22 نوفمبر، 2024 8:32 م
Search
Close this search box.

إحياء التديّن الأنساني

إحياء التديّن الأنساني

تساءل كثير من القرّاء والمتابعين الكرام عن السبب فيما أشرنا اليه في مقال سابق  عن  طغيان التدين الشكلي الطقوسي على حساب التدين الانساني؛ بحيث اصبح الحجر أكرم من البشر، وبناء الجامع أو الحسينية أهم من إشباع جائع او إيواء مشرد او تكفل يتيم، وتساءلوا عن علاج هذه الظاهرة السلبية التي تحولت الى ثقافة تجتاح المجتمعات الاسلامية.
اذا أردنا ان نكون اكثر جدية ونتجاوز الأسباب الطافية على السطح ونبحث في العمق عن أسباب هذه المشكلة؛ سنرى ان السبب الأساس الذي يكمن وراءها يتمثل في الفهم الخاطئ للدين والقراءة المقلوبة لرسالته التي تهدف بالمجمل الى صناعة الانسان الصالح المتحلي بقيم الاخلاق، وإحياء الحس الإنساني عند الانسان المتدين حسبما جاء عن نبينا الكريم ص ( إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق )، ولكن ما حصل هو تقديم قراءة سطحية للدين جعلت موضوع الأخلاق وقيم الانسانية ينزوي في آخر اهتمامات الانسان المتدين بدل ان يكون اولا، ورد عنه “ص” ( لا إيمان لمن لا أمانة له ) لتصبح سائر تعاليم الدين واهتماماته رافدة وداعمة لهذا البعد في شخصية الانسان المؤمن. فانقلبت الصورة وتأخرت واقصيت قيم الأخلاق في أولويات المُربّي المتدين وتقدمت عليها أمور كثيرة اقل أهمية منها، تكفي نظرة سريعة لما يبثه الخطاب الاسلامي عموما عبر القنوات والمنابر الدينية المختلفة ليكتشف  المراقب عملية الإغفال والتجاهل للاخلاق والقيم الروحية والإنسانية في عملية تنشأة الانسان المسلم وتربيته. وان اهتمام الخطاب الاسلامي بالطقوس والشعائر دونه بكثير اهتمامه بمسألة الاخلاق اذ تراجعت هذه الأخيرة تراجعا كبيرا لتنحسر في زاوية ضيقة.
نعم العبادات مهمة في حياة الانسان المتدين خصوصا الصلاة ولكن ماقيمة صلاة لا تقترن بالصدق ولا بكف الاذى عن الاخرين ولا بالامانة ولا بحب الخير للناس، وما جدوى صوم مع اكل أموال الناس بالباطل او صوم لا يقترن بقضاء حاجة محتاج وإشباع جوعة جائع.؟
ألقى تراجع الاهتمام بالاخلاق وانزواؤه في الثقافة الدينية السائدة في أوساط المجتمع عامة بظلاله الكثيفة على المنهج المتّبع من قِبَل الآباء في تربية ابنائهم بعد ان تربوا هم أنفسهم ايضا على الدور الهامشي للاخلاق فنجد ان الأب المتدين يحرص منذ الصغر وقبل سن التكليف ان يدرب ولده على الصلاة ولكنه لا يحرص بنفس الدرجة من الاهتمام على تنشئته على حفظ الامانة أو الصدق او احترام الموعد الخ، وينزعج كثيرا إنْ عَلِم أنّ ولده تهاون بفرض من الفرائض؛ لكنه لا ينزعج بنفس الدرجة ان اكتشف ان ولده لم يف بوعد، او أنه كذب، او لم يحفظ أمانة. وبذلك هو يرسل رسالة لولده غير مباشرة يتلقاها الطفل بوضوح مفادها ان الذي يوصلك الى الله ويجعلك من اهل رضوانه ويدخلك الجنة هي صلاتك كيفما اتفقت اما القيم والمبادئ الاخلاقية فلا تعدو ان تكون ثانوية كمالية هامشية ليست ضرورية. من هنا صار المسلم يجمع بين الصلاة والسرقة او الصوم والظلم او الحج والتجاوز على الاخرين ولنا فيمن تصدى للحكم من اصحاب الايادي المتوضأة ان في العراق او مصر او تونس او تركيا خير دليل.
وأخيرا ان لم يتقدم عنصر الأخلاق ويكون عماد التربية وأساسها الذي تبتنى عليه كل المسائل الاخرى فسنظل نجتر مأساتنا وتتوالى خيباتنا ولنا في اليابانيين أسوة عملية حين اعتمدوا مادة الأخلاق كأهم مادة دراسية منذ مراحل الدراسة الاولى.

أحدث المقالات