الحرب ذاكرةٌ تسكن الجميع ، انها منذ الياذة هيموروس والحرب والسلم لتولستوي ، ودون كيشوته لسيرفانتس ، والحرب في حي الطرب لنجم والي ، تمثل الهزة الخفية في ارواحنا ، متى نقرأها في رواية او نشاهدها في فيلم يرعب اجفاننا كما في ( الرؤية الآن ) لفرانسيس كابولا ، و نعيشها كحقيقة يوم يأمركَ عريف الفصيل بحشو المدفع بقذيفته ولتذهب الى مكان غير معلوم وراء الجبل لتقتل رعاة او جنودا أو اطفال قرية أو لتحرق غابة جوز أو بستان تفاح أو تين أو خوخ.
وحين غادرتها وعدت ثانية الى مراعي أحلام البشر الطيبين بين دفيء الماء وخضرة القصب ، ظلت الحرب تلاحق اجفاننا وأسماعنا منذ حرب خط بارليف وانتهاءً بحرب عبدان. وكانت ملامحها تطل علينا في مجتمع القرية الأهوارية حين يلتحق أو يجيء ابناؤها من الجنود ذاهبين أو قادمين من والى جبهات الحرب ، وحين اخبرني احدهم وكان من تلامذتي انه لم يجد صنفاً امامه في جدول التطوع سوى أن يكون اسكافيا ، وهو حزين أن يُرغمَ على رفع قدم البغل ليدق فيها مسامير نعله الحديدي أو يصلح بساطيل الجنود التي تلفت قبل عمرها المحسوب حتى يتم تبديلها.
قلت له : حظك من السماء يا ردن ( نعم كان أسمهُ ردن ) لأن ابيه لحظة انتظاره لمخاض ولده خلف باب الصريفة ، مرت جاموسة قادمة من الماء ومازحته بقرونها وسحبت ردن دشداشته وبذات اللحظة علا صوت الوليد قادما الى الحياة فسماه ابوه ( ردن ) .
قال : وكيف حظي من السماء وأنا كل يومي حدوة حصان وبساطيل ممزقة .؟!
قلت : ولكن هذا الصنف ينقذك من الحرب في الحجابات والشظايا وفزع موت رصاص القنص وهجمات البسيج.
قال : في هذا لك حق. اعيش اسكافيا ولا اموت في حرب اردت فيها راتبا لعائلتي بعد أن شح الماء وقلَ انتاج ( الجِمس ) ، أما الحرب فلن افكر بخوضها حين اتيت الى الجيش فحلمي ان اكون عريف اعاشه لأشبعَ من صمون الجيش ، واليابس منه اجيء به علفا لدوابنا.
أقتنع ( ردن ) بقدره مع حدوة البغل والبسطال المتهرئ لأعيش خيال قصة تعرض لها الجنرال ديغول اثناء قيادته جيش فرنسا الحرة ضد الاحتلال النازي ، عندما كان يفتش عن اسكافي ليصلح حذاءه العسكري الممزق ، وحين وجدوا عريفا اسكافيا في جيش المقاومة قالوا له : الجنرال يريدكَ.
فرد عليهم : قولوا حذاء الجنرال يريدكَ لأن الجنرال لا يعرفني ، ولكن حذاءه يعرفني .
سمع ديغول بقصة هذا الجندي ، وقال ، يا ليتني عريفا اسكافيا لأتنعمَ بحكمة هذا الجندي ، لقد منحني حكمة أن يكون الجنرال في الحرب وغيرها صديقا لجميع جنوده…
سمع ( ردن ) الحكاية وابتسم ثم قال : ولكن آمر لواءنا لايُريد أن يكون صديق الجنود ، بل آمرهم فقط……….!