون على محفظته). وَلحِقَ ذلك أنْ تمَّ إجباره على تقديم ما مجموعه ستة أشهر من راتبه، والذي كان يُعَدٌ كبيرا جدا بحكم مهنته، لأحد رجال الدين، وتحديدا للإمام رقم 100!!! (هذا ما ورد نصا)، بذريعة تَسببه بجرح جنود أثناء الحرب. ربما المقصود هنا بالحرب العراقية الإيرانية التي لما تزل بعدُ مستعرة.صورة من هذا النوع ستتكرر بعد عقود وبشكل مُلفت، في تجربة الحكم في العراق وربما على نطاق أوسع وأشد قسوة وأكثر إستهتارا ومن مختلف الجهات، بارعة في لصوصيتها وإدعاءها التقوى ومخافة الله، وتحت حجج ومسميات شتى.
وفي إلتقاطة ملفتة، فالكاتبة ستشد إنتباهنا الى واقعة أو لنقل إجراء شديد الغرابة. فإذا ما أردنا الإستعانة بالحكمة واﻷخذ بحصيف الرأي، فأصحاب المنطق اﻷخلاقي والإنساني من رجال الدين، قد حسموا أمرهم حين أوصوا بدفن الميت إكراما له، صارفين النظر عن طبيعة الموت وأسبابه وعمر المتوفي ومنزلته ودرجة قربه وإبتعاده عن صاحب السلطة والقرار، وبالتالي وَجَبَ دفنه في مقابر تليق بجلال الموت ولحظته. لكن وهنا المفارقة فإنّ ضحايا النظام الإيراني ممن تمت تصفيتهم وأصدَِرتْ بحقهم عقوبة الإعدام، فـ(حتى اﻷعشاب الضارة والشجيرات أحرقت مع مرور اﻷيام بأيد حاقدة، لكي لا تنبت أية أعشاب خضراء على القبور التي تضم أرواحاً مجهولةً)ص63. أمّا مناسبة تدوين كامليا لهكذا معلومة، فقد جاءت على هامش زيارة عائلتها لقبر إحدى النساء اللاتي تمَّ إعدامها، بعد أن إتهِمَتْ بالخيانة العظمى. وفيما بعد وعلى لسان الكاتبة أيضا وبإعتراف صريح من قبل الجهات الرسمية، فإنَّ تهمة الخيانة كانت قد أسقطت عن الضحية، وإنَّ العقوبة التي طالتها ونُفذَتْ بها كانت باطلة وشكلت خطأً فادحا إن لم تكن جريمة، كانت قد أرتكبت بحق روح بريئة.
قبيل إطلاق سراح السجينة كامليا بليلة واحدة(بالمناسبة، الكاتبة تم إعتقالها لعديد من المرات)، إلتقاها رجل اﻷمن ليبلغها بذلك، واضعا شرطا، لا حياد عنه، ألا وهو (التوقيع على الإقرار بالتوبة وعلى قبول التجسس لمصلحة وزارة المخابرات)ص91. ما أشبه اليوم بالبارحة، فالمشهد سيتكرر ولكن في مكان آخر، انها تجربة الحكم في العراق بعد غزوه وإحتلاله. فعلى أثر الإحتجاجات التي عمَّت مناطق واسعة منه، فقد قامت بعض التشكيلات المسلحة، والتي إدعت السلطات الرسمية بجهلها لها، وسمّيت بالطرف الثالث، بحملات تصفية بشعة بحق المتظاهرين السلميين، طالت المئات منهم، وبرصاص، لم تتوصل بعد الجهات المعنية الى مصدره بحسب إدعاءها، فضلا عن حالات الإعتقال التي بلغت اﻵلاف.
ولم تكتفِ أو تتوقف عند هذا الحد بل راحت أياديها تطال حتى النساء ومن بينهن قاصرات عمر. ومن بين اﻷسماء التي جرى تغييبها وتداولتها وسائل الإعلام على نطاق واسع، صبا المهداوي وكثيرات غيرها. وفي الآونة اﻷخيرة جرى الترويج لأحد الفديوات وعن عمد للمتظاهرة ماري محمد، ليظهرها في وضع معيب، أراد من خلالها معتقليها إيصال رسالة مفادها: ان مَنْ يقوم بالتظاهر والإحتجاج على السلطة الحاكمة، هم شلة من المارقين، الخارجين عن القانون واﻷخلاق العامة. وبمقارنة بسيطة، فمثلما جنحوا الى عقد صفقة مع المعتقلة كامليا إنتخابي فرد، فستجنح الجهة التي إعتقلت ماري الى ذات اﻷسلوب، فمقابل إطلاق سراحها، ستوضع شروط ومطالب، يجب الإلتزام بها وتنفيذها ودونها التصفية، وهذا ما تحدثت عنه ماري في مقابلة لاحقة مع إحدى القنوات الفضائية، كاشفة عن حجم الضغوط التي تعرضت لها والمهام التي أو كلت اليها من قبل الجهة الخاطفة.
وكي لا ننسى فلا بأس من التذكير بحجم التهديدات وطبيعة التهم التي ستوجه للمعتقلين، فعن كامليا مثلا وفي كتابها، سيرد النص اﻵتي وعلى الصفحة 120: سيكون هذا قبرك يا سليلة جهنم… هنا لا مجال للخداع، أيتها الجاسوسة الإسرائيلية… قولي لنا: مَنْ يمدك بالمعلومات في إسرائيل؟. إذن هي ذات التُهم وذات اﻷساليب التي ستتكرر، ولا ندري إن كانت على ذات اليد على الرغم من إختلاف الزمنين، فكامليا اﻷمس كما هي كامليا اليوم، فكلاهما ضحيتا نظام تسلطي، متخلف قمعي بلا حدود. وأزاء ضغوط من هذا النوع ستجد نفسها مضطرة الى نسج سيناريوهات وقصص، لا أساس لها من الصحة، فهي لا تعدو أن تكون سوى مخرجا لإنقاذ حياتها.
ــ 2 ــ
صدقيني يا صديقتي، لقد أبيدَ النخيل كلّه،
أخبريني متى سيخضر شبابنا، ونخيلنا من جديد؟.
هناك ما يشغل يوميات كامليا وعلى نحو أجمل، ولايقل حضورا عن همّها السياسي والإنشغال بقضايا شعبها ووطنها. فللأدب في حياتها والشعر منه بشكل خاص منزلته ومكانته ولا من مساومة عليه، إذ بات يُشكل بالنسبة لها رفيقا دائما وصحبة لا فكاك منه، فتراهما يمشيان سوية، وأحيانا يتنافسان لإختيار أي الطرق أكثر أمنا، وأيهما سيؤدي الى جهة القلب وضوعة الطيوب. بيتا الشعر اﻵنفان، جاءا في رسالة من صديقة كامليا واسمها ماندا، كانا قد تعارفا على بعضهما البعض في مهرجان شعري أقيم في مدينة مشهد سنة 1987، أي أثناء الفترة التي كانت فيها الحرب العراقية الإيرانية، مستعرة وبضراوة.
وعن أنشطتها الثقافية، فبوصية من نادي الإدب الإبداعي، الذي تتردد عليه كامليا، فقد وصل مراسلوا محطة تلفزيون (صدا وسيما) بيتها، وذلك بمناسبة ما يطلقون عليه بيوم الثورة ونجاحها. طالبين منها بعض اﻷشعار التي تتحدث عن قائدها، فراحت تبحث بين أوراقها، علَّها تجد قصيدة واحدة، تتحدث فيها عن الإمام الخميني، بإعتباره زعيمها اﻷوحد ومن غير منازع أو منافس.
سيتسبب لها هذا الحادث بعض الإشكال والإرباك. ففي بادئ اﻷمر أبلغتهم بأنها كانت قد كتبت قصيدة عن القائد المفدى الاّ انها لم تجدها. وحينما سُئِلتْ : لماذا كذَّبتِ وادعيتِ بأنك كنت قد كتبت قصيدة بهذا الشأن، فردَّت عليهم: (الجميع يكذبون ولهذا كذبت، أنا أيضا)ص164. كامليا هنا لم تقل الاّ الحقيقة، فكلهم أو لنقل هناك نسبة لا بأس بها ممن تعاطوا مع(الثورة) ورموزها، من موقع المنافق. لكنها وفي ذات الوقت، وكي تفلت مما هو مضمر لها وفي ضوء تجارب سابقة، وصلت مسامعها، راحت تنشد إحدى قصائدها أمام كاميرا التلفاز، مدعية بأنها كانت قد كتبتها لزعيم اﻷمة:
منّي أليك
حتى آخر الفجر
من أعالي أغصان شجرة الصفصاف القوية
أنا عاشقة، مخلصة لك.
فيما بعد وأثناء بث البرنامج من على شاشة التلفاز، كان أبي يشعر بالزهو وبالفخر، وأدركت حينها(إنَّ كسب الشهرة قد تطلَّبَ مني أن أمارسِ الخداع).ص166
وإستكمالا لما سمَّته بطريق الخداع، وبسبب ما لاقته من قسوة في التعامل على يد رجال اﻷمن، فقد قررت كامليا أن تخرج من هذا النفق وعلى طريقتها، مستغلة قدراتها المسرحية حين كانت تمارسها أيام المدرسة. وعن هذا الموضوع كتبت في مدونتها وعلى الصفحة 180(كان دوري أن اقع في الحب وأن أجعله يقع في الحب ـ تقصد هنا عشيقها المفترض ـ). ولتزجية الوقت وعلى الرغم من انها حبيسة زنزانتها وإستجابة لخفقات قلبها ولربما أرادت إسماع مَنْ بأذنه صمم، فأنَّ الشعر لم يغب عنها، متذكرة بيتين للشاعرة فروغ فرخزاد، ومن قصيدة أحبٌ يديك:
سأزرع يدي في الحديقة
سأخضرٌ، أعلمُ أعلم.
طالبات الثانوية، بين فترة وأخرى،كنَّ يتعرضن الى حملة تفتيش، ربما عائد ذلك الى شكوك من نوع ما من قبل إدارة المدرسة، وعلى أغلب الظن لدوافع سياسية. وإجراء من هذا النوع، سيدخل في باب مصادرة الحقوق الشخصية والتجاوز على خصوصيات بنات لا زلن يافعات. وقضية كهذه سوف لن تمر مرور الكرام، بل راحت كامليا معلقة وبتندر (عثرت مفتشات الجحيم، مراقبات الرواق… على القصيدة بعد تفتيش حقيبتي المدرسية. فتحت إحداهن الورقة المطلوبة…. قلت لها بنزق: ألم تقرئي شعرا من قبل؟ انها قصيدة حب)ص188. عندما ذكرت كامليا هذه العبارة أصابت المفتشة حالة تشبه السعار. ثم راحت مستطردة في كتابها، لِتُذكِّر مَنْ فاته التذكّرَ: ان إيران بلد الشعراء، فعلام الغرابة والإستهجان، الا يعرفوا أن هناك شاعرا متصوفا إسمه حافظ الشيرازي!. أصابت كامليا في ما ذهبت اليه، ولعل ما أرادت إيصاله كان قد إكتمل، لو جاءت على ذكر متصوفة آخرين، كمحي الدين إبن عربي أو الحلاج أو الإمام الجنيد البغدادي.
حادث كالذي فات ذكره سوف لن يمر مرورا هادئا كما تمنت كامليا، بل ذهبت إدارة المدرسة الى إستدعاء والدة الكاتبة، لتبلَّغ بطرد الطالبة ليوم واحد عن الدوام. قضية كهذه راحت تتفاعل في دواخل كامليا حتى إنسحبت سلبا على اهتمامها بعالم الشعر الذي فُتِنَتْ به، وظلَّت عاكفة عنه حتى وصلتها رسالة من إحدى مدرساتها، والتي كان لها الدور البارز في تشجيعها ورعاية موهبتها الشعرية لتكتب لها(تجملي بالصبر. دعي الشعر يقطر من تلقاء ذاته كقطرات الماء. سوف يأتيك قريبا وحده). ص190
وعن شيطان الشعر أيضا ومن معتقلها وفي مكان آخر من الكتاب، ستكشف لنا كامليا عن ذائقتها ودرجة إرتباطها بأبيات القصيد وذاك الكلام المقفى، الراقص بين شفتيها، بزهو ودلال. فبينما كانت تؤدي دوريتها وما أملى عليها سجانوها من واجبات، كتنظيف دورات المياه وأماكن حبسها واﻷخريات معها من السجينات، اللائي يشاركنها، كتبت في مدونتها: رحت مصغية الى صوت مذياع الحراس وأنا أكنس الرواق، كان ضيف البرنامج شخصا أعرفه، انه أفشين آلا، وهو مؤلف وشاعر. بعد إطلاق سراحها بفترة زمنية، صادف أن إلتقت بهذا الشاعر، لتذكره بتلك المقابلة الإذاعية، قائلة له: عندما كنت تلقي الشعر كان مذياع حراس السجن مفتوحا، أجابها أفشين:لو كنت أعلم في ذلك اليوم انك تصغين اليَّ، لقلت ما يلي(في نهاية الليل يتحول الظلام من جديد الى نور).ص218
ــ 3 ــ
من أكثر المواضيع غرابة والتي تدفع الى التساؤل، هو ما صدر من إهتمام مثير حقا، لشخصية فائزة هاشمي، إبنة الرئيس الإيراني رفسنجاني، والذي كان قد تولى الحكم لدورتين متتاليتين، إمتدت من عام 1989 وحتى عام 1997. فدوائر اﻷمن والعهدة على صاحبة الكتاب، قد سمعوا بشائعات، تتحدث عن علاقتها برجل ما، دون الكشف عن المزيد من التفاصيل، متسائلين عن إسمه، كم عشيقا لها…؟ هل تضاجع زوجها؟ هل يناهضان حكم الأئمة أم يعارضان الخميني؟ ص214.
أن يأتي نصا كهذا في كتاب كامليا، الموسوم سيرة إيرانية وعلى هذا النحو الفاضح والمباشر، ليعطي دليلا قاطعا، لا لبس فيه على مدى إختراق الدولة لخصوصيات مواطنيها، وكذلك يعكس درجة إنعدام الثقة حتى بقادة الصف اﻷول وأبنائهم. فَهُم، ولنسميهم بالمحسوبين على النظام الحاكم، لم يكونوا بمعزل عن شكوك وعيون الجهة المتسلطة والمتحكمة بإدارة البلاد، فكيف بالفئات اﻷخرى من أبناء الشعب، واﻷهم من ذلك، كيف سيكون التعامل مع معارضيها؟ وما هو شكل التصدي لها؟.
غير انه ومع إنتخاب محمد خاتمي رئيسا للجمهورية في سنة 1998، شهدت البلاد نوعا من الإنفتاح السياسي، إنعكس إيجابا على طبيعة علاقات إيران مع محيطها ودول العالم اﻷخرى أيضا، وبانَ أثره في الإنفتاح الإعلامي وبشكل خاص على مستوى الصحافة، حيث تنوعت الإصدارات وتعددت اﻷصوات. وبكلمة واحدة يمكن وضع التغييرات التي حصلت في خانة الإصلاح وإن على خجل. وإنعكاسا لهذا الجو الإيجابي ومن بين تجلياته على سبيل المثال، أن قام وفد صحفي، رفيع المستوى، وبدعوة من إحدى الجهات الرسمية اﻷمريكية، بزيارة الى واشنطن، وعقد لقاءات إعلامية ببعض اﻷوساط المعروفة. ومن بين أعضاء الوفد، كانت صاحبة الكتاب.
كان في بال كامليا إنتخابي فرد، أن تستثمر هذه الزيارة على أحسن وجه، فربما لا تتكرر مثل هذه الفرصة، لذلك ركزت جهدها على إجراء بعض الحوارات الصحفية المهمة، إتساقا مع اﻷهداف التي كانت قد رسمتها. وعن هذا الموضوع فقد حاولت أن تلتقي بسلمان رشدي، بعد أن رُفعتْ عنه تلك الفتوى التي أحلَّت سفك دمه، غير ان هذا اللقاء لم يُكتب له النجاح، إثرَ تلقيها بعض الإشارات من السفارة الإيرانية، فُهِمَ منها بعدم رغبتهم بإجراء حوار كهذا. غير أن كامليا وفي ساحة أخرى، نجحت في إجراء لقاءا صحفيا مع أبي الحسن بني صدر، أول رئيس للجمهورية الإسلامية بعد سقوط الشاه.
ستواصل كامليا نشاطها، وهذه المرة بحماس أكثر وبثقة عالية وربما بعيدا عن بعض السياسات والخطوط التي رسمها ساسة إيران. فحين عودتها الى بلدها راحت تنشط وبشكل ملحوظ، ولعلها ستسجل سبقا صحفيا لم يألفه الإيرانيون، حيث نجحت في إجراء لقاءا صحفيا مع زعيم حزب توده، نور الدين كيانوري وزوجته، في بيتهما حيث مكان إقامتهما الجبرية، بعد قضائهما سنوات عديدة في المعتقل. ومن بين اﻷسئلة التي وُجهت لهما(الا تخشيان أن يلاحقكما أولئك القتلة؟) فكان جوابهمصريحا وذكيا وبلا تردد(انهم يراقبونا من البناء الكائن على الجهة المقابلة من الشارع).ص241
أمرٌ كهذا سوف لن يمر مرور الكرام كما يتوهم البعض. ففي تلك الفترة أصدرت الجهات الإستخباراتية قائمة باﻷسماء التي ينبغي التعامل معها بقسوة شديدة وقد تصل الى مستوى التصفية. ضمَّت هذه القائمة 179 شخصا مطلوبا، جلّهم من الفنانين والأدباء والصحفيين ومن هو بحكمهم، ومن بينها ورود اسم صاحبة الكتاب. في هذه الفترة كانت كامليا إنتخابي فرد في سفرة خارج البلاد، فراح القلق يساورها ولا من قرار يحزم أمرها، فظلت في حيرة من أمرها، متأرجحة بين أن تعود أو لا تعود، الاّ انها في نهاية المطاف حسمت أمرها وقررت العودة، معتمدة في ذلك على رصيدها الوطني وعلى إخلاصها اللا محدود لبلدها، ففي ذلك ما يشفع لها كما تعتقد.
ومن بين ما راهنت عليه كامليا كذلك، هو ما نسجته من علاقات مع بعض الشخصيات المهمة، المتربعة وكما تظن على هرم السلطة، ومن بين هؤلاء على سبيل المثال فائزه مهدي رفسنجاني، حيث يرتبطان بصداقة متميزة. متناسية عن قصد أو بحسن نية ما قامت به من أنشطة صحفية، على المستويين، الخارجي والداخلي، والتي وُصفت بالخطرة في عرف الحاكم، كان من بينها ذلك اللقاء الصحفي الذي أجرته مع الشاه الشاب رضا بهلوي، وأيضا مع الملكة، الرشيقة القوام فرح بهلوي، فلم تُعَد تلك اﻷنشطة من الكبائر فحسب، بل دخلت في المشبوه والمحرمة قطعا.
في الساعة السادسة صباحا من ذلك اليوم المشؤوم، سيُطرق باب بيتها، ليقتادها إثنان من رجال اﻷمن، ويذهبا بها حيث يشاءا، وليبدأ من جديد فصل آخر من فصول الضغط والإبتزاز. وعن مجريات التحقيق ستكتب كامليا على الصفحة 267: عندما عدنا الى الغرفة، سأل المحقق، إذا تقولين انك مستعدة لتنفيذ أي شيء… هل تريدين أن تصبحي أحد الجنود المجهولين؟، أو مأت برأسي إيجاباً. لذا (والكلام لا زال لها)رحت أحفظ الجرائم التي ارتكبتها كما يُفترَض عن ظهر قلب، كتواصلي مع رضا بهلوي وتقديم تهنئة لفرح ديبا، وإقامة علاقات مع اسرائيل ومع الإستخبارات اﻷمريكية، وغيرها من التهم التي يحاسب عليها القانون والتي قد تصل عقوبتها الى الإعدام.
في موقع آخر من الكتاب ستدون كامليا ما دار بينها وبين مستجوبها من حوار والذي وصفته بالمتكافئ: كان الحب، كهَبَّةٍ من الهواء المنعش القادمة من الجنة، قد تغلغل عميقا في قلب ذلك الرجل القاسي. كنت أعلم حتى عندما يضربني، انه يشعر بأنه يلمس زهرة رقيقةص270. هنا سنعود من جديد الى تساؤلنا اﻷول والذي أثرناه في مقدمة المقال وما رافقه من إلتباس، كنا قد لمسناه من الكاتبة وبات موضع شكٍ : هل تسلل الحب حقا قلبيهما، أم أن هناك أمرا ما قد حدث، إستدعى أن تكون كامليا عاشقة قبل أن تكون سجينة رأي.
أسئلة كالتي أنف ذكرها سنجد لها جوابا وبصرف النظر عما ادعته الكاتبة وما كان يدور عن حالة العشق والهيام الذي تبادلته مع سجانها. فقد وُضِعَ شرطان من قبل دائرة الإستخبارات، نظير إطلاق سراحها. اﻷول، يقضي بتوقيعها على كفالة مالية والإعلان خطيا عن تعاونها مع أجهزة الدولة كالقيام مثلا ببعض المهام التي تُكلَّف بها. ثانياً وبحسب ما دونته كامليا: أن تظهر بشريط فديو أثناء مرافعات المحكمة، وقد يكون الهدف من وراء ذلك هو تثبيت إعترافاتها، بالصوت والصورة، كما هو معمول في بعض الدول. فضلا عن تصوير فلمين آخرين، سبقهما إجراء العديد من البروفات، قامت أثناءها بقراءة ما أملي عليها من أقوال!!!. عن هذه الفقرة وما احتوته من شروط، فلدينا العديد من التجارب المماثلة إن لم تتفوق عليها خسة وإنحطاطا، وسأترك لك عزيزي القارئ ما تشاء من التعليق.
في آخر فصل من الكتاب، ستدون كامليا شيئا عن هروبها من وطنها، وبعزيمة لا تقبل التردد أو التهاون. فما تعرضت له من ضغوط على أيدي سجانيها، سيشكل بالنسبة لها حافزا قويا وقرارا لا عودة عنه أو تراجع. لذلك ستجدها مضطرة على دفع مبالغ كبيرة، لقاء تهريبها، عبر طرق غير شرعية، وإيصالها الى منطقة آمنة، تقع خارج حدود بلدها، وهذا ما تحقق فعلا، تاركة ورائها حباً لوطنها لا يدانيه حبا، لكنها في ذات الوقت بدأت تتحسس طعم الحرية ورائحتها، التي كانت قد حُرمت منها لسنوات ليست بالقليلة، ولتعود من جديد الى ممارسة مهنتها المحببة والمفضلة الى قلبها الا وهي الصحافة، ومن غير أن تبتعد كثيرا عن مواصلة إهتمامتها اﻷخرى كالشعر والرسم وما هو قريب منهما.
أمّا عن الصحافة وما سمعته من أحاديث خلال إجراءها للعديد من المقابلات وما تم الكشف عنه، قد لا يصدقه البعض. ففي إحدى المرات، وفي ظلال الفترة التي إشتدت فيها من جديد رغبتها في العودة الى وطنها، صادف أن كان الرئيس الإيراني اﻷسبق، محمد خاتمي، خارج البلاد، وهو يقوم بجولة تستهدف تحسين صورة بلاده، التي كانت قد تشوهت بفعل عوامل عديدة، لتلتقيه كامليا على هامش زيارته هذه، طالبة منه وبعبارة صريحة مباشرة، توفير ضمانات عودتها الى أهلها وبلادها. الاّ أن سيادة الرئيس ردَّ عليها(لا أدري إن كان في إستطاعة أي أحد أن يحمي أيامنا عندما نعود الى طهران)ص300. هنا من حقنا أن نتسائل: هل كان محمد خاتمي، الرئيس الفعلي للبلاد ؟ أم كان رئيساً صوريا، خاضعا لسلطة وسطوة الدولة العميقة؟إن كان اﻷمر كذلك فما بالنا نحن. عجبي.