بعد ما يناهز فترة السبعة عقود التي عاشها الحزب الشيوعي العراقي مخضرماً بين عهود سياسية متضاربة بين الحقبة الملكية و الانظمة الجمهورية ، و ما رافقها من تجارب غنية بسلبياتها و ايجابياتها ، كان قد امتاز فيها الحزب عن غيره كثيرا ، و تفوق على الاحزاب التي كانت متواجدة في الساحة معه ، و كان له المقدرة على التسلل للحكم بطرق و ادوات متعددة ، و كان يحضى بدعم خارجي واضح حتى لو اقتصر على الجانب الاعلامي ، بما رافق التجربة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي آنذاك ، حينما كانت نموذجا أخاذا ينبهر به الجميع ، خلافا لتجارب الاحزاب القومية التي لم تستطع الاتيان بنموذج قائم بشكل فعلي في ذلك الوقت.
إن قوة الحزب الشيوعي قد تفوقت على كل الاحزاب السائدة في الساحة ، و التي كانت تقتصر على قوميتها او دينها ، فالحزب الذي ينادي للقومية ينتعش انصاره في المنطقة ذات الطابع الكردي او العربي او التركماني كل حسب قوميته ، و الذي ينادي للتوجه الديني من الاحزاب تجد أنصاره يقتصرون على المناطق التي يدين بها الناس بذلك الدين ، و ينطبق الحال على الاحزاب ذات الطابع المذهبي و التي ينحسر الميل اليها لانها ستكون الاقل عددا بين الجميع ، بينما النظرية التي قام عليها الحزب و أرتكزت عليها مبادئه ، كانت من منطلقات عقائدية تتجاوز الدوائر الدينية او الطائفية او الاثنية او المذهبية الضيقة و تتسع للجميع ، و عليه انك تجد التنظيم الشيوعي رائجا ضمن الوسط الكردي او التركماني او العربي بصرف النظر عن القومية و الدين و المذهب ، حيث امتدت ايديولوجيته لتكتسح جميع أبناء العراق ، و هذا الامر لايقتصر على مرحلة معينة انما كان و لايزال.
صحيح ان عقدة الحزب الشيوعي المستعصية في حينها ، انه لم يحاول الانفتاح على الجميع ، و لم يحاول التوفيق بين تطلعات الجماهير و بين مصلحة الاتحاد السوفياتي في وقتها ، فكانت أولوية تغليب مصالح الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي ، هي أحد الاسباب التي ساهمت في نكوص و تحجيم دوره ، و تجميد فاعلية نشاط الحزب ، و ما رافقها من إستبداد بعثي ضمن منظومة الحزب القائم في العراق ، أضف الى ذلك أنه لم يحاول بشكل جاد و مُقنع أن يضع لنفسه هوية خاصة به تعبّر عن استقلال ذاته ، فانكفأ مخذولا لفترات طويلة.
إن الكارثة التي تحل بالحزب الشيوعي في الوقت الراهن ، هي كارثة الكوارث ، فبالرغم من رفع الحظر عنه ، و الذي كان واقعا عليه أيام النظام السابق ، و دخوله العلني في المعترك السياسي في الساحة العراقية بأنصاره و مقراته و صحفه و بياناته ، فقد بات يمتلك النشاط الحر و بحماية كفلها له القانون و الدستور ، و له كامل الحرية في التعامل مع الاحداث في إبداء رأيه و طرح أفكاره ، إلاّ أنه بدا مستسلما كثيرا ، حتى وصل الامر به الى المهادنة على حساب مبادئه ، و على حساب مصلحة البلد ، و بدا ايضا ضعيفا يستعطف العون من الجهة او الحزب او التيار الفلاني كي يتحالف معه أملا في الحصول على مقعد او اثنين او ثلاثة ، و نسي انه يتحتم عليه ان يفوز باكثر من نصف المقاعد البرلمانية ، لكي يغير أطراف المعادلة ، و نسي ان الحظوظ التي يمتلكها اليوم و ينفرد بها ، كفيلة بمنحه النسبة الاغلب من المقاعد (لو أحسن التفكير و التخطيط و التصرف) و لعدة أسباب ، منها ان الفترة التي يمر بها الشعب العراقي و تبرمه من الاحزاب الاسلامية السيئة التي اقترفت علنا دون وازع كل انواع المفاسد ، و قد خذلت جمهورها و أتباعها و مؤيديها الذين أضحوا بامّس الحاجة الى من يمدّ لهم طوق النجاة ، فكانت الفرصة سانحة للحزب الشيوعي لاغتنامها و استغلالها أحسن استغلال ، بعد ان اصبح يمتلك ناصية الامر لترجح كفته ، و لكنه و للاسف بقي منزوياً عاجزاً لم يستطع كسب الجولة ، و لم يتمكن من الاستفادة من هذه الفرصة الثمينة لينهض بقوة ، و يسعف الشعب المنكوب الذي أصبح يبحث عن ضوء من خلال خرم باب.
كما ان الحزب الشيوعي لم يحاول ان يتجرد من أنانيته يوماً واحدا ، ليعمل تقييما شاملا للتوصل الى نقاط الوهن و الضعف الذي رافق مسيرته ، مما أدى الى استمرار الوقوع في الخطأ ، و عدم الاستفادة من هذه الفرصة فأضاعها الى الابد ، و التي بات من المؤكد انه لم تأتي فرصة أوفر منها ، سيما ان الوضع المرتقب في العراق سيزداد تدهورا ، كما انه لم يفكر في تحديث برامجه تماشيا مع متطلبات المرحلة ، و لم يستطع ايضا من رفع الغشاوة بينه و بين الكثير من طبقات و أفراد المجتمع ، و لم يحاول إيصال أفكاره بطريقة تؤدي الى تصحيح ما علق باذهان الناس من تشويه للحقائق عن صورة الحزب و تاريخه بطريقة شفافة تزيل الغموض و الالتباس ، و الاهم من ذلك ان خطوات كل حزب تتخللها مواقف سلبية و اخرى ايجابية ، و هنا و من دواعي الشجاعة الادبية و لمقتضى المصلحة العامة ، ان يشير الحزب الى تلك المواقف لتحسين ايجابياتها و تجنب سلبياتها ، و ليس أحسن من المكاشفة التي تمنح الثقة و تسترد المصداقية و تعزز العلاقات مع الجميع و تحقق الغايات المنشودة.
لقد انتفض الشعب العراقي لمرات عديدة إلاّ انه يبقى مكشوفا و أعزلا ، و لم يجد من يأخذ بيده ، فبالرغم من حركة الاحتجاجات الشعبية العارمة التي طغت على الشارع العراقي ، لم يستطع الشعب الوقوف على أقدامه ليشكل زخما ضاغطا ، و لم يستطع الحزب الشيوعي إحتواءها و توجيهها بشكل صحيح واضح المعالم ، و دون ان يسمح بترك بصمة لمن تاجر بهذه الاحتجاجات ، و سعى جاهدا لحرف مسيرتها و تغيير بوصلتها لمآربه ، و كذلك و هذا هو الاهم ، لم نرى تشكيلا حزبيا جديدا يطفو على السطح ليفرز حزبا سياسيا يستطيع ان يستقطب المطالبين بالاصلاح (كما حصل في شمال العراق ، حينما جاءت حركة التغيير ، و شقت طريقها بين الصفوف ، و فرضت نفسها ، مستغلة الواقع السيء القاتم ، ذو التوجه المتفرد بالسلطة من قبل الاحزاب الكردية المسيطرة على المشهد السياسي ، فأصبح لها الثقل في منافسة الاحزاب التقليدية الكردية ، بالرغم من إمكانات تلك الاحزاب الضخمة) مما ترك المجال الى بقاء هيمنة الاحزاب الاسلامية على السلطة في وسط و جنوب العراق ليزداد الوضع سوءا أكثر ((وهو ما يجعل المشهد غامضا إلى حد بعيد ولا يمكن تصوره بسهولة ، وكل ما يمكن توقعه في هذا الإطار أن الناخبين قد لا يشاركون في الانتخابات المقبلة بقوة كما شاركوا في دوراتها السابقة ، وهذا لن يغير من الواقع كثيرا ، لأن أنصار الأحزاب الاسلامية سيوصلونها إلى السلطة مرة أخرى ، طالما أن الدستور العراقي او القوانين المعنية لم تعين حدا أدنى لنسبة المشاركة في الانتخابات لتوصف بأنها ناجحة او غير ناجحة)).