23 ديسمبر، 2024 2:33 م

إدارة التفاوض … طريقة أفضل للحياة

إدارة التفاوض … طريقة أفضل للحياة

Negotiation Management The Best Way of Life
يعد التفاوض من المواضيع الواسعة والمهمة في الحياة المعاصرة ، سواء أكان على مستوى الأفراد أم المنظمات أو الدول ، حيث يكاد يلازم أغلب النشاطات التي تقوم بها الأفراد خلال حياتهم اليومية أو تقوم بها المنظمات خلال مسيرتها . وبالرغم من قدم المفاوضات كعملية ونشاط منذ وجود الخليقة وعلى مرَّ الحقب الزمنية ، فإنها أصبحت في عصرنا هذا ، لاسيما بعد إزدياد وتشابك العلاقات الدولية والمصالح بين الشعوب ، ذات أهمية متزايدة حتى أطلق بعض الكُتاب تسمية ((عصر التفاوض)) The Age of Negotiation على عالمنا اليوم . وبلا شك فأن هذه التطورات ستستمر بالأهمية على مدى المستقبل الآتي ، ففي الحياة عامة ، وفي معاملاتنا اليومية خاصة ، أصبح الإنسان المعاصر ، ومن حين لآخر يشعر بالحاجة الملحة إلى الإلمام بفنون وأصول وأساليب التفاوض واستخدام أفضل ما لديه من مهارات لحل الأزمات والمشاكل التي تواجهه تجاه الآخرين ( أفراداً ومنظمات ودولاً ) وحيث أن المفاوضات شكل من الالتقاء بين طرفين أو أكثر ، فأن الهدف منها هو الوصول إلى اتفاق يتحرك كل طرف من خلاله نحو تحقيق نتيجة تعتبر جيدة تخدم مصالحهما المشتركة .

وتعتبر المفاوضات عملاً حيوياً وضرورياً وحتمياً لحل حالات التناقض والصراع التي تقع بين الأفراد والجماعات والدول ، وذلك أن عملية التفاوض تساعد الأفراد على تحقيق أهداف منظماتهم ودولهم ، إلى جانب كون التفاوض عملية اتصال إنساني يقع بين فردين أو أكثر يفكرون بصوت مسموع ، مستهدفين من ذلك تبادل الآراء والأفكار للوصول إلى الإقناع والإقتناع حول قضية معينة تكون قيد التباحث .

ومن هنا برز الاهتمام بالتفاوض ـ أفراداً وجماعات ودول ـ وكذلك الاهتمام بتنمية المهارات والقدرات اللازمة لهم ، إذ لا نكون مغالين إذا قلنا أن المفاوض الماهر الممتلك للمهارات والقدرات التفاوضية ، أفضل من نظيره غير الماهر حتى ولو تساوى الإثنان في طريقة وأسلوب استخدامهما لفنون التفاوض .

وعند الولوج في الحياة العملية للمديرين وإدارتهم لأنشطة منظماتهم ، فأن هذه الحياة تشير إلى أهمية نشاط التفاوض في تحقيق أهداف منظماتهم ، إذ نلاحظ المديرون يمارسون اتصال مستمر بالأفراد والجماعات داخل المنظمة وخارجها ، سواء كان ذلك بقصد الحصول على الموارد المادية والبشرية وتحويلها إلى مستلزمات تشبع حاجات ورغبات المستفيدين ، وكذلك في حل المشكلات والمنازعات المحتملة التي قد تبرز خلال سعيهم لتصريف تلك المستلزمات ، وقد عكست هذه الأهمية تزايد رعاية الجهات المختلفة ( كليات ومعاهد ومراكز علمية ) للتفاوض وسعت جميعها لتكثيف الجهود لإدخال هذا الموضوع في مناهجها العلمية .

كما سعت جهات آخرى ( أهلية وحكومية ) إلى تدريب منتسبيها على أعمال التفاوض وإكسابهم المعارف والمهارات والأساليب اللازمة بسبب تزايد أهمية نشاط التفاوض في أعمالها ، وقد أصبح العديد من المهتمين بمنشأت الأعمال والمنظمات الآخرى يعي المدى الكبير لأهمية الإحاطة بالأساليب الفعالة في التفاوض .

أولاً ـ جذور عملية التفاوض :

تمتد جذور العملية التفاوضية إلى العصور الموغلة في القدم ، فقد اعتبر أحد الكتاب المشهورين في حقل التفاوض ، وهو الدكتور Karrass قصة أدم وحواء عليهما السلام ، على إنها تقدم لنا وصفاً دقيقاً لأول عملية تفاوضية يمكن أن نتعلم الكثير من نتائجها ، كما لابد من الإشارة إلى حقيقة أن الإنسان قد أمتهن التجارة وتبادل السلع والبضائع منذ أكثر من خمسة الآف سنة ، سيما في حضارة وادي الرافدين في بابل وسومر وأكد وأشور . ومما يعزز هذا الرأي مادلت عليه التنقيبات على ما كان في أمهات المدن التاريخية من مدارس وخزائن لكتب ومن مصنفات دونت على ألواح الطين والجدران والتماثيل باللغات السومرية والأكدية والأشورية ، احتوت على أمور تتعلق بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية . ومن خلال التطور الذي حققته الحضارات الإنسانية الأولى هذه نشأت علاقات جديدة وازدادت الحاجة إلى الاتصال وحل المشاكل الناجمة عن نشاط التبادل التجاري والمعاملات الاجتماعية التي تتطلب توافر وسيلة من شأنها أن تساعد على ترتيب هذه النشاطات ، والاتفاق على وضع قواعد صحيحة لذلك الهدف ، وهنا برز التفاوض كوسيلة ملبية لهذه الحاجة المتزايدة اختص بها رجال ذوو صفات شخصية قوية وخبرة ودراية مميزة .

وكانت العرب تطلق عبارة المراوضة على المفاوضات التي كان يجريها الرسول محمد ((عليه الصلاة والسلام )) والتي أشهرها مفاوضات صلح الحديبية ، فيما كانت ترى ضرورة توافر صفات أساسية في المتفاوض (( أن يكون حاذقاً واسع الحيلة يعرف كيف ينتهز الفرص ، حازماً

يعرف كيف يبت في الأمور ، ذكياً نشيطاً ، صبوراً وحكيماً في نظره للأمور )) . وكانت كلمة (( سفارة )) وظيفة معروفة لدى العرب ، إذ تتولى تمثيل القبيلة في شؤون المصالح بعد القتال أو التفاوض مع سائر القبائل لأمور مختلفة . كما أن الأسواق التاريخية آنذاك لم تقتصر على حدود البيع والشراء ، بل توسعت لتكون بمثابة أماكن للاجتماع والتشاور وفض النزاعات وحل الخصومات وإبرام عقود التحالف والمصالحة وما إلى ذلك من أنشطة تتطلب توافر مفاوضين أكفاء .

عليه يمكن القول أن هذه الفعاليات لم تعكس في مجملها تظاهرة اقتصادية واجتماعية وسياسية وملتقى ثقافياً وحضارياً فحسب ، إنما جسدت في الوقت ذاته الطبيعة المتسعة للعملية التفاوضية والمتشعبة في غاياتها ومجالاتها . إن فعاليات بهذه الشمولية وبهذا الحجم لا يمكن لها أن تحدث وتنفذ وتستمر وتزدهر بدون مفاوضات واسعة أيضاً ، حول العديد من جوانبها ولاسيما المواصفات والاسعار والتسليم وبقية الشروط والالتزامات التعاقدية الآخرى .

أما في العصر الحديث فكثيراً ما يشير الكُّتاب المهتمون بالتفاوض إلى مقالات فرانسيس بيكون وإلى كتاب ميكافيلي الشهير (( الأمير )) الذي عالج فيه حيل الحكم والسياسة ، كما كان للعرب قصب السبق في معالجة هذا الموضوع ، فقد سبق أحد الكتاب العرب كلاً من بيكون وميكافيللي في وضع مخطوطة كان عنوانها (( رقائق الحلل في دقائق الحيل )) التي قدمها (( رنيه خوام )) في كتاب في الفرنسية ترجم إلى عدة لغات آخرى ، ويحوي هذا الكتاب من الحيل السياسية من حيث تعلم فنون الإمارة .

ثانياً ـ مفهوم التفاوض :

جاء في لسان العرب لأبن منظور محمد بن مكرم ، تحت مادة (( فوض )) أن لفظة المفاوضات تعني : (( المساومات والمشاركة والأخذ والعطاء ، كأن كل واحد منها رد ما عنده إلى صاحبه )) . والتفاوض اشتقاقاً من الفعل فاوض يفاوض يعني : عقد المحادثات المؤدية إلى التفاعل ، أي المحادثات المتعلقة بالتوصل إلى أساس للاتفاق نحو مشكلة قائمة أو هدف محدد .

* عرف التفاوض على أنه (( عملية تتم بين جهات لها آراء ومطالب مختلف عليها يحاولون حلها من خلال المساومات والتنازلات المشتركة للوصول إلى إتفاقية مقبولة لكليهما .

* كما عرف على أنه (( الحوار المنظم الذي يتم بين طرفين أو أكثر ، لهما شخصية قانونية محددة ، كأسلوب متفق عليه لحل الخلافات بينهما ، أو التوصل إلى حلول للمسائل ذات الأهمية )) .

* أما الرأي القانوني فيعتبر المفاوضات على إنها (( التحاور والنقاش والمجادلة يلجأ إليها كل طرف من الأطراف المشاركة لغرض إقناع الطرف الأحر بوجهة نظره وبحجته )) .

* ويعرفها المهتمين بالعلاقات الدولية على إنها (( الوسيلة الرئيسة لتنظيم وتنسيق العلاقات الدولية الثنائية والإقليمية والجماعية ، وتحقيق الأهداف الوطنية ومتطلباتها في مختلف المجالات )) .

* موسوعة وبستر البريطانية فتشير إلى المفاوضات على إنها (( العملية التي يتم بموجبها اجتماع طرفين أو أكثر ، لإجراء مباحثات تهدف إلى التوصل إلى اتفاق حول مسألة ما )) . أي اتفاوض هنا هو (( التباحث مع طرف أخر بهدف التراضي أو الاتفاق )) .

* وفي الإدارة فأن المفاوضات هي التعامل مع الآخرين أو إدارتهم To Deal With or Manage

مما تقدم يمكن القول أن التفاوض يعني :

1. عملية اتصال ( تبادل المعلومات ) قائمة على التحاور والتفاعل والإقناع .

2. أن المفاوضات تقوم بين طرفين أو أكثر .

3. تعتمد المفاوضات على مبدأ الأخذ والعطاء .

4. الهدف من التفاوض التوصل إلى اتفاق معين تلتزم به الأطراف المتفاوضة ، ضمن مدة زمنية معينة .

ثالثاً ـ خصائص التفاوض :

يتضمن التفاوض الخصائص الآتية :

1. يجب أن يكون هنالك طرفين أو أكثر في أية مفاوضات ، على أن يكون هنالك نوع من عدم الاتفاق أو التعارض في مصالحها ، أو أن لها متطلبات مختلفة يمكن حلها بنتائج مشتركة .

2. هنالك إدراك مشترك لدى أطراف التفاوض بوجود صراع أو تعارض بين احتياجاتها أو مراكزها أو مواقفها أو اهتماماتها ، هذا فضلاً عن أن الأطراف لديها رغبة في التوصل إلى اتفاق .

3. يجب أن تكون هنالك اعتمادية بين الأطراف ، لذا فأن النتائج يجب أن ترضي جميع الأطراف .

4. يجب أن يتم التوصل إلى اتفاق في مدة زمنية معقولة ومنطقية وبما يحقق استفادة جميع الأطراف .

5. يجب أن يكون هنالك التزام بالاتفاق الذي يتم التوصل إليه ، وإلا فأن الاتفاق لا يمثل شيئاً إذا ما بقي حبراً على ورق .

6. أن مفاوضات الأعمال ينبغي أن تؤكد على العلاقة طويلة الآمد في نتائجها .

رابعاً ـ التفاوض علم أم فن أم مهارات :

تتفاوت وجهات نظر المهتمين بالإدارة في تصنيف موضوع التفاوض من حيث وصفه بأنه علم قائم بذاته ، أم أنه فن وموهبة ، أم أنه مجموعة من المهارات والخبرات اللازمة لذلك ، أم أنه مزيج من كل ذلك .

قد ينظر إلى التفاوض كفن أكثر مما هو كعلم ، لذلك فهو لا يمتلك قواعداً وقوانيناً ثابتة ، فالمعرفة العلمية مهما بلغ تراكمها لا تعد كافية كأساس المهارة والتفاوض ، لذلك فهو فن من فنون الحياة اليومية يحتاجه كل فرد مهما كان عمره أو موقعه أو مركزه الوظيفي . ولقد وصفه البعض الأخر بأنه مهارة تتكون من العلم والفن ، فهي تخضع لقواعد وأصول معينة يمكن أن تضفي عليها صفة العلم ، وهو ما يكسب مهارة التفاوض صفة الاكتساب والتعلم ، لذا قد يصح القول أنه إذا كان البعض قد ولدوا بمهارة التفاوض ، فأن البعض الأخر يمكنه اكتسابها بفهمها وتعلم قواعدها )) .

ويرى البعض بأنه قادر على إدارة دفة المفاوضات طالما أن الله قد حباهُ طلاقة اللسان ، ولديه معرفة باللغات أو ثقافة واسعة مستقاة من أجهزة الأعلام … إلا أن المسألة أبعد من ذلك فالتفاوض هو مزيج من العلم والفن والخبرة والدراية والتدريب . إن هذا المزيج هو الأقرب إلى الوصف الصحيح للتفاوض ، لأنه ليس من الممكن التغافل عن الفن في التفاوض ولا عن مهاراته ، كما أنه أصبح علماً قائماً بذاته ، مرتبطاً بالعلوم المختلفة ويستند إلى القياس والتحليل في الكثير من جوانبه .