على الرغم من أن المضادات الحيوية مطلوبة لعلاج الالتهابات البكتيرية الحادة، إلا أن سوء إستعمالها ساهم في زيادة المقاومة البكتيرية لتلك المضادات الحيوية. إن الإفراط، أو سوء إستعمال المضادات الحيوية يولد مقاومة البكتريا للمضادات الحيوية، والتي يمكن أن تمنع علاج العدوى التي تسببها تلك البكتريا.
بسبب الإفراط في تناول المضادات الحيوية، أصبحت بعض البكتيريا مقاومة حتى لأقوى المضادات الحيوية المتاحة اليوم. إن مقاومة المضادات الحيوية أصبحت مشكلة واسعة الانتشار، والتي أشار إليها “مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها” الأمريكي على أنها “واحدة من المشاكل الصحية العامة الأكثر إلحاحاً وخطورة في العالم”.
كما أعلن المركز الأمريكي أعلاه أنه يسجل في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها سنويا مليوني حالة إصابة ببكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية، ويتسبب هذا في وفاة أكثر من 23 ألفاً من هؤلاء، رغم أن الولايات المتحدة تمتاز بأنها تمتلك نظاماً ممتازاً لتقنين تعاطي المضادات الحيوية ومكافحة سوء إستعمالها دون داعٍ، فما بالنا بحال دول العالم المتأخرة – ومنها بالطبع العراق- والتي يمكن لكل من هبَّ ودبَّ فيها أن يذهب إلى أية صيدلية ودون وصفة طبية ليبتاع آخر ما توصلت له البشرية من مضادات حيوية طالما أنه يقدر على دفع ثمنها! مثل هذه الفوضى هي مسامير تدق في نعش الوجود الإنساني.
أنا على ثقة مطلقة أنه توجد علبة/شريط “فلاجيل” في ثلاجة كل بيت عراقي أو على الرف في مكان ما من المنزل. حالة مؤلمة وخطرة جداً بحيث أن كل فرد من أفراد أي عائلة عراقية لا بد وأن إستخدم هذا الدواء في فترة معينة من حياته، ليس مرة واحدة بل عدة مرات.
إنه من المؤلم جداً أن جميع صيادلة العراق وبدون إستثناء يبيعوه لأي مواطن يطلبه ومن دون وصفة طبية في حين أن ذلك ممنوع أخلاقياً ومهنياً لو كان الصيدلاني يلتزم بأخلاقية المهنة في موضوع صرف الدواء.
كتبت سابقاً عن خطورة إستعمال المضادات الحيوية (الأنتي بايوتك) على صحة الإنسان حين تستعمل بدون داعٍ طبي وبدون وصفة من طبيب، ذلك لأن العالم يواجه الآن مشكلة، بل مصيبة كبرى ألا وهي مقاومة الأمراض لما متوفر من المضادات الحيوية في السوق الصيدلانية، بحيث تعمل شركات الأدوية في سباق مع الزمن من أجل إنتاج مضادات حيوية جديدة لتفي بالحاجة الماسة إليها بعد أن أصبح ما متوفر في السوق غير ذي فائدة في علاج الأمراض البكتيرية نتيجة تكون مقاومة لما متوفر من المضادات الحيوية بسبب سوء إستعمالها، كما هو في العراق الذي يعتبر واحداً من أكثر دول العالم في الإستعمال السئ للمضادات الحيوية كونها متوفرة للبيع بدون وصفة طبية.
فللحد من تطور البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية ومن أجل الحفاظ على فعالية “فلاجيل” والأدوية المضادة للبكتيريا الأخرى بشكل عام، يجب أن يستخدم “فلاجيل” فقط لعلاج الحالة المرضية أو منع العدوى التي ثبت أو يشتبه بقوة أنها ناجمة عن البكتيريا الحساسة لـ “فلاجيل” وليس لغيره من الأدوية المضادة للبكتيريا الأخرى، حيث أن لهذا الدواء فعالية عالية ضد أنواع معينة جدا من البكتريا لا تتأثر بمضادات حيوية أخرى معروفة عند عامة الناس في العراق مثل الأمبسيلين وغيره من مشتقات البنسيلين، على سبيل المثال.
لهذا أحذر جميع العراقيين، وبشدة، أنه قد تبين وثبت علمياً أن مادة ميترونيدازول (التي هي الإسم العلمي لـ “فلاجيل”) هي مادة مسرطنة في الفئران والجرذان، ولهذا ينبغي تجنب الإستعمال غير الضروري لها. يجب أن يتم إستعماله فقط للاستطبابات الخاصة به والتي من المفروض أن يعرفها الطبيب فقط، وهي إستطبابات تختلف عن تلك التي توصف لها المضادات الحيوية الأخرى.
إن ما يحدث من سوء إستعمال لدواء “فلاجيل” في العراق ليعتبر في رأيي العلمي كارثة صحية سيصعب علاجها إن لم يتوقف المواطن العراقي عن إستعمالها إلا للحالات الخاصة بإستعمالها وبوصفة من طبيب.
المصيبة، بل والطامة الكبرى التي تحدث في العراق أن المضادات الحيوية تباع من قبل الصيادلة من دون وصفة طبية، وسبب ذلك هو ضعف أو عدم وجود رقابة شديدة على الصيدليات وعلى صرف تلك الأدوية، وبهذا تتحمل نقابة الصيادلة ووزارة الصحة المسؤولية الكبرى في تفشي الإستعمال السئ للمضادات الحيوية التي أصبحت أسعارها في العراق أرخص من أسعار “الحب والفستق والحامض حلو”…. لا بل والأهم من ذلك كله، هو أنه لا يوجد مواطن عراقي واحد إطلاقاً، وأقولها عن ثقة، قد إستخدم جرعة كاملة من مادة “فلاجيل” كما موصى بها من شركات الأدوية المنتجة للدواء، والخلل الكبير هنا هو بيع الأدوية في العراق بطريقة غريبة جداً لم أر مثلها في أي دولة من دول العالم التي زرتها والتي عملت فيها، ألا وهو بيع الدواء بالأشرطة (كما يسموه)، يعني أن المريض لم يتناول الجرعة الكافية والكاملة الموصوفة علمياً للدواء، ولأي دواء، ومن ضمنها المضادات الحيوية. وهذا الجانب سيؤدي حتماً بتوليد مقاومة لا يمكن التغلب عليها ضد الدواء الذي لن يفيد المواطن مرة أخرى لو تعرض لنفس الحالة المرضية التي إستعمل لها الدواء مسبقاً.
* بروفيسور إختصاص بعلم الفسلجة والعقاقير الطبية
إحذروا من الأدوية القاتلة في منازلكم … “الفلاجيل” نموذجاً
إحذروا من الأدوية القاتلة في منازلكم … “الفلاجيل” نموذجاً
محمد العبيدي
أستاذ بعلم الفسلجة والعقاقير الطبية وخبير بالصحة البيئية ومستشار متخصص بإدارة المؤسسات الصحية ومترجم محترف
مقالات الكاتب