23 ديسمبر، 2024 2:49 م

في الظروف الاستثنائية والحرجة التي يعيشها شعبنا المنكوب طيلة سنوات القمع ، وخوض غمار حروب رغماً عنه ، في الظروف تلك ، ظهرت ثمة إفرازات سلبية لا حصر لها ، ولعل أهمها الأمراض المتعددة والمتلونة ، والتي منها الأورام الخبيثة ..
في مرورك بالشارع الذي يؤدي الى عيادات الأطباء ، والذي يتفرع منه أكثر من شارع وشارع ، تشعر أنك بمدينة آهلة بالمرضى ، الوجوه الشاحبة التي اعتصرها الوجع تكاد تريك عصارة معانات شعب لأكثر من ربع قرن ..
بعد التغيير الأخير ودخول الحرب الطائفية ودوّامة الإرهاب ، والخروج منها بعض الشئ ، أكتشف الجميع أنهم قد حظوا بمَلَكات التشخيص الاجتماعي, فخانة الإرهابيين ، وقطاع الطرق المهووسين بعادات السلب والمتجاوزين والمتسلقين والراكبين الموجة دائماً , وأصناف أخرى لا حصر لها ، متتبعين حالات الامتثال إلى الشفاء التي تبدو إماراتها على العامة .. شفاء السريرة التي شوهتها السنوات العجاف , إلا أنهم لم يتصوروا يوماً أن يكتشفوا فيه إرهابا جديداً ، وفريداً من نوعه , لا إرهاباً ينسف ضحاياه ، بالمفخخات والأحزمة الناسفة , بل ينسف ما تبقّى من أجساد المعوزين مع سبق الإصرار والترصد .. الغريب في الأمر، أن الذين تبنوا هذا النوع من الإرهاب علناً ، وفي وضح النهار، وبوجوه مكشرة ، هم الأطباء الذين نصبوا مفخخاتهم في عياداتهم ليبصروا بأمِّ أعينهم ، كيف تتساقط ضحاياهم المنهكة من المرض , بعد أن أنْهَكهم الصرف على (كارتات) المراجعات وأجور العمليات و ( راجيتات الأدوية ) التي يحتاجونها أو التي لا يحتاجونها ، وهم ملزمون بدفع أجورها ، ليبقى جسر التواصل المادي الفاحش قائما بين الأطباء والصيادلة ، والمختبرات ،من الذين تعاقدوا معهم ، كل ذلك بمرأى ومسمع من نقابة الأطباء التي يشرف عليها أطباء أيضا , يغريهم جمع الأموال من جيوب المصلوبين على خشبة مرضهم ، ما جعلهم لا يفكرون بتحديد أسعار المراجعات ، ولا حتى بأبسط وسائل الراحة لمراجعيهم .. الوسائل التي لا تكلفهم أكثر من ربع ريعهم اليومي , ففي أحدى العيادات ، حيث اكتظت الصالة بالمرضى المنتظرين دورهم ، يستقبلون الهواء الساخن من المولد الكهربائي الكبير الذي يصك بدويه الأسماع ، كي ينعم الطبيب ببرودة منعشة وهادئة ، فيحاول المريض أن يتشبث بها حال امتثاله بين يدي الطبيب  , إلا أن الوقت الذي يدر بالمال كل دقيقة لا يدع مجال لمكوثه أكثر من الوقت المجتزأ له من وقت قائمة المراجعين المقرر كل يوم , ناهيك عن استنزاف طاقة الأرواح قبل الأبدان التي غالبا ما تجد الطريق مسدودا في محاولة جمع الأموال لعلاج أمراضها المزمنة ..
لوزارة الصحة ، والأطباء نقول ، إن المهنة التي أقسم عليها الأطباء لا تدع مجالا  للتنصل من الرسالة الإنسانية ، التي تتوفر عليها المهنة هذه ، أكثر من سواها ، وليس هناك  ثمة تبرير أو موجب ، يدفعها ممارسيها ، للجشع الذي هم عليه اليوم ، مهما كانت المبررات ، إن وجدت ثمة مبررات..
يبدو أن الوزارة المعنية ، لم تجد لحد الآن ، ما يدفعها لمراعاة الوضع المعيشي لآلاف المرضى الذين تطلَب وضعهم الصحي أن لا ينقطعوا عن زياراتهم الإجبارية للعيادات ، وإن أرغمهم الانقطاع ، فلأسباب قاهرة ، لعل أهمها الوضع المادي  المتردي غالبا .