إزالة التجاوزات… حين تتقن الدولة قهر شعبها !

إزالة التجاوزات… حين تتقن الدولة قهر شعبها !

في كل موسم انتخابي، تتجدد المسرحية السوداء ذاتها :تنهض أمانة بغداد والدوائر البلدية في المحافظات ، مدعومةً بفيالق من الجرافات والقوى الأمنية … ؛ لتشنّ حملات “إزالة تجاوزات” تبدو ـ في مشهدها البصري والإعلامي ـ وكأنها معركة تحرير من عدو خارجي، لا عملية خدمية يفترض أن تُدار بروح القانون والرحمة.

الغريب بل والمخزي أن هذه الحملات لا تكتفي بالقسوة، بل يُروَّج لها عبر صفحات رسمية ومنصات إعلامية حكومية أو موالية، ترافقها أناشيد شعبوية، ومقاطع كوميدية، وتعليقات تهكمية، تُصور الفقراء وكأنهم “غزاة” أو “عملاء”، وتُظهر مشهد إزالة بيوت الطين والبلوك والخشب والسكراب وكأنها “نصر وطني” ضد احتلال اجنبي !

***مشاهد البؤس بلا مخرج

لا يمكن لعقل سليم أن يرى مشهد عجوز يتوسل باكياً أمام ( شفلات ) البلدية كي لا يُهدم سقف عمره، أو طفل يبحث في ركام بيتهم عن حقيبة مدرسته، ثم يعتبر ذلك “انتصاراً للمؤسسات الحكومية “.

مشاهد أليمة تتكرر: هذا ينهار بيته على رأس أطفاله ،وذاك يفقد دكانه الذي بناه قرشاً فوق قرش، وثالث يرى سنوات عمره تتحطم تحت عجلات الرافعات الحكومية… ؛ فيما المسؤول يُدخن سيجاره، ويصرّح بفخر: “أزلنا تجاوزاً جديداً”!

***أسئلة موجعة… بلا إجابة

ولعل السائل يسأل، والسؤال مشروع:

لماذا سمحت الحكومات العراقية طوال السنوات الماضية بالتجاوزات من الأصل؟

لماذا تم التساهل بل والتشجيع الضمني، بل والعلني أحياناً، عبر وعود انتخابية بتملّك هذه الأراضي والتجاوزات او غض الطرف عنها ؟

لماذا سمحت بعض الأحزاب والتيارات والفصائل ببيع الأراضي الزراعية أو المشاعات الحكومية للفقراء، بل وقبضت أموالاً طائلة لقاء ذلك؟

الأدهى أن المواطن، وبعد أن يبني ويؤثث ويستقر وينفق كل ما يملك، تأتيه الحكومة بنفسها لتهدم كل شيء دون سابق إنذار ولا تعويض، بل بزفّة إعلامية!

***الدولة التي تدفعك للجريمة ثم تعاقبك

نعم، الحكومة هي من دفعت المواطن دفعاً نحو “التجاوز”… ؛ عندما غابت مشاريع الإسكان، وعجزت الدولة عن تأمين السكن والعمل والرعاية… ؛ اضطر الناس للبحث عن أي مساحة يضعون عليها رأسهم، حتى لو كانت أرضاً زراعية أو مشاعة …

لماذا لا تبدأ الدولة من رأس المشكلة لا من ذيلها؟

لماذا لا تُبادر بحل أزمة السكن الخانقة، عبر بناء مجمعات سكنية واطئة الكلفة، وهي قادرة على ذلك؟

فلو بنت الدولة مليون وحدة سكنية بتكلفة 30 ألف دولار للوحدة السكنية ، لما تجاوزت الكلفة الإجمالية 30 مليار دولار — أي أقل مما يُهدر في عام واحد على الفساد والموازنات الكاذبة!

***البديل موجود… لكن الإرادة غائبة

كان يمكن للحكومات العراقية، لو أرادت، أن توزّع أراضي مخدومة للمتجاوزين، بدل تركهم ضحايا للابتزاز والمضاربات والتشريد… ؛ كان يمكن أن تُقرّ برامج تقسيط طويلة الأمد لبناء الوحدات السكنية للفقراء، بدل الزحف على أحيائهم كأنهم حشرات يجب إبادتها.

ولكن يبدو أن في الأمر “ما وراءه”… ؛ فهل هي فقط عشوائية في القرارات وارتجالية في الاجراءات واعتباطية في السياسات ؟

أم أن الأمر أعمق من ذلك — أجندة خارجية واستكبارية لزعزعة ما تبقى من الطبقات الفقيرة، وتجريدها من آخر ما تملك، كي تبقى طيعة ذليلة تحت قبضة الطائفة والحزب ؟

***من التجاوز إلى الانفجار

إن الدولة التي تُجبر المواطن على أن “يتجاوز” كي يعيش، ثم تعاقبه على تجاوزه، لا تبني شرعية، بل تصنع قنبلة اجتماعية… ؛ فالفقراء الذين خسروا كل شيء — أرضهم، بيتهم، مالهم، كرامتهم , دكانهم , محل رزقهم — سيتحولون عاجلاً أم آجلاً إلى طوفان غضب… ؛ فلا شيء أكثر خطورة من إنسان مسحوق، منكوب، بلا بيت، بلا أمل، بلا عمل , بلا وطن…؛ تجاوز بيته فهدمته الدولة…؛ تجاوز صمته، فانتقم منه الإعلام…؛ فمتى سيتجاوز صبره؟

*** وأخيراً…؛ هل هذه هي الدولة؟

هل هذا هو “الوعي الحكومي” الذي طالما تشدق به الساسة؟

أم أن القوم مأمورون، كما قال محمود المشهداني، بـ”التفليش والتدمير والتخريب”؟

وهل ما يحدث هو فعلاً تطبيق للقانون، أم نوع آخر من الهندسة الاجتماعية العكسية التي تهدف إلى سحق ما تبقى من الإنسان العراقي؟

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات