18 ديسمبر، 2024 8:49 م

إذن من طين وإذن من عجين

إذن من طين وإذن من عجين

اكاد افقد كل الأصدقاء والمعارف ، الواحد بعد الاخر. بل اكاد افقد كل الناس. اني المس باليقين انصراف الجميع عن ما اكتب. عندما يقرأ صديقي المقال الاول يطرب ويتفاعل ، ولكن عندما يقرأ المقال الثاني ، يمتعض ويتمرد ، ويفعل صديقي الاخر عكس ذلك ، في حين ان الاثنين واقصد المقالتين من عجينة واحدة. انها في اطار الوحدة الوطنية ولا غير ذلك. اني أومن تمام اليقين ان لا خلاص لنا الا بتحقيق الوحدة الوطنية. بتحقيقها نحصل على كل شيء ، وبفقدانها نفقد ونضيع كل شيء. وأبقى في حيرة بين الشك واليقين ، هل هذا الانصراف ، او العزوف عن ما اكتب ، هو انصراف محدد وخاص يعبر عن وجهة نظر لا تتقبل او مضادة للأفكار التي اعرضها او المواضيع التي أتطرق اليها ، وتنبعث من قلوب فقدت الرؤيا ، ام انه انصراف عام وشامل ليس فقط عن ما اكتب انا وانما انصراف عن ما يكتبه غيري ايضا ان كانت مواضيعهم التي يتناولونها وفق نفس المنهج الوطني ، وهذا الانصراف قطعا اسوء من الانصراف الاول او الخاص.

عن نفسي ، اقولها وبتواضع ، اني كنت وما زلت ، على العهد ، ولست بصدد التحول او التغير ما حييت. اني ارى ان الهوية القومية والوطنية ، هي التي ترسم ملامح الفرد ، مهما علا شأنه او مأثره في زمن ما ، ومهما كانت منزلته عند البعض منا ، وليس العكس ، كما يرى هؤلاء ، وللاسف ، ان الفرد او الأفراد ، هم من يرسمون ملامح الهوية القومية والوطنية. بحياتهم يحيى الشعب وتحيى القومية وتزدهر وبأختفائهم يموت الشعب وتموت القومية وتندثر.

من كان يعبد محمد (ص) فمحمد قد مات ومن يعبد الله تعالى فأن الله حي لا يموت. الشعوب تكتسب قدسيتها من قدسية الله عز وجل. اقولها ولا أخفيها ، كفى اذلال للشعوب العربية بأقران مصيرها بأفراد ، مهما كانوا هؤلاء الأفراد من وجهة نظر البعض منا ، انهم قد غابوا عنا الان. ولا ينظر اليهم والى أعمالهم وحتى انجازاتهم ان وُجدت ، الا عبر تلك الفترة الزمنية التي عاشوها.

وعن نفسي ايضا ، اني ارى ان الهوية الطائفيّة لا يمكن تعريفها الا تحت عنوان الجهل والتخلف. من يعشقها او يتحمس لها فأما انه جاهل او مريض. نعم انها موجودة أصلا في مجتمعاتنا من قديم العصور ، ولم تعالج بصورة صحيحة وواضحة من حينه ، لان مجتمعاتنا العربية تفتقد للعدالة والحريّة والديمقراطية ، فتركت الطائفية تنمو وتتسع كلما توفرت البيئة المناسبة لذلك. وبيئتها تقرأ من عنوانها الجهل والتخلف. ومن ذلك فإن اول ضحاياها هو المواطن العادي والبسيط المؤمن بها عفويا ، والذي يوهم بأنها الحامي والضامن له ولأسرته ولمن ينتمي اليها من أفراد المجتمع ، بينما هي في حقيقتها أدات لتدمير المجتمع الذي ينتمي اليه المواطن بسبب انغلاقها وتغاضيها عن السلبيات التي تنجم عن ممارساتها المُشينة وفق مقتضيات التسامح الطائفي. فكلما تمسك بها المجتمع ساءت أوضاعه وتخلف حضاريا ، وكلما تحرر منها ازداد وعيا وتطورا وازدهارا.

وإني مازلت اعتقد ، بل أؤمن ، ان الخطأ يولد انحراف ، فلا خطأ يمر دون ان يخلف انحراف ، ولا انحراف يحدث من غير ان يسبقه خطأ ، وبمقدار حجم الخطأ يكون انعكاس الانحراف ، ولا يمكن تصحيح ومعالجة الانحراف ما لم يتم اولا تصحيح الخطأ.

انحرافات اليوم ، وهنا حسب ما اعتقد ، مربط الفرس ، انها السبب الرئيسي للفراق بيني وبين بعض الأصدقاء والمعارف ، فأني ارى انها بمجملها ، ليست من نتاج خطأ واحد فقط ، نسميه الاحتلال ومن جاء مع الاحتلال ، بشكله وثقافته ، وما نلامسه ونعيشه كنتيجة لهما ، لنجعل منهما الشماعة التي نعلق عليها المشاكل والمأسي التي نعيشها اليوم ، وننسى ونتغافل عن غيرها ، وربما تكون اخطاء الماضي ، اكبر وأعمق من خطأ اليوم.

المشاكل والازمات التي تصيب المجتمعات لا يمكن اعتبارها من الماضي او تاريخ ما لم تعالج ويوضع حل لها ، لانها بخلاف ذلك تنتقل الى اليوم التالي تلقائيا ، وبأنتقالها تكتسب السرمدية. الخطأ عين الخطأ حين نقول ما لنا ومال يوم امس وما جرى فيه ، نحن نعيش اليوم ، وهذا في مظهره صواب وعين العقل والمنطق ، ولكن في باطنه غير ذلك ، لأننا لم نتخذ موقف بخصوص مشاكل يوم أمس والازمات التي خلفها ، بل تركناها نائمة بين اضلعنا لتستيقظ كلما مرت بها رياح ملائمة لانبعاثها من جديد.

نحن لم نتعرض لوحدنا لانتكاسات وكوارث ، بل شعوب كثيرة قد تعرضت لمثل ذَلِك. ولكن الفارق ان الشعوب الاخرى ، بعد ان تعرضت لانتكاسات ، اتخذت مواقف قاطعة بخصوصها ، وقالت انها من الماضي ولن نرجع اليها بعد اليوم ابدا. بينما نحن نتركها معلقة ولا نسدل الستار عنها ، بل نجعل منها شماعة لنعلق عليها أخطاءنا الجديدة والمضافة.

حين نضع الشعب ومقدساته اولا في الاعتبار ، يسهل علينا ان نناقش حياتنا في يومنا الحالي ، بشهدها ومرها ، ونشخص ، على نحو دقيق وإيجابي ، العلة او الوحلة التي نغطس فيها ، ومن ثم نصف الترياق الشافي لها. ونكون عند ذلك قد رسمنا الخطى الاولى التي نسير عليها لنبلغ هدفنا المنشود في تحقيق التقدم والازدهار والرفعة لشعبنا.

نحن نعيش بمعزل عن العالم وما يدور فيه ، وكأننا لسنا منه ، وفِي كل شيء. نحن نخلق لانفسنا الاعذار ، ثقافيا واجتماعيا ، ونعززها بسجل الماضي الكئيب ، لكي نتباعد بَعضُنَا عن البعض الاخر ، بدلا عن ان نتقارب ونتحد. الشعوب الاخرى من غير استثناء ، تعيش الحاضر ، الحاضر فقط ، وتقول عن الماضي ، كل الماضي ، بما فيه يوم امس ، انه اصبح تاريخ ، حتى ان بعضها لا ينظر الى المستقبل ، بل تركز على اليوم دون سواه ، بينما نحن نعيش في الماضي ولا نريد ان نغادره ابدا.

المصالحة الوطنية لا تصنعها الحكومات ، لاسيما ان كانت الحكومات على هذا النحو السائد الان. المصالحة يخلقها المواطن العراقي لنفسه قبل غيره. سأل مراسل احدى الفضائيات مواطن عراقي في ساحة التحرير عن رأيه بالمصالحة الوطنية التي تشرع بها الحكومة منذ ١٥ سنة وتعين لها وزير في مجلس الوزراء ، وميزانية مالية ، فأجابه المواطن هل بيني وبينك شيء حتى نتصالح بخصوصه؟

المِحنة اني أعطي العذر كل العذر لنفسي ، لما افعل وأقول وأفكر به ، ولكن لا ارى ان من حق الناس ان تصنع ذلك ، انه حق رسمته لنفسي دون سواها ، وخلقت له المبررات الساندة من كل نوع ، السماوية والوضعية ، بينما حرمت هذا الحق على غيري. اليس هذا حال العرب وحتى المسلمين منذ غياب الخليفة الرابع علي بن ابو طالب كرم الله وجهه وحتى يومنا الحالي؟ هل اعطى الحاكم ، اي حاكم ، اعطى الناس ، ما منحه لنفسه؟ هل تغير في ذلك شيء على مر العصور والأجيال؟ السنا في التاريخ المعاصر ، من صنعنا التوريث وجعلناه من صلب الانظمة الجمهورية؟ لماذا كل هذه المكابرة والقفز على الحقيقة؟ الا ينطبق علينا قول الله تعالى: فاستخف قومه فأطاعوه ، انهم كانوا قوما فاسقين(صدق الله العظيم).

انظر الى حال العرب الان ، ولا تفرق بين دولة واُخرى ، ولا بين نظام ملكي وآخر جمهوري ، من منهم من لم يستخف قومه؟ وأي قوم من كل الأقوام لم يرضخ؟ ولكن الاسوء ان أحزابا قومية ، لها ماضيها النضالي وجماهيرها الواسعة ، تخلت عن رسالتها في النضال وقيادة الأمة نحو التقدم والازدهار ، وأوكلت هذه المهمة الى قائدها لان يصنع بها وبشعوبها ما يشاء ، واقتصر دورها على ممارسة التصفيق للقائد وحفظ سلطاته المطلقة.

الى متى نبقى ننكر ذلك؟ لماذا لا نكاشف انفسنا ونعترف بالحقيقة؟ كيف تستطيع ان تحاسب الاخرين وانت لا ترضى ان تحاسب نفسك؟ كيف لنا ان ننتقد ما نعاني منه الان ، ونحن نغفل معاناتنا في الماضي؟ ان كانت معاناتنا اليوم شديدة وفوق المتصور وتجاوزت كل الحدود ، ولا اختلاف في ذلك ، فهل هذا يعطينا الحق لان نغفل الحديث عن معاناتنا في الامس؟ نحاسب عن اموالنا اليوم ونراها تسرق ، ولكن اين ذهبت اموالنا في الامس؟ اخطاء وجرائم اليوم ، ومهما كان حجمها ، انها لا تحجب الحديث عن اخطاء وجرائم الامس التي لولاها لما كانت جرائم اليوم.