لا اعتقد ان هناك مخرج اخر يمكن ان ينجي الشعب العراقي من المخاطر الكبيرة التي تطوقه ما لم يغير من نظرته العفوية والآنيّة للأحداث. يغير النظرة العفوية الى نظرة ستراتيجية ذات بعد مستقبلي واضح. ان ردة فعل الجماهير العراقية عنيفة وعاصفة ازاء الحدث الذي يصيبها عند وقوعه ، وكأن الدنيا قامت ولن تقعد ، ولكن ما ان يفوت قليل من الزمن ، الا ونرى ردة الفعل تلك ، قد خمدت وتلاشت وذهبت قيد النسيان. ولا ارى تفسير لذلك غير ان ردة الفعل الموصوفة ، يكون مصيرها هكذا ، لانها تفتقر للبعد الستراتيجي.
ولا اعتقد ايضا ، ان هذا الإطار الذي حدد به تفكير الشعب العراقي في الاوانة الاخيرة ، ومنذ الاحتلال سنة ٢٠٠٣ بالذات ، انه غير مقصود وغير مبرمج له. بل ارى عكس ذلك تماما. اذ حسبت كل الأفعال من حينه ووضعت الخطط لصد اية مقاومة لتلك الأفعال.
شكل مجلس الحكم من قبل سلطة الاحتلال ، وفق نظرية إلغاء الهوية العراقية التقليدية ، ووضع بدلا عنها هوية الانتماء الثقافي والعرقي ، او ما يعرف بالمحاصصة. فوفق هذه النظرية استبدل مفهوم الولاء للدولة او الوطن ، بمفهوم اخر الولاء لثقافة معينة او عرق معين.
واتبع مجلس الحكم هذه النية بأن عممها على كل مؤسسات الدولة العراقية ، القديمة والمستحدثة ، ما عدا تلك التي في اقليم كردستان ، وشرع لها القوانين التي تحفظ تطبيقها لهذا المسار الجديد ، ولكن من غير ان ينسى او يغفل ، ان تطبق تلك القوانين وذلك التمييز على ناس وتستثني أناس اخرين. وما كان كتابة الدستور لسنة ٢٠٠٥ ، بهذا الشكل ، الا ترجمة واضحة لهذا النهج المريض.
ووفق ذلك ، ما كان الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة جميعها دون استثناء لهذا الحد من الانفراط ، لولا ان يجد الحاضنة الملائمة له جدا ، ان الولاء اصبح للثقافة او العرق ، وهاتين كفيلتان لان توفران كل الأسباب لحماية السراق وافلاتهم من المسائلة والعقاب.
لا ينظر إلينا المجتمع الغربي ، وعلى رأسه الولايات المتحدة ، على اننا شعب واحد ومجتمعنا متنوع الثقافات والاعراق ، وانه يعيش على هذه الحالة من آلاف السنين ، بل ان المجتمع الغربي ينظر الينا ، عن قصد او جهل ، اننا اقوام متباينة ثقافيا وعرقيا ، رسم لها القدر ان تعيش سوية بعضها مع البعض الاخر ، بأنتظار الساعة المواتية لان ينفرط العقد الاجتماعي ما بينها ، وتذهب كل مجموعة لوحدها بعيدة عن المجموعات الاخرى.
ان الرابط لان تجعل الثقافات والاعراق متنوعة ، او تجعلها متباينة ، يكمن في الاطار العام الذي يوفره المجتمع او الدولة. ان اخذ المجتمع او الدولة بمعيار العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين ، وكذلك المساواة بين المرأة والرجل ، وان ساد النظام السياسي والقائمين عليه السلوك الديمقراطي والشفافية ، فهذا يفسح المجال واسعا لان يعرف ذلك المجتمع انه مجتمع حضاري ، وانه ذات تنوع ثقافي وعرقي.
ولكن ان ساد الظلم وتفضيل ثقافة على ثقافة اخرى ، وعرق على عرق اخر ، وفقدت المساواة بين المواطنين على أساس المواطنة ، وشاب النظام السياسي الغموض ، فهنا وبالتأكيد تنطبق عليه تسمية مجتمع متخلف تشوبه التباينات الثقافية والعرقية.
ما يحزن اننا لم نسمع لحد الان ، من الحكومة او من الداعم والحاضن لها ، ان هناك اخطاء قد ارتكبت بحق ابناء الشعب العراقي في الفترة الماضية ، منذ الاحتلال سنة ٢٠٠٣ ولحد أليوم ، ارتكبت وفق الهوية الثقافية او العرقية ، وان تلك الانتهاكات غريبة بمفرداتها عن معجم الثقافة العراقية والنهج الديمقراطي الذي نسعى الى تطبيقه وترسيخه في المجتمع العراقي.
وما يحزن اكثر ان البعض الاخر يعمل بالضد ، ولا يريد ان يقدم الأهم على المهم ، فهو يدعي ان الشريحة التي يمثلها تتعرض باستمرار للاضطهاد والتهميش ، ويرى ان إنصافها يكمن في الانحياز لكفة قيادة الاقليم وما تطالب به، ولا يرى اي سبيل اخر لرفع المظلومية عن شريحته غير هذا السبيل.
ان الاستفتاء الذي جرى يوم ٢٥ ايلول الماضي في كردستان لقول نعم او لا لانفصال الاقليم عن العراق ، له نظرة اخرى ، ينبغي عدم تجاهلها ، بل ينبغي مراجعتها وفق الصورة الموصوفة في أعلاه. هل ان كل أفراد ومجاميع المجتمع العراقي راضية عن النهج الذي تتبعه الحكومة الحالية والحكومات الاخرى التي سبقتها بعد الاحتلال ، وان لا اعتراضات لديها عنها، ام انها او بعضها غير راضية؟ هل انهم متساوين في الحقوق والواجبات ، ام انهم على درجات؟
واكثر ما يقلق في هذا الموضوع اليوم ، القول ماذا يريد الاخوة الاكراد بعد كل الذي حصلوا عَلَيْه؟ وكأنهم على دراية تامة بأن ما أعطي للاخوة الاكراد لم يعط لغيرهم من بقية شرائح المجتمع العراقي ، بل ما أعطي لهم على حساب بقية شرائح المجتمع العراقي. وان ما أعطي لهم رشوة وليس استحقاق مقابل غض النظر عن نهج يمارسه من في السلطة في بغداد.
ينقص الاخوة الاكراد وينقص غيرهم الكثير ، ينقصهم الشفافية المفقودة في العراق من اقصاه الى اقصاه. ينقصهم الشفافية التي لا تراعيها حكومة اقليم كردستان ولا كذلك بغداد او المركز. لأول مرة نسمع الان ان لا ميزانية مالية سنوية للإقليم طيلة الفترة المنصرمة من سنة ٢٠٠٣ ولحد الان. وان لا رقابة للمركز على الاقليم. ولأول مرة نسمع ان مبيعات النفط لمنطقة كردستان وما اضيف اليها من نفط كركوك تذهب الى الحسابات الخاصة لبعض الأشخاص وليس للميزانية العامة للإقليم. أين كانت حكومة المركز في بغداد عن هذا؟ ومن يصدق الموطن الكردي الان حكومته في الاقليم التي دأبت في الأعوام الثلاثة الماضية تقول له ان حكومة المركز قد حجبت عنكم الارزاق ، ام يصدق بغداد التي تقول له الان ما ورد أعلاه؟ أين كانت حكومة المركز والإقليم يستلف من تركيا ٢ مليار دولار؟
نعم ان اجراء الاستفتاء مهما حاول الاخوة الاكراد خلق الذرائع والحجج له فهو بمثابة اعلان حرب ، ولا يختلف عن اي عصيان مسلح كان يتم في الماضي ، ونعم أيضا ، ان الشروط التي وضعتها حكومة بغداد بالمقابل ، لاستئناف الحوار او التفاوض مع قيادة الاقليم ، هي استجابة لنداء الحرب المعلن في الاقليم. ونعم ان زيارات البعض لقيادة الإقليم ، ومنها زيارة رئس البرلمان د.سليم الجبوري ، وزيارة نائبي رئيس الجمهورية ، (د. اياد علاوي والأستاذ اسامة النجيفي) كانت غير مناسبة تماما وربما غير هادفة وتحمل في ثناياها بارود للحرب.
للاسف لا يبدو من المراجعة المفصلة أعلاه ان الموعد المرتقب لان تتولى القيادات العراقية مسئوليتها الوطنية بعيدا عن الأمراض التي اصابت الجسد العراقي انه قريب وربما انه حتى لا يلوح في الأفق. ومن غير الخاف على احد ان مواصلة النهج الحالي وعدم تصليحه لا يعني غير ان ما يجري في الاقليم ما هو الا البداية والقادم اعظم.
اعتادت كل شعوب العالم في الماضي والحاضر ، ان تسعى هي بنفسها لخلق نخب كفؤة وواعية ومخلصة تعبر عن أرادة الشعب وتطلعاته ازاء المحن والكوارث التي تصيبه ، وتسعى النخب من جانبها ، الى تنظيم صفوف الشعب وتوحيده حتى يصار الى التغلب على المصائب التي اصابت البلاد. وللاسف نفتقد الان الاثنين نفتقد الشعب الواعي والحريص ونفتقد ايضا الى النخب المخلصة.
لا خيار امام الحكومة العراقية الان غير ان تسلك نهج العقلانية والتصالح بالطريقة التي تجدها ملائمة وتعالج الممارسات الخاطئة التي ارتكبت من قبلها ومن قبل الحكومات التي سبقتها بحق كل العراقيين . الصلح سيد الأحكام. ولا ينجح اي صلح الان الا وفق ادفع بالتي هي أحسن.