ليس من السهولة بمكان ان تكتب عن كل الذي تراه سيئ في بلدك , لان الظرف الاجتماعي الضاغط يحتّم عليك ان تحابي وتتلون وتتغير بطبيعة التغير الحاصل هناك . ليس عيباً ان نرى عيباً , بل العيب ان نسكت عنه .
مجتمعنا العراقي هو كباقي المجتمعات العربية اذا لم يكن اكثرها يحب المديح والثناء والاطراء , وملتزم ببعض القوانين العربية العائدة الى عمق الصحراء العربية.
الأمر الذي يصعّب في مهمة المنقب العراقي أو الباحث الاجتماعي هو اننا لا نملك الاذن التي تسمع لاي شكل من اشكال النقد , او تعي ذلك المتغير الكبير الذي يطرأ على العالم الكوني من حولنا .
كنت قد ذهبت الى بلدي العراق قبل فترة فشاهدت وعايشت بعض من الامور السيئة والغير مقبولة في عراق ما بعد صدام والبعث و التي ارى من الواجب الوطني والاخلاقي ان اتطرق لها علّني اسهم في تغيير جزئي لتلك الحالات .
ذهبت الى هناك في بداية الصيف فشعرت بتلك الحرارة اللاهبة التي تختزل معنىً من معاني جهنم التي نقرأ عنها في القران الكريم , وأيقنت ان هناك شيئاً غير عادي في ذلك السَموم اللافح الذي يحاول اختراق جسم الانسان الى حيث عظامه .
هناك وعلى الحدود العراقية الكويتية بالتحديد كنت انتظر حيث انا وعائلتي انتظر لكي يُسمح لنا بالدخول الى الوطن . وانا في ذلك الانتظار جاءني رجل شرطة قال هل تريد لحقائبك ان لا تفتش واغراضك ان لا تخرج ؟ قلت كيف قال ادفع قلت ادفع شنو ؟ ! قال ادفع فلوس !!! .
الحقيقة وبعد ما افقت قليلاً من سؤال رجل الشرطة قلت له شكراً , فنظرني شزراً ثم ذهب وكأنه يتوعدني بأن يسرق حتى الاغراض التي في الحقائب عقاباً على اثمي الذي اقترفته بعدم دفع رشوة له و لعصابته . والامر كذلك حينما اتى التفتيش واذا بصقور النهب والسلب انقضوا على حقائب البلاستك وكأنهم ينهشوا في لحم الغزال غير آبهين او مترددين في عملهم . حتى اكملوا المهمة من عبث وخراب قالوا خلاص تستطيع ان تذهب .
وحينما وصلت الى الاهل و اخبرت بعض الاخوة عن الذي حصل معي قالوا هذا يحصل مع كل الناس تقريباً والذي لا يدفع ( يطلعون روحه ) .
بعد مكوثي هناك بفترة ذهبت مع احد الاخوة الى دائرة التسجيل العقاري ( الطابو ) وبعد عملية روتينية سخيفة جداً ومملة جداً , وفي عملية ماراثونية من طبع اوراق ومستمسكات الى البطاقة التموينية وبطاقة السكن , يجعلونك تمشي يومك كله لكي يوقع لك الموظف الفلاني وبالتأكيد ان ذلك الموظف حينما يرى ان المزدحمين عليه كثر يرفع انفه ويدني حاجبيه ويرفع يديه ويسقط قلمه ويزعق بالناس يا اخوان خلونه نشتغل ابتعدوا شوية عن المكتب , المكتب الذي لا تستطيع ان تضع يدك عليه من كثرة التراب و الحبر وبعض بقايا المشروبات والمأكولات .
المهم بعد كل هذه الدورة و التي يجب ان تدفع فيها اموالاً ( رشوة ) حتى موظف التنظيفات لانه بالتاكيد يعرف جميع الموظفين .
بعد كل هذا العناء ولمدة اربعة ايام قالوا لصاحبي انتظر ( الحجي ) منو الحجي ؟ قال صاحبي هو المساح . قلت خيران شاء الله . وفي اليوم المقرر فعلاً جاء الحجي رجل في متوسط الستين من العمر يجر انفاسه بصعوبة ويتكلم فيبلع الكلام , قال له حجي اخر كم تطلب حجينه ؟ قلت كم يطلب على ماذا ؟ قالوا لكي يقدر البيت بمبلغ زهيد حتى لا تدفع اموالاً للضريبة ! قال الحجي المساح الخايف الله , والله انه ما اطلب شيء لان انتم اخواني لكن ( انطوني ميتين الف للجماعة لان انه ما اريد ) قلت سبحان الله هذا الرجل المترهل الجشع مساح لو تمساح ؟ .
هذا ليس غريباً في الواقع العراقي الحاضر بل هو شأنٌ معروفٌ و مألوفٌ لدى الكثير من الناس .
الجديد الذي اكتشفته لاحقاً ان هناك تماسيح متخفية في دوائر الدولة وفي غيرها من المؤسسات الاهلية و الدينية تفوق حتى تماسيح الفلبين ضخامةً وشراسةً وفناً عجيبا ً غريباً في اصطياد الفرائس .
التماسيح البشرية عندنا والتي تشبه في حركتها التماسيح الحيوانية من حيث الهدوء والاستقرار والدموع والتأني الى ان يأتي الصيد السمين فينقض عليها دون هوادةً او رحمة .
التماسيح المتخفية عندنا تقرأ القرأن وترتل آياته وعندما تستمع الى تدبرها وتطلعها في احكام الله والخوف منه تعالى تشعر وكأنك في عالم اخر عالم الملائكة من حيث الخشوع والخضوع والرأفة والرحمة بالمساكين من الناس . تذهب الى الحج في كل عام لتلعق الحجر و ترتوي من ماء زمزم .
التماسيح عندنا لا تترك عملاً لله واجبا ً كان او مستحبا ً إلا وقامت به فالزيارة الاربعينية مثلاً مملؤة من التماسيح والتي تختلف مقاصدها بمختلف الحجم والنوع والتفكير .
الغريب في الامر ان هناك في بلادي شيئاً غريباً وغير طبيعياً لا نريد ان ننظر اليه او نتمعن فيه . الناس , كل الناس تقريباً متدينة المظهر تعرف الحقوق والواجبات لكن دون العمل بها , مما يشعرك ان هناك شيئاً خاطئاً في حركة الناس , غلفت به عقولهم وأُغمضت به أعينهم وسيقوا به الى مقاصد ومآرب , الله اعلم بها .
لو افترضنا اننا ( العراقيون ) من أخيار الارض ولسنا أهل شقاق ونفاق كما يقال عنا ؟ .
فما الذي يجعل إخوة يتقاتلوا على مساحة شبر من الارض ؟ , او يتنازع الجيران بدعوى الملكية على جدار ٍ يريد ان ينقض من قدمه واستهلاكه للسنين التي مرت به ؟ اذا كنا اصحاب دين ومبدأ وأعراف وتقاليد , أيعقل ان في ارضنا القتل والنهب والسلب ؟ . اذا زعمنا اننا اصحاب حضارة ممتدة على أفق التأريخ ؟ أيعقل ان شوارعنا و أسواقنا ودوائرنا وكل شيء محيط بنا بهذا القدر من الاتساخ والعفن والقمامة التي تملئ كل فراغات الارض العراقية ؟
أعتقد ان كل هذه القسوة الطبيعية اتية من قسوة الطبع . او كما يقولون ان قسوة الطبيعة من قسوة الطبع .
المثالية العالية التي يتمتع بها العراقي والتي يسبح بها في افق ومجرات بعيدة كل البعد عن ارضنا وواقعنا جعلته يقول شيئاً ويعمل شيئاً اخر كأن يعض رجل الدين الناس لكنه هو غير متعض . يجب ان ننزل من ذلك التحليق الذي ما نفعنا في شيئ غير الابتعاد عن اساسيات الحياة الاجتماعية العادية . التحليق بتلك القيم والمبادئ الميتافيزيقية دون الالتفات الى عقلية الناس ومستواهم يجعل الناس تحفظ ما يقال لها لكن دون العمل به , الامر الذي يجعل فجوة كبيرة بين القول والفعل .
يقول الدكتور علي الوردي :
العراقي في حياته الواقعية لا يختلف عن غيره من الناس اذ هو منجرف في تيار الحياة يطلب الشهرة ويبغي الشهرة ويرجو الضمان . لافرق في ذلك بينه وبين غيره من الناس . الفرق موجود في تفكيره المثالي فقط فهو يفكر بمبادئ لا يستطيع تطبيقها ويدعو الى اهداف لا يقدر على الوصول اليها. ومن هذا قيل ان حماسة العراقيين كنار الحلفاء لا تكاد تلتهب حتى تخمد , تلتهب مع المثال وتخمد مع الواقع . ولعلنا غير مخطئين اذا قلنا بان هذه النزعة تنتشر في كل مجتمع ديني تسيطر فيه مبادئ الدين وتبث منه تعاليمه .