في يومٍ تموزي لاهب توسطت فيه الشمس كبد السماء وسموم الصيف تلفح وجهه إشتد به العطش بحيث لم يعُد يقوى على بلع ريقه قرر العودة مسرعاً الى بيته وأخذ يُحدث نفسه كيف سيصل الى السُرادق الموضوع فيه حِب الماء(وعاءٌ فخاري يُستخدم لخزن وتبريد الماء في الصيف) وقد لُف بالجنفاص لتتحول موجات الحر القائض الى نسمات تداعب الحِب محولةً ًحرارة الماء الى برودةٍ تروي الظمأ ، وفي مخيلة صاحبنا كلب الدار وهو رابضٌ متنعمٌ ببرودة المكان وعذوبته وسحره الخلاب ، في خضم هذه الخيالات أسرع الخطى ليصل على عجالة إلى حيث تمنى ، ولكن هاله المنظر !!! حيثُ رأى أن الثور قد سبقه ويقيناً قد أصاب الثور من شدة العطش ما أصاب صاحبنا ، العجيب في الأمر قد عَلَق واستعصى رأس الثور في حِب الماء فراح يصرخُ بأهل البيت الذين اجتمعوا وقد أصابتهم الدهشة والذهول ، راح الجميع يفكر كيف يُخرجوا رأس الثور من حِب الماء دون أن يُفرطوا بكليهما ؟؟؟
بعد أن أعيتهم الحجة قرروا اللجوء الى (العارفة) ذو العقل الرشيد والرأي السديد عساه أن يتحفهم بفكره النيّر وبصيرته الثاقبة الى طريقةٍ للخلاص ، حالما استمع الى وقائع الحدث أقطب ما بين حاجبيه ثم أطرق برأسه إلى الأرض وأستل عوداً صغيراً راح ينكثُ به الأرض ويرسم دوائر ومربعات مفكراً ضارباً أخماساً في أسداس ، بعد هنيهةٍ رفع رأسه بعد طول تفكير ليقول : ليس في الأمر بُد : إذبحوا الثور !!!
بما أن العارفة الحكيم لا يُرد له رأي بادر الجمعُ مسرعين إلى تنفيذ أمر هذا الجهبذ ، ُذبح الثور المسكين وهو واقف وقد تحولت شُربة الماء إلى نقمةٍ أتت على باقي عمره ، لكن للأسف ما زال رأس الثور عالقاً في الحِب لذا كان القرار أن يرفعوا شكواهم ومصيبتهم الى علامة زمانه (الحسجة) الذي أمر على الفور بكسر الحِب ليمتثل الجميع إلى أمره وينفذوا بالحرف وصيته وكما يقول المثل العراقي ( لا حظت برجيلها ولا خذت سيد علي ) .
في يوم الأربعاء الموافق 4 /12 / 2013 وأنا أتابع قنوات التلفزة التي غطت تفاصيل عملية إقتحام نفذها 4 (أربعة ُ إنتحاريون) لمبنى مديرية إستخبارات كركوك واستولوا على عمارة جواهر مول المجاورة لمديرية الإستخبارت ليعتلي أحد القناصة سطح العمارة ، أعلنت الأجهزة الأمنية حالة الإستنفار وإستقدام قطعات مكافحة الإرهاب من محافظة السليمانية بعد أن رفضت تدخل قيادة عمليات دجلة التي أعلن قائدها أنه سيحسمُ الأمر خلال 30 دقيقة فقط وقد هيئ القطعات والطيران السمتي إلا أن طلبه جُوبه بالرفض من قبل قيادة الشرطة ومحافظ كركوك والقائمين على الشأن الأمني ويأتي هذا الرفض بسبب التحفظ على طريقة المعالجة لعلمهم المسبق أن الأمر سيتحول الى مجزرةٍ يُقتل فيها المسلحون وعشرات الرهائن من الأطفال والنساء والفتيات والموظفين وربما يُقصف المبنى التجاري (جواهر مول) ليكون أثراً من بعد عين ، كما حدث الأمر في عملية كنيسة سيدة النجاة في بغداد ومبنى مكافحة الإرهاب في بغداد ثم مبنى قائممقامية الطارمية ودائرة الرعايا في تكريت لذا رفضت الجهات الأمنية في كركوك تدخل قيادة العمليات في حسم الأمر كون المعالجة ستعتمد على مبدأ ( إذبحوا الثور ثم إكسروا الحِب) .
إستمرت المناوشات بين القطعات الأمنية والمسلحين من الساعة الواحدة ظهراً حتى الواحدة صباحاً والقنوات تنقل عن تلقي عوائل المحاصرين لإتصالات من ذويهم تؤكد أنهم محتجزون في السرداب أسفل المبنى التجاري وهم بحالة من الهلع والخوف والجوع والعطش لا نظير لها ليتم حسم الأمر بإحراق المبنى بالكامل على من فيه لنعود من جديد إلى مبدأ (أحرقوا المول واقتلوا مَن فيه أي إذبحوا الثور واكسروا الحِب) لتكون حصيلة الضحايا 120 مابين شهيد وجريح وتحرير 11 مخطوفاً وخسائر مادية تقدر بعشرة مليون دولار ودمار معلم هو الوحيد من نوعه في كركوك ، في الوقت الذي نُثمن طول صبر القوات الأمنية لأكثر من إثنتي عشر ساعة ويزيد أياً كانت الأسباب فإننا نتسأل : أما كان بالإمكان أن يستمر هذا الصبر بحيث تتم محاصرة المبنى ليوم أو يومين حتى تخور قوى المتحصنين وتنفذ ذخيرتهم في المبنى أو أن يتم اللجوء الى التحاور والوقوف على أصل المشكلة التي تحمل في طيات توقيتها الكثير من التساؤلات لماذا هذا التوقيت بعد أن أعلن مجلس قضاء (توز خورماتو ، أو دوز خُرماتو ، أو طوز خرماتو) التي تعني في اللغة التركية مدينة الملح والتمر كونها تشتهر بأجود أنواع التمور وأفضل أنواع الملح واليوم يحق لنا أن نسميها باللغة الكردية (خوين رشتن و كوشتن ) أي مدينة القتل والدماء أو ( tuzhurmatu dakan ve olum) التي تعني في التركية قتل ودماء في توز خورماتو أو كما يسميها أهلها اليوم (tuzhurmatu kan agliyor ) أي توز خورماتو تبكي دماً علماً أن إستهداف قضاء الطوز تقف خلفه الكثير من الإجندات السياسية ، وما أن صوت مجلس القضاء بالإجماع على الإنضمام الى كركوك بعد أن تحول القضاء الى مدينة أشباح ، حتى حدث ما حدث في كركوك !!!؟؟؟.
في ظل وجود ما يربوا على مليوني منتسب في القطعات الأمنية والعسكرية هكذا يكون حال العراق !!!؟؟؟ إن كان أربعة من المسلحين هذا فعلهم ألا يُفسر ما جرى في كركوك وسيجري في غيرها من مدن العراق هشاشة الوضع الأمني وأن استعراض موازين القوى عبارةٌ عن زوبعةٍ في فنجان !!!؟؟؟ ألا تسترعي الأحداث الدامية وقفةٌ لإعادة الحسابات والإقرار أن الفكر لا يُجابه بالعنف وسطوة السلاح وجبروت السلطة بل يجابه الفكر بالفكر والحجة تقرعها الحجة !!!؟؟؟ أن الدماء التي سالت وستسيل والأرواح التي أزهقت وستزهق ألا تحتم على الجميع أعادة الرؤى ما بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية آخذين بنظر الإعتبار أن تعدد مراكز صنع القرار تنعكس وبالاً وموتاً ودماراً يدفع فاتورته المواطن الذي لا حول له ولا قوة !!!؟؟؟ ألا يحتم علينا هذا المنعطف الخطير أن يعود من بيده القرار إلى دراسة الأسباب بروية وتأني وجدية ومعالجتها دون الإقتصار على معالجة النتائج التي إن إقتصر الأمر عليها فستسير الأمور من سيئ إلى أسوء .
ختاماً نسأل الله أن يكون لكلماتنا موضع القبول فإنها لا تعمى العيون ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، ونسأله جل في علاه أن يحقن دماء أهلنا في العراق وسائر بلاد المسلمين وأن يتقبل من قُتل شهداء ويُلهم أهليهم وذويهم الصبر والسلوان ، وأن يشافي الجرحى ويعافي المبتلين ويُنفس كرب المكروبين ، ويكشف هذه الغُمة عن هذه الأمة .
اللهم إحفظ العراق وأهل العراق
اللهم وأجعل بلادنا دار أمن وأمان
اللهم وأجعل بلادنا رخية رخيصة مدفوعٌ عنها البلاء والوباء
وسائر بلاد المسلمين ، إنك ولي ذلك والقادرُ عليه