قبل الدخول الى الموضوع لا بُدّ من لمحة مُوجًزةٍ عن صاحبنا الحبوبي.
وُلِدَ الأستاذ أحمد عبد الهادي الحبّوبي في مدينة النجف محلة الحويش سنة 1931م (1) ودخل الكُتّاب عند المُلة سعودة ، يقول الحبوبي عنها:
سعودة هذه إحدى خالات أمي ترمّلت وهي شابة ولها ولد صبي فانصرفت الى مهمة تعليم أولاد العائلة قراءة القرآن الكريم ، وقد عُرف عنها رحمها الله قسوتها الشديدة على تلاميذها (2).
دخل المدرسة الابتدائية من خلال المصادفة ، وكان حسين الشبيبي القطب الشيوعي المعروف أستاذاً له فيها ، يصفه الحبوبي:
كان الشبيبي طويل القامة ونحيفاً ومتجهم الوجه دائماً ، أسمر اللون ، كان لا يضيع دقيقة من الوقت ، إذ يقضي المدة 45 دقيقة كلها قراءة وشرحاً للدرس (3).
دخل الحبوبي لكلية الحقوق في العام الدراسي 1951 ـ 1952م (4) ، وقد حرمته قصيدة ألقاها أمام الملك فيصل الثاني وولي عهده عبد الاله من البعثة الدراسية لفرنسا ، رغم أنه الثالث على الدفعة (5).
هرب في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم الى العربية السعودية ثم الى مصر (6).
أصبح أحمد الحبوبي وزيراً للشؤون البلدية والقروية في حكومة طاهر يحيى عام 1965م (7). لم يمضٍ وقتٌ طويل على استيزاره حتى عزم على الاستقالة ، يقول:
لم تنجح محاولاتي من أجل تنقية أجواء التيار القومي ولًمّ الصفوف ، بل زاد التباعد وانصرف كل حزب وتنظيم الى العمل منفرداً واتخاذ المواقف التي قد تتناقض مع الآخرين ، وراح كل حزب يعمل ويجتهد من أجل كسب المزيد من الأنصار ، وزاد من اضطراب الحكم وتخبطه عودة القتال في شمال العراق .. فارتأيت أن لا جدوى من بقائي في الوزارة وتحمّل المسؤولية (8).
يذكر الحبوبي حادثة جديرة بالنقل والتأمل:
ذات صباح اتصل بي عبد الله مجيد “سكرتير عبد السلام عارف” قائلاً: ان الرئيس عبد السلام عارف كلفني أن أرسل إليك كتاباً وقد بعثته الآن مع مندوب في طريقه اليك. فسألته: وما فحوى الكتاب؟ أجاب: سيصلك وتعرف. وما ان وضعت السماعة وإذا بالسكرتير يطلب الإذن لمندوب الرئاسة ، فدخل وسلّمني مظروفاً مقفولاً مكتوباً عليه “سري وشخصي” قرأت فيه الآتي: كلّفني السيد رئيس الجمهورية عبد السلام محمد عارف أن أبلّغ سيادتكم بأنه قد تم تخصيص مبلغ وقدره أربعون ألف دينار من ميزانية القصر الجمهوري قد وُضِعَ تحت تصرفكم ويُصرف حسب معرفتكم في الأمور التي تنسبونها. والتوقيع عبد الله مجيد سكرتير رئيس الجمهورية (9).
استغرب الحبوبي من ذلك ، وكلّم عبد الله مجيد عما جاء في الكتاب ، فقال الأخير: ان السيد الرئيس هو الذي طلب أن يُوضع المبلغ تحت تصرفكم كمخصصات سرية تُصرف من قِبلك وبمعرفتك ولا أعرف أكثر من هذا.
طلب الحبوبي الرئيس عارف تلفونياً:
وبعد التحية قلت لقد وصلني الكتاب الذي أمرت بإرساله وهو أمامي الآن ، فهل لي أن أسأل مزيداً من الإيضاح ، فقال: هذا مبلغ مستقطع من ميزانية القصر الجمهوري ارتأيت ان يُوضع تحت تصرفك ، فقلت: انني أعرف أن كُلاً من وزارة الداخلية والدفاع ورئاسة الوزارة فقط لها مخصصات سرية وليس منها وزارة الشؤون البلدية والقروية ، فقال: أعرف ذلك ولكن هذه مخصصات من القصر الجمهوري؟ فسألته وهل خُصص مبلغ آخر مماثل لبعض الزملاء من الوزراء؟ أجاب لا. فسألته ولِمَ أنا بالذات؟ فأجاب لأني أعرف أن أعباءك كثيرة والتكاليف عليك باهضة لكثرة ضيوفك وطُلاب الحاجة فأردت مساعدتك. فقلت والله يا أبو أحمد ان ضيوفي وطلاب الحاجة يقصدون بيتي من قديم وقبل استيزاري فكيف تريدني أن أصرف عليهم من أموال الدولة. فقال وبان على صوته الضيق: أرجوك أبو شهاب لا تكن حساساً لهذه الدرجة ، ولم أدعه يسترسل بكلامه وقاطعته قائلاً: اني أرفض المبلغ (10).
وفعلاً رفض الحبوبي المبلغ وأشّر على كتاب الرئيس بكلمة “مرفوض”. ويذكر الحبوبي أن مدير الأمن العام رشيد محسن قد أخبره بأن الرئيس عارف قد حاول معه نفس المحاولة ولكنه رفض (11).
كتب بعدها الحبوبي مسودة الاستقالة ، والملفت للنظر هنا انه قد خالف الأصول المتبعة:
حرصت على أن أُعنون وأرفع كتاب الاستقالة الى رئيس الجمهورية مباشرة متخطياً رئيس الوزراء خلافاً للأصول المتبعة (12).
كلّمه الرئيس عارف تلفونياً بصوت عالِ مجلجل: هاي شنو أبو شهاب لويش مستقيل؟ فقال له الحبوبي: تعرف الأسباب وهي مذكورة في كتاب الاستقالة. فدعاه عارف لمكتبه صباح الغد:
استقبلني باهتمام شديد وأخذ يدافع عن نفسه وكثرة مشاكله وطموحاته وأنه بحاجة الى مساعدة المخلصين من أمثالي ، فقلت: يتطلّع الشعب لحكم يقوم على أسس صحيحة مستمدة من دستور دائم فيه حقوق وواجبات المواطن العراقي… ظل مستمعاً ولم يقاطعني ثم سألني: يعني تريد انتخابات وأحزاب وبرلمان؟ اجبته نعم هذا هو الطريق الصحيح (13).
سحب الرئيس عارف ورقة من مكتبه وطلب من الحبوبي كتابه أسماء الوزراء المقترحين ، وعندما كتبها علّق عارف: هذا بلوشي ، هذا ما عنده خبره ، هذا راسه ناشفة. ليقاطعه الحبوبي محتجاً على أسلوبه التعجيزي.
كانت النهاية أن داوم الحبوبي في غرفة المحامين بدلاً من الوزارة ، ليعاتبه الرئيس عارف على هذا التصرف المحرج ، وليرد الحبوبي بأنه قد أعطاه وقتاً طويلاً للمراجعة وتنفيذ الوعد ولكنه لم يتخذ أي خطوة في هذا الطريق ، فاستعمل الحبوبي هذا الأسلوب لكي يحرجه ويجبره على قبول الاستقالة ، فوافق الرئيس عليها أخيراً (14).
النتيجة التي نبغي الوصول إليها (إن صحّ ما رواه الحبوبي ونحن نميل لتصديقه):
1ـ كان الحبّوبي وزيراً قومياً نظيف اليد ، بدليل رفضه لهذا المبلغ المخصص من الرئيس عارف.
2ـ وجود مساحة من الحرية ليست بالهيّنة بين الرئيس ووزرائه.
هذه صورة من صور “العراق الجمهوري” جديرة بالتأمل ، فلماذا عندما نتحدث عن الجمهورية يتم القفز فوراً لما بعد 1968م؟! لأشد صورها قتامة؟ لكي يصل الشخص للمُثبَت في ذهنه سابقاً ، ألا وهو ادانة ما حصل في 14 تموز 1958م؟! ف”الحرية” التي يتم الحديث عنها دائماً في “العراق الملكي” ليست حكراً عليه! وإلا فها هو “الدكتاتور” عبد السلام عارف وهو يتقبّل النقد الشديد من أحد الوزراء!! فهل يختلف هنا عن رموز النظام الملكي؟
وختاماً ، هذا مثلٌ إيجابي واحدٌ من ضمن أمثلة متعددة في العراق الجمهوري.
الحواشي:
1ـ مذكرات أحمد الحبوبي ـ رسالة اعتذار الى الشعب العراقي ، دار الحكمة لندن ط1 2018 ص13
2ـ المصدر السابق ص15
3ـ المصدر السابق ص23
4ـ المصدر السابق ص35
5ـ المصدر السابق ص45
6ـ المصدر السابق ص101 وما بعدها
7ـ المصدر السابق ص154 و 155
8ـ المصدر السابق ص165
9ـ المصدر السابق ص165 و 166
10ـ المصدر السابق ص166
11ـ المصدر السابق ص167
12ـ نفس المصدر والصفحة
13ـ المصدر السابق ص167 و 168
14ـ المصدر السابق ص168 و 169