خضع العاملون في بداية القرن الماضي لقوانين الدولة العثمانية ، وإستمر العمل بموجبها بعد الإحتلال البريطاني للعراق عقب الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، ومن ثم صدرت مجموعة من القوانين والأنظمة التى تعنى ببعض شؤون المواطنين مثل قانون العقوبات البغدادي لسنة 1918 ، وما يتعلق بشؤون الوظيفة والخدمة العامة مثل قانون التقاعد لسنة 1922 ، حتى صدور أول قانون للخدمة المدنية بالرقم (103) لسنة 1931 ، حيث تصرف رواتب الموظفين بموجب أحكامه بالربية العثمانية ، إلى أن تم إعتماد الدينار العراقي لغرض صرف الرواتب الشهرية بدلا من الربية بالقانون رقم (63) لسنة 1932، ليتبعه صدور قانون الخدمة المدنية الثاني رقم (64) لسنة 1939 ، ومن ثم الثالث بالرقم (55) لسنة 1956 ، ليحل قانون الخدمة المدنية الرابع بالرقم (24) لسنة 1960 النافذ لغاية الآن ، وعلى الرغم من إختلاف النصوص القانونية بإختلاف كل حالة من حيث الأسباب والنتائج ، إلا إننا لم نجد خضوع متطلبات التغيير وأسسه الفكرية والفلسفية للدولة أو التوجهات السياسية للحكومات المتعاقبة ، إلى قواعد ومنطلقات التخبط والفوضى والتعقيد والإرتباك والفساد الإداري والمالي ، الذي يظهر جليا ويزداد تشوها كلما أخفقت الدولة في ترشيد هياكل أجهزتها التنظيمية ، وساقها توسعها غير المنضبط بحدود الحاجة الفعلية من الدوائر والموظفين ، إلى تردي وضعها وإنخفاض مستوى نتاج الخدمات المقدمة للمواطنين ، مما يستلزم اللجوء إلى خطة تنموية فاعلة تستدعيها ضرورات التحول والتغيير ، لتشخيص العقبات القانونية والمعوقات الإدارية ، والعمل على تذليلها وإزالة ما يمكن إزالته منها ، بصيغ التعامل المتبادل للخبرة العملية والممارسة الفعلية ، بدراسة كل ما يؤدي إلى قتل حركة الدولة وإنسانية معالجتها ووضع الحلول المناسبة لها . ولأن قواعد القانون الخاص لا تصلح لحكم العلاقة الإدارية ، فقد قضت محكمة التمييز بقرارها المرقم (375/ح/1965) والمؤرخ في 12/7/1965 ، بأن ( علاقة الحكومة بموظفيها ، هي علاقة تنظيمية عامة ، تحكمها القوانين والأنظمة ) ، وعليه فإن العاملين في القطاع العام في مركز تنظيمي ، ويخضعون لقواعد قانونية متصلة بتنظيم الوظائف العامة ، التي تحدد المركز القانوني للموظف العام بما يضمن أداء الواجبات والتمتع بالحقوق بشكل صحيح وسليم ، تلافيا لإشكاليات إمتداد مظاهر الفساد الإداري والمالي والتربوي ، الذي شرع الإحتلال الأمريكي سنة 2003 بدايات تفاصيله ، وأشاع أعوانه ما لم نتوقع التعامل معه وبه في يوم من الأيام .
ففي جميع الموروث الإداري والقانوني للدولة العراقية ، لم نجد شبيها ولا مثيلا سلبيا لمعالجات المشاكل الخاصة بالخدمة والوظيفة العامة ، مثلما هو قائم وبمختلف صور النشاز القانوني والإداري والمالي ، بعدما كان الحكم لقوانين الخدمة المدنية والملاك والإنضباط والتقاعد ، وما يصدر من تشريعات معدلة أو مبدلة لأحكامها من ذات صنوفها ، دون خوض القوانين الأخرى في تفاصيل خصوصيات مضامينها ، وتحديد إستحقاقات الموظفين لها أو التعرض لجانب منها ، التي بات تأثيرها واضحا منذ أن وطأت أفكار وتوجهات الطارئين سياسيا على حكم البلاد بعد أقدام الغزاة المحتلين .
لقد نصت المادة (38/أولا) من قانون الموازنة العامة الإتحادية رقم (44) لسنة 2017(1) ، خلافا للأسباب الموجبة لتشريعه ( من أجل إقرار الموازنة العامة الإتحادية لجمهورية العراق للسنة المالية 2017 ) ، على أن (( للوزير المختص أو رئيس الجهة غير المرتبطة بوزارة أو المحافظ أو من يخوله أيا منهم ، وبناء على طلب الموظف منح من اكمل مدة أربع سنوات فعلية بالوظيفة من الموظفين ، إجازة براتب إسمي لمدة أربع سنوات ، وتكون بدون راتب لما زاد عن أربع سنوات ، وتحسب لأغراض التقاعد ، على أن تدفع التوقيفات التقاعدية كاملة خلال مدة تمتعه بالإجازة ، ولا يجوز قطع الإجازة خلال مدة تمتعه لأي سبب كان ، ويمارس الموظف خلال تمتعه بالإجازة العمل إستثناء من قانون إنضباط موظفي الدولة رقم (14) لسنة 1991- المعدل . و ( للمتقاعد بأجر مع الوزارات أو الجهات غير المرتبطة بوزارة أو المحافظات بناء على طلبه ، إنهاء عقده أصوليا بموافقة رئيس جهة التعاقد أو من يخوله ، لقاء مكافأة نقدية تعادل أجر ثلاثة أشهر عن كل سنة تعاقد ، على أن لا تزيد عن أربعة وعشرين شهرا ، ويستثنى من ذلك الخبير والمستشار والعسكري ورجل الشرطة )) .
* نكبة إدارية بنص قانوني غريب وعجيب ومخالف لجميع المقاييس والأعراف والنواميس التي نصت عليها قوانين الخدمة منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى قيام الساعة ، لأن الإجازة لمدة أربع وخمس سنوات براتب ( إسمي ) لا تساعد إلا على زيادة حجم ونوع البطالة للقوى البشرية وتعطيل فاعليتها الإنتاجية في جميع المجالات والإتجاهات ، وكونها من حيث الإستحقاق الوظيفي مخالفة لأحكام وسياقات عمل المادة (43) من قانون الخدمة المدنية رقم (24) لسنة 1960- المعدل ، التي تمنح الموظف المستمر في الخدمة الفعلية لمدة أربع سنوات إجازة إعتيادية براتب تام لمدة (144) يوما ، لا يستطيع التمتع بأكثر من (120) يوما منها دفعة واحدة ، وليس أربع وخمس سنوات التي يستحق خلالهما منحه العلاوة السنوية المقررة ، ولربما شموله بالترقية والترفيع لإستيفائه شرط مدة الترقية والترفيع اللازمة بحدها الأدنى ، ومنافسا لأقرانه من غير المتمتعين بالإجازة موضوعة البحث ، حسب أحكام قانون الرواتب لموظفي الدولة والقطاع العام رقم (22) لسنة 2008 ، مع إمكانية تمديد مدة التمتع بالإجازة بدون راتب ولمدة مطلقة ، مما يترتب على ذلك إشغال المجاز للدرجة المخصصة لعنوان وظيفته حسب أحكام قانون الملاك رقم (25) لسنة 1960- المعدل ، وبالتالي منع إستخدام الدرجة ( المشغولة شكليا ) لغرض تعيين عاطل عن العمل يحل محل المجاز طيلة مدة تمتعه بالإجازة ، مع منح المجاز فرصة العمل في القطاع الخاص منافسا العاطل عن العمل ، في الوقت الذي يحظر فيه قانون إنضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة 1991 (2) بموجب المادة (5) منه على الموظف (( الجمع بين وظيفتين بصفة أصلية أو الجمع بين الوظيفة وبين أي عمل آخر إلا بموجب أحكام القانون ) و ( مزاولة الأعمال التجارية وتأسيس الشركات والعضوية في مجالس إدارتها ، عدا شراء أسهم الشركات المساهمة ، والأعمال التي تخص أمواله التي آلت إليه إرثا ، أو إدارة أموال زوجه أو أقاربه حتى الدرجة الثالثة التي آلت إليهم إرثا ، وعلى الموظف أن يخبر دائرته بذلك خلال ثلاثين يوما ، وعلى الوزير إذا رأى أن ذلك يؤثر على أداء واجبات الموظف أو يضر بالمصلحة العامة ، أن يخيره بين البقاء في الوظيفة وتصفية تلك الأموال ، أو التخلي عن الإدارة خلال سنة من تأريخ تبليغه بذلك ، وبين طلب الإستقالة أو الإحالة على التقاعد )) ؟!.
إن إجازة الموظف بهذا الشكل المفرط والمتجاوز لحدود الحقوق المدنية المنصوص عليها في المواد (14و15و16و22/أولا وثانيا) من الدستور، سابقة خطيرة لا يمكن تجاهلها ، وإلا كيف يجوز منح الموظف إجازة إلى حين إستحقاقه للراتب التقاعدي عن خدمة فعلية لمدة (4) أربع سنوات وما زاد عنها بدون راتب ، مع وضوح مخالفة ذلك لأحكام قانون التقاعد الموحد رقم (9) لسنة 2014 (3) ، الذي لا يحتسب مدد الغيابات والإجازات بدون راتب خدمة تقاعدية حسب نص المادة (20/ أولا / ب) منه ، وكيف تسمح السلطتين التشريعية والتنفيذية ( بعض الموظفين ) ممن لم يبلغوا الخمسين من العمر، بترك الخدمة الوظيفة إلى حين إستحقاقهم للراتب التقاعدي بدون وجه حق ، وتمييزا لهم عن غيرهم من أقرانهم ؟!. أما المتعاقد فتحكمه شروط العقد الذي هو شريعة المتعاقدين ، ولا أعتقد في إنهاء عقده بالشكل المنصوص علية في القانون ، إلا بدعة قوامها مكافأة نقدية لما يعادل ثمانية سنوات بأجر العقد في أعلى الإحتمالات ، وبدون ضمان يواجه به وعائلته متطلبات العيش الكريم لما بعد ذلك ؟!.
لقد نصت تعليمات تنفيذ قانون الموازنة على تطبيق ذلك ، في ضوء التعليمات التي ستصدرها الدائرة القانونية في الأمانة العامة لمجلس الوزراء ، ومهما تكن التعليمات التي صدرت أو التي ستصدر بشأن منح تلك الإجازة ، فإنها مخالفة لقواعد وأحكام قوانين الخدمة الخمسة المذكورة أعلاه ، وتعليمات الخدمة المدنية والملاك الصادرة عن وزارة المالية ، ولكنها وكما يبدو موجهة لمنفعة فئة معينة ، محسوبة على ملاك الحكومة شكلا من غير مضمون ، بدليل المنح دون وجود العلة والمسوغ الوظيفي لذلك ، إلا تسخيرها لخدمة ومنفعة من إتخذ من دول العالم مستقرا ومتاعا إلى حين ؟!، وعلى من يريد معرفة موضوع الإجازات الإعتيادية بكامل تفاصيلها ، فعليه مراجعة كتابنا الموسوم ( الإجازات الإعتيادية – دراسة تحليلية للنص القانوني والواقع التطبيقي ) ، الطبعة الثانية المنقحـة والمزيـدة ، المودع لدى دار الكتب والوثائق ببغداد بالرقم (980) لسنة 2009 .
وبدلا من إلغاء الإجازة التي أثقلت كاهل الملاك الحكومي بقوى البطالة المقنعة لسنين ، مع عدم إمكانية الإستفادة من الدرجات المشغولة شكليا في تخفيف حدة البطالة بتعيين العاطلين ، يصدر قانون الموازنة العامة الإتحادية رقم (9) لسنة 2018(4) ، معززا ترهل الملاك بإضافة تؤكد ما ذهبنا إليه ، بجعل الإجازة وبذات القواعد لمدة خمسة سنين ، حسب نص المادة (29/أولا) منه ، التي زيد نصها بعبارة ( ولا تحتسب الشهادة الدراسية للموظف أثناء مدة الإجازة لأغراض العلاوة والترفيع والتقاعد( ، ولربما كان قصد المشرع الجهبذ ، عدم إمكانية الإستفادة من الشهادة الأعلى التي يحصل عليها الموظف خلال مدة تمتعه بالإجازة لأغراض الخدمة المذكورة ، وكذلك زيادة نصها بعبارة (والمتقاعدين المتعاقدين وفقا لضوابط تصدرها الأمانة العامة لمجلس الوزراء )) .
ولا أدري كيف ومتى يستقر ملاك الحكومة ، وكيف ومتى تتم معالجة البطالة بإيجاد فرص العمل المناسبة والمنسجمة مع مؤهلات العاطلين ، وكيف تمنح الحكومة آلاف الدرجات للمحافظات تحت ضغط المتظاهرين ، ومواد قانون الموازنة لسنة 2018 تمنع التعيين ، لخلوها من التخصيصات المالية للغرض المذكور ؟!. ولا أدري كيف تبنى الدولة بالتمييز بين المواطنين ، وفي ظل الوعود والأكاذيب ؟!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1– نشر القانون في جريدة الوقائع العراقية بالعدد (4430) في 9/1/2017 .
2- نشر القانون في جريدة الوقائع العراقية بالعدد (3356) في 3/6/1991 .
3- نشر القانون في جريدة الوقائع العراقية بالعدد (4314) في 10/3/2014 .
4– نشر القانون في جريدة الوقائع العراقية بالعدد (4485) في 2/4/2018 .