24 ديسمبر، 2024 2:33 ص

إدارة الازمات وسبل التعامل معها ومواجهتها

إدارة الازمات وسبل التعامل معها ومواجهتها

على الرغم من أن الأزمة هي وليدة مجتمعها ؛ إلاّ أنها تؤثر فيه تأثيراً مباشراً ، وتتفاعل مع معطياته وظروفه. والتفاعل المتبادل بين الأزمة والمجتمع يحكمه في الأساس ، الفكر السائد في المجتمع ؛ فكلما كان ذلك الفكر متقدماً ، ازدادت قدرة المجتمع على تجاوز أزماته. وازدياد شدة الأزمة واستفحالها لن يكونا سبباً كافياً لتدمير المجتمعات وانهيارها ، وخاصة تلك والراغبة في مواجهتها. ولن يتحقق ذلك ، إلاّ من خلال إدارة تسيطر على ِقيم المجتمع ومُثُله العليا ، وتكون قادرة على تنظيم مسيرته ، وتعمل على تقوية دعائمه وروابطه ؛ فضلاً عن المشاركة الفعالة من أبناء المجتمع في مواجهة ومقاومة التصدعات التي تنعكس على قدراته وتؤثر في إمكانياته..الفندما يحدث ما لا تتوقعه

     وتتعدد أسباب الأزمات بتعدد الصراعات وتنوّعها.  فقد تكون لعوامل اقتصادية واجتماعية ، ناجمة عن ازدياد الفوارق الاجتماعية بين طبقات المجتمع. وتكون عواملها سياسية قوامها التفاخر، القومي والديني في المجتمعات ذات الأعراق والديانات المختلفة ، أو الصراعات الحزبية والثقافية، وعدم المشاركة السياسية. كذلك قد يكون سبب الصراع في مجتمع ما هو تباين قِيَمه ومبادئه ، والذي يؤول إلى تنافر أيديولوجي بين الطوائف الاجتماعية المتباينة ، أو بين نظام الحكم والشعب. وبذلك، تتضح معالم الصراع الداخلي وتأخذ شكلاً من أشكال المقاومة ، حينما تفتقد تسويته الآليات الملائمة والفاعلة ؛ فضلاً عن القدرة على تحقيق التوازن الاجتماعي في الدولة ؛ ما يُفْقِد الحكم  شرعيته ، ويُشعِر أبناء المجتمع بالتمزق وفقدان الهوية والاغتراب. وبذلك ، تكون الأزمة مرحلة من مراحل الصراع الذي تتسم به عمليات التفاعل الناشط ، أينما وجدت الحياة وفي أيّ صورة من صورها المختلفة.

تطوُّر مفهوم إدارة الأزمات

          يصعب تحديد مفهوم دقيق وشامل للأزمة ، وخاصة بعد اتساع نطاق استعماله ، وانطباقه على مختلف صور العلاقات الإنسانية ، وفي مجالات التعامل كافة. إلا أن تطوره التاريخي ، قد ظهر في الطب الإغريقي القديم ، تعبيراً عن نقطة تحُّول مصيرية في تطور المرض ، يرتهن بها شفاء المريض خلال فترة زمنية محددة ، أو موته ومن ثَم تكون مؤشرات المرض أو دلائل الأزمة ، هي الأعراض ، التي تظهر على المريض والناجمة عن الصراع ، بين الميكروبات والجراثيم ومقاومة الجسم لها ؛ وليس عن الأزمة المرضية التي ألمت به. وبعد أن شاع اصطلاح الأزمة ، في المعاجم والكتب  الطبية ،  بدأ استخدامه مع بداية القرن التاسع عشر، في التعبير عن ظهور المشاكل ، التي تواجهها الدول إشارة إلى نقاط التحول الحاسمة في تطور العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

    في عام 1937 ، عُرِّفت الأزمة بأنها خلل فادح ومفاجئ في العلاقة بين العرض والطلب ، في السلع والخدمات ورؤوس الأموال. ومنذ ذلك التاريخ ، بدأ التوسع في استخدام مصطلح الأزمة ، في إطار علم النفس عند الحديث عن أزمة الهوية. وكذلك استخدمه الديموجرافيون ، عند حديثهم عن أزمة الانفجار السكاني. وأسفر استخدامه عن تداخل ، بين مفهوم الأزمة والمفاهيم المختلفة  ذات الارتباط الحيوي والوثيق به.

   تعني الأزمة ، في اللغة العربية: الشدة والقحط. وأَزَمَ عن الشيء: أمسك عنه. وأَزَمَ على الشيء أزْماً: عض بالفم كلِّه عضاً شديداً. وتأزم: أصابته أزمة. وفي اللغة الإنجليزية، تعريف الأزمة ؛ فيعرّفها قاموس وبستر Crisis بأنها نقطة تحوُّل إلى الأحسن أو إلى الأسوأ ، في مرض خطير، أو خلل في الوظائف ، أو تغيير جذري في حالة الإنسان ، وفي أوضاع غير مستقرة. وعرَّفها قاموس أمريكان هيرتيج بأنها وقت أو قرار حاسم ، أو حالة غير مستقرة ، تشمل تغييراً حاسماً ، متوقعاً؛ كما في الشؤون السياسية. أمّا قاموس أكسفورد ، فعرَّفها بأنها نقطة تحوُّل ، أو لحظة حاسمة في مجرى حياة الإنسان ، كالأزمة المالية أو السياسية. وكذلك عَرَّف قاموس جامعة أكسفورد الأزمة ، بأنها نقطة تحوُّل في تطوُّر المرض ، أو تطوُّر الحياة ، أو تطوُّر التاريخ. ونقطة التحوُّل هذه، هي وقت يتسم بالصعوبة والخطر والقلق من المستقبل ؛ ووجوب اتخاذ قرار محدَّد وحاسم في فترة زمنية محددة. وجذور الكلمة في الإغريقية هي Krisis؛ وتعني: قرار Decision.

أُسُس التعامل مع الأزمات ومبادئه وإستراتيجيات مواجهتها:

        تتعدد إستراتيجيات مواجهة الأزمات. ويحدَّد اختيار أيٍّ منها، وفقاً للإمكانيات المتوافرة والمتاحة، والتحديد الدقيق لمسارات الأزمة، والتحولات التي قد تطرأ عليها. والنجاح في التعامل معها، هو رهين الاختيار السليم لإستراتيجية المواجهة ومنهجها، والذي يجب أن يحقق القدرة على التكامل، بين مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والإدارية؛ ويوفر مناخ التفاهم والمشاركة الفعالة، لجميع المستويات والاختصاصات الوظيفية، في الكيان الإداري أو المؤسسة أو الدولة. وتستند الكفاءة، والفعالية في استقراء المستقبل، وبالقدر الذي يحقق الإدراك الكامل بطبيعة الأزمة، فإن ذلك يتوقف أساساً إلى الاستنتاج الدقيق لشتّى الخيارات الممكنة، في مواجهة أخطارها.

        ويُعَدّ تحديد الهدف الرئيسي، والأهداف الثانوية وأسبقيات تحقيقها، من المبادئ الأساسية للتعامل مع الأزمات؛ إذ في ضوئها، تحدَّد إستراتيجية المواجهة، التي قد تتسم بالعنف والقوة، بهدف القضاء علي الأزمة أو الحدّ من خطرها؛ وقد تهدف إلى تجزئتها ووقف نموّها، أو تغيير مسارها. ومن ثم، فإن لكلٍّ من الإستراتيجيات تكتيكاتها وأساليبها المختلفة، التي تنتهجها خلال مراحل تطور الأزمة، مع الأخذ في الحسبان الظروف، الزمانية والمكانية، التي يمكن أن تساعد على إضفاء مزيد من القوة، عند مواجهة الأزمات. ولا يمكن المفاضلة بين الإستراتيجيات مفاضلة مطلقة، عند التعامل مع الأزمات، بل مع الأزمة الواحدة، عند تكرارها؛ وإنما يحدد إستراتيجية التعامل مع الأزمة الهدف المطلوب تحقيقه، ومدى ملاءمته تلك الإستراتيجية، وما يتطلبه ذلك من تحرك داخلي، لتدعيم القدرات الذاتية؛ وآخر خارجي، لاستقطاب القوى اللازمة للمواجهة.

        كما يتطلب التعامل مع الأزمات الاستعداد الكامل، والدائم، من خلال توافر الاحتياطيات الملائمة لمواجهتها؛ إضافة إلى الفهْم الكامل لأبعادها. ولن يتحقق هذا اْلفهْم، إلاّ من خلال الوجود الدائم، والمستمر، في موقع الأزمة، حيث يمكن الحدّ من تناميها، وتحقيق التدخل السريع، والفوري، وبالقدر الذي يتطلبه الموقف. ولن يكون هذا الوجود المستمر ذا فاعلية، من دون تفويض السلطة إلى فريق إدارة الأزمات ما يرتئيه.

إستراتيجيات مواجهة الأزمات وتكتيكاتها:

تعتمد إستراتيجيات مواجهة الأزمات، على القدرات الشخصية لفريق المواجهة، والظروف الموضوعية المحيطة بالأزمة، والإمكانيات والقدرات المتاحة. ويمكن اختيار إحدى الإستراتيجيات، لاتباعها طوال عملية المواجهة؛ إلاّ أنه يمكن تغيير الإستراتيجية، طبقاً لمراحل تطور الأزمة. وتتمثل إستراتيجيات المواجهة، وكذلك التكتيكات التي توافقها، في الآتي :

1. التعامل العنيف مع الأزمة

غالباً ما تتبع هذه الإستراتيجية مع الأزمات المجهولة، التي لا معلومات كافية عنها. وكذلك الأزمات المتعلقة بالمبادئ. إضافة إلى اعتمادها في حالة تشعب الأزمة وانتشارها في عدة اتجاهات. وفي إطار هذه الإستراتيجية، تنفَّذ عدة تكتيكات متباينة، هي:

أ. التدمير الداخلي للأزمة: من خلال تحطيم مقوماتها، والتأثير في تفكير محركيها، والسعي إلى خلق صراع داخلي بين القوى المسببة للأزمة، ومحاولة استقطاب بعضها.

ب. التدمير الخارجي للأزمة: بالحصار الشديد للقوى المسببة لها، وتجميع القوى الخارجية، التي تعارضها، ومحاولة إقحامها في إطار الأزمة، سعياً إلى تدمير مقوماتها.

2. الحدّ من نموّ الأزمة

في إطار هذه الإستراتيجية، يُقْبَل الأمر الواقع، ويسعى إلى منع تدهور الموقف؛ فهي، إذاً، إستراتيجية تلائم مواجهة القوى الكبرى المسببة للأزمات المتشعبة؛ إضافة إلى صلاحها لأزمات الرأي العام وقضاياه، والاضطرابات العمالية. أمّا تكتيكاتها، فهي:

أ. التعامل، بحرص، مع القوى المحركة للأزمة والمسببة لها.

ب. تلبية بعض متطلبات القوى المسببة للأزمة، من خلال التفاوض المباشر، وتقديم بعض التنازلات المحدودة.

ج. العمل على تخفيف حدّة الأزمة، من خلال النصح والتوجيه.

د. تقديم المساعدة والدعم إلى القوى المعارضة للأزمة.

3. تقسيم الأزمة

قوام هذه الإستراتيجية، هو تقدير الموقف، بدقة؛ والدراسة التحليلية لمكونات الأزمة، والقوى المؤثرة فيها، والعلاقات الارتباطية بينها. وتُعتمَد في الأزمات الكبيرة، شديدة التهديد؛ إذ تُقسّم الأزمة إلى عدة أزمات ضعيفة الضغط، ما يسهل التعامل معها. وتركز هذه الإستراتيجية في فك الروابط المكونة للأزمة، وتحويلها إلى عوامل ومكونات متعارضة؛ ولذلك، تتبع عدة تكتيكات، أبرزها:

أ. إيجاد نوع من تعارض المصالح، بين مكونات الأزمة.

ب. عرض بعض المكاسب على بعض القوى المسببة للأزمة، ما يساعد على انهيار التحالفات القائمة.

4. التأثير السلبي في الفكر المحرك للأزمة

يكوّن الفكر المحرك للأزمة مجموعة ِقيم واتجاهات، ذات تأثير شديد في قوة الأزمة؛ تحاول هذه الإستراتيجية إضعافها، تخفيفاً للضغط، الذي تسبب بظهور الأزمة وتناميها. ولتحقيق ذلك، تُتَّبع عدة تكتيكات، هي:

أ. التشكيك في مبادئ القوى المكونة للأزمة وقِيمها.

ب. محاولة اجتذاب بعض القوى المرتبطة ارتباطاً ضعيفاً بفكر الأزمة.

ج. السعي إلى تضامن وهمي مع الفكر، الذي يحرك الأزمة؛ لإحداث انقسام داخلي فيه.

5. دفع الأزمة إلى مرحلة متقدمة

تهدف هذه الإستراتيجية إلى دفع القوى المحركة للأزمة، إلى الدخول في مرحلة متقدمة، يظهر خلالها الصراع الداخلي، بين التكتلات غير المتجانسة للقوى المسببة لها. وتتمثل تكتيكاتها في الآتي:

أ. التظاهر بضعف المقاومة.

ب. استخدام الشائعات في إذاعة معلومات عن بعض الانهيارات، الناجمة عن الأزمة.

ج. تقديم بعض التنازلات، التي قد تثير الخلافات، بين القوى المسببة للأزمة.

6. تغيير اتجاه الأزمة

تهدف هذه الإستراتيجية إلى التعامل مع الأزمات شديدة القوة والعنف، ذات التأثير المدمر، الذي يصعب مواجهته أو مقاومته؛ إذ يُبادَر إلى مسايرة الأزمة، أقصر مرحلة ممكنة؛ ثم العمل على تغيير اتجاهها إلى عدة اتجاهات فرعية، تساعد على المواجهة الفاعلة، وتحقيق نتائج إيجابية. ولتنفيذ هذه الإستراتيجية، تُتَّبع عدة تكتيكات، هي:

أ. التنحي بعيداً عن الأزمة، والسماح لها بالظهور.

ب. التحرك مع الأزمة، وخاصة مع اتجاهها الأساسي الفعال.

ج. العمل على خفض سرعة اندفاع الأزمة.

د. إيجاد اتجاهات فرعية، وبديلة، تساعد على تفتيت الأزمة.

هـ. إبعاد الأزمة عن مجالها الأساسي.

و. إحكام السيطرة على اتجاه تحرك الأزمة.