حدثنا أبي الورد السيبندي عن دلف المكوجي عن الشيخ عبدالرحمن الحالم قال قال كنت قد عملت سياحة لأيران على عهد الشاه محمد رضا بهلوي وهو في عز أيامه فزرت طهران فيما زرت وكنت حينها في أول عهدي بالشباب فأقمت في فندقاً أنيقاً لطيفاً في وسط العاصمة وما أن وضعت حقيبتي قررت النزول لإستكشاف المدينة وكان الطقس ربيعاً والشمس ضاحكة وكان لاله زار وهو إسم الشارع الطويل حيث نزلي مكتضاً بالمارة والسيارات والمحلات والمغازات بأنواعها ، وباعة الرصيف والجوالون ينتشرون في كل مكان وروائح الطبيخ الشهية تداعب أنفي يميناً وشمالاً فلقد كان الوقت ظهراً فجذب نظري كثرة الباعة والتجار الذين كانوا يأكلون في محلاتهم وعلى الرصيف وإنتبهت أن لديهم أدوات يستخدمونها في أكلهم لانستخدمها نحن وهي عبارة عن مدرخة وحلة صغيرة تارة من البلور وأخرى من الخشب يطحنون بها ما يأكلون وخاصة الحمص أو البازليا وكأنهم غير قادرين على مضغ ما سيلتهموه أو ان أفواههم خلقت دون أسنان، ومما إسترعى إنتباهي أيضا كثرة حبهم للجلو كبابي بالجيم المعجمة وهي قطعة لحم تطرق بالساطور جيداً فتصبح مستطيلة ثم تشوى وتقدم على طبق مليئاً بالرز المنفوش لخفته بحسن طهيه وفوقها قطعة فواحة من الزبدة وقليلا من نتف الكرفس.أكثر الناس هنا كما عندنا يتناولون الشاي بعد الأكل مباشرة ولكن الفارق ، وخصوصاً عند كبار السن منهم ،أنهم يضعون قطعة السكر في فمهم ونحن نضعها في الإستكان أو قدح الشاي ويسمون تلك الطريقة بالدشلمة وهم بذلك يختصرون عملية إذابة السكر بملعقة..وإستوقف إنتباهي بالأخص وأنا أتفرج على المغازات صورة ببرواز مذهب ثقيل لشاه إيران وبرفقته زوجته الشاهبانو وكلاهما جالساُ على عرشه ويضع التاج على رأسه ويتطلع في المجهول، ولكن تلك الصورة كان يحفها من كل جوانبها ومن أعلاها أنواع وأشكال الأحذية الرجالية الأنيقة ذلك أنها كانت قد وضعت في ~جام خانة~ او فترينة محل لبيع الأحذية..!، ولا أظن بأن صاحب المحل كان قد فعل ذلك متعمداً.. وألله عليم بذات الصدور،فقلت في نفسي لو كان قد تجرأ وفعلها أحدهم في العراق حتى لمرافق الرئيس لتم شنقه مبروزاً بباب الدفاع.اعجبني لمعان تلك الأحذية فتدحرج نظري لحذائي فوجدته مغبراً من كثرة المشي والتجوال يومها. وما هي سوى خطوتين ووجدت نفسي أمام محل إسكافي تنيره الأضواء فيه مصطبة جلوس عالية تزينها من خلفها أنواع الرسوم الفارسية وتحفها من الجنبين المساند النحاسية والصناع تحتها جلوس أمام زبائنهم وصوت غناء شعبي يصدح من مذياع قديم ورائحة تبغ مخلوطة برائحة جلد في سوق خفافين , وبغفلة برهة رأيت رجلاً بديناً لعله صاحب الحانوت يسحبني من يدي وهو يقول بصوت خفيض وإبتسامة يستحيل فك رموزها; بفرمان آغا..بفرمان..بفرمان ; تفضل يا سيدي تفضل تفضل فوجدتني جالساَ على المصطبة أمامه وكل الأنظار مسلطة عليّ فأحسست بشيئ من النشوة وقلت في نفسي لعل مظهري الأنيق ومنظر آلة التصوير معي ولكنة سلامي وأجنبيتي أبهرتهم! وما أحسست إلا وصاحبي السمين يطرق بأصابعه على ظهر حذائي ويقول كلاماً لا أفهمه فقلت ربما يسألني عن ما أريده من خدمة فأجبت بالأشارة وأكدت بالكلام ;آغا صبغ .. صبغ …فضحك وضحك الآخرون معه فقال بالي أغا مفهوم أي بلى فهمت مرادك ..ثم إسترسل بكلام لا أفهمه وإنتهى بقوله مستفهماً ;خوبيه؟ أي جيد؟ بصيغة السؤال أي هل أنت موافق؟فدهشت وكررت عليه كلامي الأول آغا فقط صبغ.. صبغ فقال من فهمدي بابا مفهوم ولكن.. أي أنا فهمتك ولكن….ولم أفهم باقي كلامه ،فلما رأى حيرتي أشار الى حذائي وأخذ قدمي اليمنى ولواها حتى كدت أفقد توازني وهو يشير لتحت الحذاء وأنا لا أستطيع النظر ،فما هي إلا وحركة خلع فيها كلا الحذائين من قدماي ووضع نعليهما في وجهي وهو يكاد يصرخ وهو يشرح لي الأمر… ففهمت بعد جهد جهيد أنه يقترح علي ضرورة إجراء إصلاحات سريعة على هذا الحذاء مشيرا تارة لكعبه وأخرى لنعله وأنا لا أرى أي عيب فيهما ذلك إني إشتريته ليومين فقط قبل مجيئي لطهران ، ثم قام وجاء بنعل جديد وكعب جديد كانا معلقان بجانب صورة كبيرة مبروزة للشاه ممتطيا حصانا وأفهمني بأنه سيستبدلهما لي فأصريت بأن النعل والكعب ليس بهما أي ضرر فلا داعي لذلك وقررت الخروج من الحانوت فتدخل الحضور وبدأوا يحدثوني بكلام فهمت منه بأن عملية تبديل النعل والكعب سوف لن تستغرق وقتاً وكأني كنت معترضا على الوقت; آغا استعجالي..عجالت,,وأن حذائي سيكون بعدها خيلي قشانك أي سيكون جميلا جدا وسيواجه كل أنواع الصعاب في المستقبل دون تردد …وفجأة أثار مسامعي شيئا يتمزق فأدرت رأسي وإذا بالأسكافي ماسكاً بكلاب ضخم يقلع به نعلي حذائي بعد أن كان قد إقتلع الكعبين بهدوء أثناء إنشغالي مع الزبائن فكدت أصرخ به حنقاً أو أبكي لوعة على حذائي البغدادي الأصيل وإذا بالأسكافي يربت على ساقي مطمئنا ويضع أمامي صندلا هرئ كبير الحجم وقبيح المنظر ربما كان يعود لأحد الدراويش الجوالين وأفهمني بأن حذائي سيكون جاهزاً غداً في مثل هذه الساعة ! فأسلمت أمري لله وعدت أدراجي لغرفتي ممتطيا صهوة صندلي اللعين وأعين الناس من حولي أحسها صفعات سخرية على ظهري. فلما كان الغد ذهبت لآخذ حذائي فطالبني ذلك الأسكافي المجرم بأجره فإذا هو ضعف ثمن حذائي فلما خاصمته على ذلك أخرج شيئاً يشبه الخرخاشة التي يلهو بها الأطفال ذات إطار مربع مرصوف فيها العديد من الخرز تحرك يمنة ويسرة مشبوك كل صف منها بميل يمر في وسطها يستخدمونها للحساب ثم بدأ الرجل يمرر يده على الخرزات ويصرخ ويعدد ساعات العمل ويطرح ويجمع كل ما وضع من مواد وخبرة في حذائي المسكين ليريني بعدها كتابة بأن ما يطلبه من أجر موافق لحسابه ، فلما رأى بأني لا أوافقه الرأي وأرفض نقده سلبني الصندل الهرئ ودخل حانوته وأغلق الباب من الداخل فوقفت حائراً حافياً هذه المرة على الرصيف…, فتذكرت محل الأحذية القريب وبأسرع من الريح وجدتني في داخل المحل وصاحب المحل يستقبلني جذلا دون تعليق لأنه كان متأكدا وأنا في تلك المحنة من شرائي أحد أحذيته فإخترت حذاءا فاخراً من بين ما عرض عليّ وفوجئت بأن ثمنه لم يكن ليتعدى نصف ثمن حذائي القديم ففرحت وقلت في نفسي الحمد لله أني لم أدفع ما طلبه مني ذلك الأسكافي الكافر وقبل أن أودع صاحب المحل سألني من أي بلد قدمت فقلت له من بغداد فنظر الى ملابسي النظيفة والثمينة وهيئتي الأنيقة نظرة طويلة ثم ضرب الكف بالكف وقال بعربية مكسرة مخلوطة بالفارسية فلوس داري ولكن عقل نيس أي عندكم فلوس ولكنكم لا تملكون العقل لأنه حسبني قد جئته من بغداد حافيا لأشتري حذاءه أو يقصد اننا نعرف كيف نلبس ولكننا لا نجيد صناعة الأحذية, ومؤكد أنه سيذيع الخبر ويقول بأن عراقيا أتاه ماشيا من بغداد لطهران حافيا لا لشيئ سوى لشراء زوجا من أحذيته المشهورة دوليا.ثم إني مررت من أمام حانوت الاسكافي مرة أخرى فوجدته مفتوحاً أضواءه تتلألأ وصوت مذياعه يصدح وفوجئت بحذائي معروضاً في جام خانته الصغيرة أنيقاً مصبوغاً لامعا وبنفس كعبيه ونعليه الأصليين وموضوع عليه سعر يبلغ ضعف سعره الأصلي ومكتوب تحته إنكليزي أصلي.مشيت الهوينا وفكرت قليلاً ثم قلت في نفسي لعل صاحب حانوت الأحذيه محقا بحبه لشاهه وكذلك الأسكافي مادام البيع والشراء ماشي حسب الأصول والربح وفير والخاسرالوحيد هو كل من يكره الشاه ورهطه.