من الناحية المنهجية فإن وجود قوانين لحماية الملكية الفكرية في كل الاتفاقيات والقوانين الدولية يقتضي منطقياً وجود قوانين موازية لحماية حقوق العمال والبيئة أي البشر والمحيط الحيوي الذي يقوم بإنتاج ذلك المنتج الفكري والذي دونهما يستحيل تحقق وجوده من الناحية المنطقية السببية كحد أدنى. ولكن الواقع يشي بعدم وجود أي ما يقارب تلك القوانين في أي من الأعراف والقوانين الدولية وهو ما يومي بانتقائية قوانين حماية الملكية الفكرية المسخرة فعلياً لخدمة مصالح الأغنياء على حساب المفقرين في أرجاء المعمورة وتثبيت هيمنتهم الشمولية على مفاتيح إمكانيات انعتاق أولئك الأخيرين من تلك الهيمنة لوأد تلك الإمكانيات في مهدها في حال تحققها.
والحقيقة المرة تتمثل في أن قوانين حماية الملكية الفكرية بشكلها المستبطن في كل الاتفاقيات الدولية وخاصة اتفاقية منظمة التجارة العالمية، تؤسس لنموذج بربري من حماية الملكية الفكرية يقوم أساساً على حماية المنتج، وليس الطريقة والنهج الذي أنتج به. وكمثال على ذلك تحمي قوانين حماية الملكية الفكرية دواءً ما لعلاج السرطان وليس التقنية والخطوات الكيميائية التي لا بد من اتباعها لأجل تصنيع ذلك الدواء وهو ما يعني عدم إفساح الفرصة لأي من المجتهدين في الدول النامية مثلاً لاستنباط طريق إنتاجي جديد مغاير لذلك الأول يؤدي في المآل الأخير إلى بنية كيميائية مطابقة لنفس الدواء، وتأثير بيولوجي مشابه، ولكن بنهج تصنيعي مبتكر. وهو ما يعني في الواقع وأداً لكل إمكانيات الابتكار والبحث العلمي وتهشيماً لميل البشر الفطري للسعي في تحسين مستوى حيواتهم بالاجتهاد العقلي والجسدي، وهو ما يعني أيضاً تثبيت سيطرة الأقوياء على الفقراء، والذين يمتلكون القدرة والأدوات لإرغام الفقراء على الالتزام بتلك القوانين الجائرة إذ أن مخالفتها يعني مواجهة عسف دول الأقوياء وعقوباتها الاقتصادية الخانقة التي لا يمكن أن تطيقها أي من مجتمعات المفقرين.
وما يزيد الطين بلة هو سرمدية حماية المنتجات التي ينتجها الأقوياء، والتي تبدو في الواقع غير محدودة بأمد زمني معين، حيث أن القوانين الدولية الراهنة تمنح إمكانية تمديد مدة حماية أي منتج بمدة توازي مدة حمايته عند إنتاجه أول مرة والتي تتراوح حوالي مدة العشر سنوات، وذلك عند تغيير المنتج نفسه بشكل شكلي لا يغير من وظيفة المنتج شيئاً، وفي مثال دواء مرض السرطان السالف الذكر يكون ذلك بإضافة زمرة طرفية عطرية أو سكرية في البنية الكيميائية للدواء وهو ما يمنح الشركة المصنعة له عشر سنوات أخرى من الملكية الحصرية لإنتاج ذلك الدواء وبيعه بالسعر الذي تشاؤه في السوق العالمية، وهو ما سوف يعني بالتأكيد إنهاكاً واستنزافاً لمقدرات الدول النامية المحدودة التي لا بد أنها سوف تضطر للاقتراض لسداد فواتير ذلك الدواء الباهظ الثمن لرعاية مرضاها وعدم تركهم فريسة للموت المحتوم في الوقت الذي يوجد علاج لحالتهم، وهو -أي واقع الاقتراض- الذي لا بد أن يكون أيضاً من اقتصادات ومؤسسات الأقوياء من قبيل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين من أدوارهما إلزام المجتمعات النامية بعدم مخالفة قوانين حماية الملكية الفكرية الجائرة، وهو ما يعني في المآل الأخير إيغال المفقرين في فقرهم وانتشاء الأغنياء بصلفهم وتجبرهم وثرواتهم المتكدسة على حساب المفقرين وحيواتهم.
ومن ناحية تقنية محضة فإن فكرة حماية الملكية الفكرية فكرة خاطئة من الناحية الأخلاقية المنهجية كحد أدنى، إذ أن كل ابتكار يقوم به أي من البشر أو المؤسسات راهناً ما كان ليكون ويكتمل لولا الجهود التراكمية التي قام بها بنو البشر على امتداد عشرات ومئات السنين من الاجتهاد والتفكر. وهو حتى مبتكر النظرية النسبية نفسه ألبرت آينشتاين ما كان له أن ينجز ذلك لولا المعارف التراكمية في الحساب والجبر منذ عهد حضارات السومريين والفراعنة ووادي السند مروراً بالخوارزمي والفارابي وصولاً إلى كل العلماء في عصري النهضة والأنوار وما عقبهما من اكتشافات علمية في عهد الثورة الصناعية. وهو ما يعني من الناحية العلمية بعدم أحقية أحد في احتكار نتاج معرفي هو في الواقع ثمرة لتراكم المعرفة البشرية ولا بد من اعتباره والنظر إليه كذلك بشكل يمنحه صفة الحق الطبيعي لكل بني البشر في الوصول إليه للاستفادة منه، والبناء عليه ابتكار وإبداعاً بنفس النهج الذي لولاه لما تمكن بنو البشر من الوصول إلى مستوى التمدن الذي يعايشونه راهناً.