23 ديسمبر، 2024 1:49 ص

إثبات أحقية التفلسف عراقياً قبل اليونان من خلال توظيف الفلاسفة العرب المسلمين لعلم الجغرافية

إثبات أحقية التفلسف عراقياً قبل اليونان من خلال توظيف الفلاسفة العرب المسلمين لعلم الجغرافية

مما لا شك فيه أن الفلاسفة العرب المسلمين وبدءاً من الفيلسوف أبو يوسف يعقوب بن اسحق الكندي (259هـ/870م)  وإنتهاءًً بابن خلدون (ت 808 هـ/ 1406م)، قد تناولوا في مؤلفاتهم عدة علوم علمية وإنسانية، ووظفوها لصالح الآراء الفلسفية التي يؤمنون بها وينادون من أجلها، ومن هذه العلوم علم الجغرافية. إذ نجد متضمنات هذا العلم موجودة في ثنايا النصوص الفلسفية التي وصلت إلينا من هؤلاء الفلاسفة، وبحسب ما وصل إليه هذا العلم من أحكام في مجال تأثيرات البيئة والمناخ والتربة والموقع والإقليم على بنية الإنسان وأخلاقه وقيمه وإنتاجه للعلوم والمعارف الفلسفية والدينية والفنية وغيرها.
ولهذا وجدت من الضروري والمناسب أن أدرس آراء هؤلاء الفلاسفة في المناخ والإقليم وموقعه وكيف وظفوه لصالح آرائهم الفلسفية في زمانهم، ولأثبت من خلال ذلك، أن الفلسفة والتفلسف إنما بدأ بالعراق القديم، زمن البابليين والسومريين وغيرهم، قبل أن يظهر في اليونان، وأن ما ذكره أفلاطون وأرسطو عن أن الفلسفة هي خاصية للشعب اليوناني دون غيره، مع استخفاف واضح بالشعوب التي تقع شرق اليونان زمانهم، أمر لا يمكن أن يقبله إنسان عاقل درس تاريخ الأجناس والشعوب ومواقع البلدان وأثر المناخ عليها، واستعداداتها للتفلسف من عدمه.
كل هذا لا يمكن أن يتبين إلا بعد عرض تفصيلي لآراء الجغرافيين والبلدانيين العرب المعاصرين لهؤلاء الفلاسفة أو ممن جاء بعدهم، من الذين تحدثوا عن الأقاليم السبعة للأرض بحسب المعطيات العلمية للجغرافية زمانهم، ومزايا كل إقليم وموقعه في الكرة الأرضية، وأثر هذا الموقع على الإنسان الذي يعيش فيه.
ونبدأ بالفيلسوف الكندي مستعرضين لآرائه الفلسفية في المناخ وموقع الإقليم على أخلاق وقيم الناس وعاداتهم وألوان أجسامهم ومواقفهم الفكرية والفنية، باعتبار أن الكندي قد سبق كل الفلاسفة العرب المسلمين جميعاً في الحديث عن أثر المناخ على طباع الناس وأخلاقهم وخصص لذلك رسالة فلسفية من رسائله، ثم نعرج على رأي الفيلسوف الفارابي في كيفية توظيف هذا العلم لإثبات أن الفلسفة والدين إنما يكون حضورهما أكبر في الأقاليم الواقعة بين الرابع  والثالث والخامس، ولإثبات عراقة وعراقية الفلسفة من خلال هذا العلم، ثم نعرض آراء إخوان الصفا كذلك، لنقف بعدها وقفة تأمل طويلة أمام رأي ابن طفيل في قصته حي بن يقظان، وكيف وظف علم الجغرافية لصالح اثبات التفلسف لدى حي وهو مولود في جزيرة على خط الاستواء، ولا ننسى أن نبين رأي ابن رشد في اثبات التفلسف في العالم العربي وليس عند اليونان فقط مستنداً إلى المعطيات الجغرافية، ثم لنختم برأي ابن خلدون في هذه المسألة.
أولاً: رأي علماء الجغرافية العرب في حدود وطبيعة أقاليم الأرض
يقوم المنظور الجغرافي القديم وفي العصر الوسيط الإسلامي على النظر إلى الأرض التي هي العالَم السفلي بنظرهم، على أنها تنقسم إلى سبعة أقاليم، يتوسطها الإقليم الرابع ويكون على حوافيه الإقليمين الثالث والخامس في حين يكون في طرفاه البعيدان الأول والثاني من جهة الشمال والسادس والسابع من جهة الجنوب، بناءً على المنظور الأرسطي في أن الفضيلة هي الوسط بين طرفين أحدهما إفراط والثاني تفريط.
ويعني هذا التقسيم، أن الأقاليم إنما وزعت بحسب قربها أو بعدها من خط الاستواء، وهو الخط الوهمي الذي يفصل بين هذه الأقاليم وأنه خط ابتداؤه من المشرق إلى المغرب،…، وسمي بذلك من أجل أن النهار والليل هناك أبداً سواء لا يزيد ولا ينقص أحدهما عن الآخر شيء البتة في سائر أوقات السنة كلها.
 فضلاً عن أن جغرافية هذه الأقاليم ومواقع البلدان في كل إقليم  وتداخلها مع الأقاليم الأخرى، أنما هي خطوط وهمية وضعها الجغرافيون لتقسيم الأرض على وفق هذه الكيفية. ولمعرفة صفات كل إقليم ومناخه من حيث الحرارة والبرودة أو الاعتدال، وطول النهار من قصره، وطبيعة الأرض فيه من جبال أو سهول أو صحارى أو هضاب، وما هي الزروع والثمار والحيوانات التي تعيش في كل إقليم، وما طبيعة الحرارة والبرودة فيها. وأين تقع المحيطات والبحار في المعمورة. وكيف تتداخل بعضها مع البعض. وإن كانت هذه الأقاليم مختلفة الطول والعرض، من الجهات الأربعة للأرض، (أي الشمال والجنوب والشرق والغرب).
والآن سوف نتحدث عن كل إقليم من حيث جغرافيته وطبيعة مناخه، مبتدئين القول بالإقليم الأول، وهو الإقليم الذي طول نهاره لا يتجاوز النهار الأطول فيه ثلاثة عشر ساعة. لان ما حاذى هذا الإقليم يشتمل عليه البحر ولا عمارة فيه. ويبتدئ هذا الإقليم من الصين ويمر بالهند والسند والجزيرة العربية وبلاد اليمن من جهة البحر وبلاد الحبشة ونيل مصر وأرض النوبة وأرض المغرب على جنوب بلاد البربر إلى المحيط الأطلسي، وفي هذا الإقليم ثلاثون نهراً وخمسون مدينة كبيرة، وعامة أهله سود الألوان، فاللون تابع لمزاج الهواء كما يقول ابن خلدون. بخلاف ما يقوله بعض علماء الأناسة (الأنثربولجيين) من أن اسم السودان إنما أطلق على أهل هذا الإقليم بسبب رجل أدمي أسود، كما ويوجه ابن خلدون نقداً حاداً لأصحاب التوراة من اليهود، عندما نسبوا لون السواد إلى أهل هذا الإقليم، من أنهم ينتسبون  إلى (حام) أحد أولاد النبي نوح عليه السلام، بسبب دعوة أبيه عليه، ناسباً القول في توراتهم إلى الخرافة والأساطير من حكايات القصاص، متناسين هؤلاء القائلين بسواد أهل هذا الإقليم في قولهم أثر المناخ وطبيعة الحر والبرد في الهواء على تعدد ألوان البشر. 
فضلاً عن ذلك، يقول ابن خلدون: أن أهل هذا الإقليم أنهم يسكنون الكهوف والغياض ويأكلون العشب وأنهم متوحشون غير مستأنسين، يأكل بعضهم بعضاً، والسبب يعود بحسب رأي ابن خلدون، لبعدهم عن الاعتدال في المناخ، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل أن أحوالهم في الديانة كذلك، فلا يعرفون نبوة ولا يدينون بشريعة إلا من قرب منهم من جوانب الاعتدال، وهو في الأقل النادر، مثل الحبشة المجاورة لليمن الدائنة بدين النصارى فيما قبل الإسلام وما بعده لهذا العهد، وإن قيل بشأن الجزيرة العربية واليمن والأحقاف وحضر موت من أنها تقع ضمن حدود هذا الإقليم والإقليم الثاني، فالجواب أن جزيرة العرب كلها أحاطت بها البحار من الجهات الثلاث كما ذكرنا، فكان لرطوبتها أثر في رطوبة هوائها فنقص من ذلك اليبس والانحراف الذي تقتضيه طبيعة الحر وصار فيها بعض الاعتدال بسبب رطوبة البحر.
ويلاحظ هنا أن ابن خلدون يدافع عن ظهور الرسالة الإسلامية ونبوة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، في هذا الإقليم الأول وما حاذاه من الإقليم الثاني، عن طريق ربط ذلك بالمناخ تحديداً، دون الأخذ بالاعتبار الإرادة والمشيئة الإلهية التي تختار الأشخاص الذين يحملون الرسالة الإلهية ليبلغوها إلى الناس.
أما الإقليم الثاني، فهو محاذي للأول إذ يقع  في شماله، ويكون النهار الأطول فيه ثلاث عشرة ساعة ونصف، وحدوده من بلاد الصين ماراً ببلاد الهند والسند فالبحر الأخضر (= بحر العرب)، وبحر البصرة (=الخليج العربي)، ويقطع جزيرة العرب في ارض نجد وتهامة واليمامة والبحرين ومكة والمدينة والطائف وارض الحجاز وصعيد مصر الأعلى وأسوان وارض المغرب على وسط أفريقية (تونس) وبلاد البربر إلى البحر في المغرب. وفي هذا الإقليم سبعة عشر جبلاً وسبعة عشر نهراً وأربعمائة وخمسون مدينة.
وتتصف ألوان أهل هذا الإقليم ما بين السمرة والسواد، وسكانه من البدو الرحالة، ففي المغرب منهم حدالة وصنهاجة ولمتونة ورحالة مصر من ألواح  ورحالة السماوة من أهل العراق ورحالة الترك.
وبما أن معظم سكان هذا الإقليم من الرحالة، فإن الشيم والأخلاق التي يعكسها طبيعة المناخ وطول النهار وقربهم من الإقليم الأول، فأنهم متأثرون بلا شك بطبائع أولئك، فضلاً عن طبيعة البداوة من خشونة الطبع الذي تركه شظف العيش، وقسوة المناخ وقلة الموارد الطبيعية، مما أبعدهم عن الترف الذي تطبعه المدنية والحضارة بطابعها، وألبسهم لباس الشجاعة والقسوة وحب ركوب الخيل والغزو المستمر للحصول على الموارد الغذائية من أهل المدن والحواضر.
ولربما يتساءل البعض، أن هذا الإقليمين (الأول والثاني)، تقع فيهما أكبر الحواضر الإسلامية التي ظهر فيها الإسلام وأقام دعوته وانتشر منها إلى العالمين، ألا وهما مكة والمدينة، هل يجوز أن نصف طبائع أهلها وشيمهم كما وصفنا بشكل عام طبائع وشيم وأخلاق بقية مدن وحواضر هذين الإقليمين؟. عند ذلك نكتفي بالإجابة التي قدمها ابن خلدون، من أنه ربط طبائع وألوان البشر بالمناخ، من حيث الحرارة والبرودة كما ربط من قبله الفيلسوف الكندي ذلك، وسيحين الحديث عن الكندي في محله. ولكن ابن خلدون ميز أهل مكة والمدينة بميزة وقوعهما في الجزيرة العربية، التي يحيط بها الماء من كل جانب وما يخلفه من رطوبة في الهواء تؤدي إلى الاعتدال في المناخ ، فضلاً عن أنا نضيف إلى ذلك الإرادة والمشيئة الإلهية التي تختار من تشاء من البشر ليبلغ رسالة الله إلى الناس كافة. وهو ما جاء به النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).
في حين يكون الإقليم الثالث محاذي للإقليم الثاني، فهو يقع شماله، وجنوب الإقليم الرابع، ويكون النهار الأطول فيه أربع عشرة ساعة، وحدوده تبتدئ من شمال الصين مروراً ببلاد الهند والسند، وأفغانستان وكرمان وسجستان وسابور وشيراز والعراق من حدود البصرة والأهواز وواسط وبغداد والكوفة والأنبار وهيت، ثم يمر ببلاد الشام وصور وعكا ودمشق وطبرية وبيت المقدس وعسقلان وغزة ومدين ويقطع أسفل أرض مصر وفيه الفيوم والإسكندرية ودمياط ويمر ببلاد برقة وافريقية فيدخل القيروان وينتهي غرباً إلى البحر المتوسط وغيرها من البلاد. وفيه ثلاثة وثلاثون جبلاً واثنان وعشرون نهراً منها دجلة والفرات في العراق، وألوان بشرة أهله السمراء، وله من البروج العقرب ومن السيارة الزهرة، وفي هذا الإقليم العمائر والمدن متواصلة من أوله إلى آخره.
ويأتي بعد الإقليم الثالث، الإقليم الرابع باتجاه الشمال وهو أوسط الأقاليم السبعة،، ويكون النهار الأطول فيه أربعة عشر ساعة ونصف، وحدوده تبتدئ من خراسان وفرغانة وسمرقند وبخارى ومرو وطوس ونيسابور وجرجان وقومس وطبرستان وقزوين وأصفهان والموصل ونواحيها من الجزيرة وجملة العراق وبغداد والرقة في سوريا ودمشق وحلب وأنطاكية وطرابلس وحماه وصيدا وطرطوس وعمورية واللاذقية ويقطع بحر الشام على جزيرة قبرص ورودس ويمر ببلاد طنجة فينتهي في بحر المغرب. وألوان بشرة أهله ما بين السمرة والبياض. 
والذي يهمنا هنا في طبيعة هذا الإقليم هو: اعتدال مناخه وطول نهاره وطول فصلي الربيع والخريف فيه. لكونه يقع وسطاً بين الأقاليم، ولهذا فقد اعتبره الجغرافيين العرب من أعدل الأقاليم من حيث هوائه مما انعكس على طباع أهله وأخلاقهم وشيمهم، فضلاً عن أن في هذا الإقليم تكثر الأنهار والزروع والعمائر فضلاً عن السكان. ولهذا نجد أن في الإقليم ظهرت الرسالات السماوية والأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين، ومنه ظهرت أيضاً الفلسفة والحكمة وكثر فيه الفلاسفة والعلماء على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم.
كما أن المسعودي في كتابه التنبيه والاشراف، قد أفرد فصلاً مطولاً عن هذا الإقليم وما تميز به على سائر الأقاليم، إذ أن هذا الإقليم يضاف إلى بابل العراق، وبها يعرف، وهذا الإقليم عند المسعودي وسط الأقاليم وأعدلها وأفضلها، وبلد العراق وسطه، فهو شرف الأرض وصفوتها، أعدلها غذاءاً وأصفاها هواءاً، متوسط بين إفراط الحر والبرد، وموضعه الذي ينقسم فيه الزمان أربعة أقسام، فلا يخرج ساكنوه من شتاء إلى صيف حتى يمر بهم الربيع، ولا من صيف إلى شتاء حتى يمر بهم فصل الخريف. ويبدو أن اهتمام المسعودي الفائق بهذا الإقليم مرده إلى أنه قد ولد فيه وعاش (أي العراق)، مما استلزم منه مدحه وتقريظه بهذا الشكل اللطيف الذي لا يحويه كتاب ولا يحتاج إلى اطناب. هذا من جهة، ومن أخرى يعتقد المسعودي أن أهل العراق هم أهل العقول الفطنة والشهوات المحمودة والشمائل الموزونة والبراعة في كل صناعة، …، وأما موقع مدينة السلام (بغداد) من هذا الإقليم، فهو أفضل مواضع الأرض جميعاً في طيب هوائه وغذائه. وغير ذلك من المزايا التي يمتاز بها هذا الإقليم وأهله.
ويلي هذا الإقليم في الاعتدال الإقليم الخامس، ويكون متوسط نهاره خمس عشر ساعة، ويبتدئ من المشرق من بلاد يأجوج ومأجوج ويمر بشمال خراسان وفيه خوارزم وأذربيجان وسجستان ويمر على بلاد الروم إلى رومية وبلاد الأندلس، واليونان وقسطنطينية وبرشلونة وانكلترا وفرنسا،حتى ينتهي إلى البحر في المغرب ، وأكثر أهله بيض الألوان. 
وبما أن هذا الإقليم والإقليم الذي سبقه والإقليم الذي يليه وهو الخامس، نجد من الضروري أن نشير إلى مسألة في غاية الأهمية، ألا وهي: أن اعتدال المناخ وطول ساعات النهار وطول فصلي الربيع والخريف اللذان هما من اعدل فصول السنة مناخاً وهواءً، قد ترك أثره البارز في سلوك وطباع الناس الساكنة في هذه الأقاليم، فضلاً عن توفر المياه الصالحة للشرب بكثرة وكذلك السكان، مما ولد نوعاً من الاستقرار في الريف والمدينة، مما انعكس في متطلباته (=الاستقرار) لتوفير الأساليب المدنية والحضارية من ثقافة وفنون وفلسفة وعلوم ومعارف هندسية وفيزياوية ورياضية، وغير ذلك. فضلاً عن أن المشيئة الإلهية وجدت في ساكني هذه الأقاليم من البشر ما يستلزم من إرسال الرسل والأنبياء والحكماء إليهم من بينهم، ليرشدوهم إلى الطريق القويم. ولهذا وجدنا في هذه الأقاليم ما يكثر من وجود الأنبياء والرسل والفلاسفة والحكماء والواعظين بشكل لافت للنظر، عما هو في الأقاليم الأول والثاني والسادس والسابع.
ثم يلي هذا الإقليم من جهة الشمال الإقليم السادس، ومعه بدأنا نبتعد عن الاعتدال في المناخ، ونقترب من الطرف المقابل للإقليمين الأول والثاني، في الإفراط بالبرودة التي يتمتع بها هذا الإقليم والإقليم الذي يليه، بخلاف الحرارة العالية التي يتمتع بها الإقليمين الأول والثاني. ويكون النهار الأطول فيه خمس عشرة ساعة ونصف الساعة، ويبتدئ هذا الإقليم من المشرق ماراً ببلاد الترك من أبحر خير والتغرغر إلى بلاد الخزر من شمال نجومهم وأرض برحان والقسطنطينية وشمال الأندلس إلى البحر المحيط الغربي (= المحيط الأطلسي)، و بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والبلغار، وبلدان أخرى تقع في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية. ، وأكثر ألوان بشرة سكانه ما بين الشقرة والبياض.
في حين يقع الإقليم السابع وهو الأخير من أقاليم الأرض، والذي يكون النهار الأطول فيه ست عشرة ساعة، في الطرف البعيد من الإقليم الأول، وبهذا يكون فرق التوقيت ما بين الإقليم والأول والسابع حوالي ثلاثة ساعات ونصف، ويبتدئ هذا الإقليم من المشرق على بلاد يأجوج ومأجوج، ويمر ببلاد الترك على سواحل بحر جرجان مما يلي الشمال، ويقطع بحر الروم (=المتوسط) على بلاد جرجان والصقالبة إلى أن ينتهي إلى البحر المحيط (=الأطلسي) في المغرب،  وانكلترا وايسلاندة الدائمة الثلوج والمتصلة ببلاد روسيا وبلغاريا. وبهذا الإقليم عشرة جبال طوال وأربعون نهراً طوالاً واثنتان وعشرون مدينة كبيرة، وألوان بشرة أهله الشقراء، وله من البروج الميزان ومن الكواكب السيارة الشمس.
ويلاحظ هنا أن الجغرافيين العرب لم يتناولوا في وصفهم للأقاليم السبعة القارتين الأمريكتين الشمالية والجنوبية، معتقدين أن هذه القارات إنما تقع في أقصى شمال الأرض ، وأن البحر المحيط (الأطلسي) لا توجد ورائه أية عمارة أو سكان أو أرض يابسة. إذ بنى هؤلاء الجغرافيون معلوماتهم على الرحالة العرب الذين لم يكتشفوا بعد هذه القارات إلى زمان ابن ماجد الذي سبق ماجلان في رحلته إلى الأمريكتين. ومع ذلك كانت هذه المعلومات التي قدموها لنا تنم عن دقة ودراية تامتين بهذه الأقاليم السبعة ومدنها وقصباتها وألوان أهلها ولغاتهم ومأكلهم وملبوساتهم  وأعمالهم وصنائعهم وعاداتهم وعباداتهم التي لا يشبه بعضها بعضاً، وكذلك الحيوانات والمعادن والنبات مختلفة في الشكل والطعم واللون والرائحة بحسب اختلاف أهوية البلدان وتربة البقاع وعذوبة المياه وملوحتها على ما اقتضته طبائع كل بلد من البروج على أفقه وممر الكواكب على مسامتة البقاع من الأرض ومطارح شعاعاتها على المواضع.
ثانياً: توظيف الفلاسفة العرب المسلمين لعلم الجغرافية: يبدو أن السبب الرئيس برأينا وراء توظيف هذا العلم لصالح الفلسفة والحكمة العربية الإسلامية، ولاسيما عند فلاسفتنا، إنما يعود لوجود إشارات سابقة وإن كانت غير إيجابية تجاه الشعوب والأمم الأخرى من غير اليونانيين ممن صرح بها الفلاسفة أفلاطون وأرسطو، إذ أشار الأول في محاورته القوانين، وفي آخر الكتاب الخامس منها، إلى أثر المناخ على سلوك وعادات وفكر وقيم الناس في الأمم، بقوله: ذلك أن البعض فيما أتصور ينسبون ما فيه من خُلق طيب أو سيء أو رديء إلى تغيرات الرياح، ودورة الشمس، والبعض ينسبها إلى المياه، بينما البعض إلى محصولات الأرض، التي لا تمد الجسم بالحيوية الأفضل أو الأسوأ، ولكنها تؤثر بالمثل في العقل تأثيراً حسناً أو سيئاً، وأكثر الأشياء ملاحظةً ووضوحاً هو ثانياً الجهات التي هي وطن بعض الآثار غير الطبيعية، أو هي مأوى الأرواح التي تستقبل أفواج المستوطنين المتتالية بالكرم والجود واللطف، أو بنقيض هذه المعاني.
هذا من جهة، ومن جهة نجد نصاً آخر لأفلاطون يقسم فيه الأجناس البشرية إلى ثلاثة أقسام، بحسب قوى النفس الثلاث، وهو ما ذكره في كتاب السياسة (الجمهورية)، فيقول: أن الناس ليسوا متساوين في إحرازهم لهذه القوى، فعند البعض تسيطر القوة العاقلة، وعند البعض تسيطر القوة الغضبية، وعند فريق ثالث تسيطر القوة الشهوية، فليس الاختلاف يقع بين بعضهم البعض، بل أيضاً بين الأجناس والأمم. وفي رأي أفلاطون أن اليونانيين يمتازون بسيطرة القوة العاقلة على بقية القوى (الإقليم الرابع)، وأن الشماليين (الإقليمين السادس والسابع) يمتازون بسيادة القوة الغضبية (الشجاعة والجلد والتحمل)، وان الفينيقيين والمصريين وأجناس أخرى (الإقليمين الأول والثاني) يمتازون بسيادة القوة الشهوية. وحب الثراء الفاحش، في حين يغفل أفلاطون ذكر العراق وبابل وآشور فيه. 
إن رأي أفلاطون هذا، يذهب إلى أن الجسم يفعل بمزاجه السيء أثره السلبي على النفس، مثلما يفعل المناخ الحار أو البارد أثره على النفس، بخلاف المناخ المعتدل. ولان الشعب اليوناني يقع ضمن المناخ المعتدل كان اقرب إلى السيطرة على النفس وإنتاج التفلسف والحكمة. أنها انحيازية واضحة من أفلاطون لنفسه وشعبه، على بقية أجناس وشعوب الأرض.
إن نص أفلاطون الذي أوردناه في كتاب القوانين، قد عرفه الفلاسفة العرب المسلمين، كما عرفوا كتاب السياسة (الجمهورية) حين نقلت هذه الكتب إلى العربية، أيام بيت الحكمة العباسي، فضلاً عن أن الفيلسوف الفارابي قد لخص كتاب النواميس لأفلاطون، ولهذا اهتم بهذين الكتابين كثيراً.
فضلاُ عن رأي أفلاطون هذا، نجد أن الفيلسوف أرسطو هو الآخر قد أشار في كتابه السياسيات عن موقع اليونان بين الأمم، وقيد التفلسف فيها دون غيرها، ووصف الأمم الأخرى المجاورة أو البعيدة من اليونان استناداً للمعطيات الجغرافية الخاصة بالأقاليم والمناخ، إذ يقول ما نصه: والآن نتكلم عن صفاتهم الطبيعية، وقد يطلع المرء على هذه الصفات إذا تأمل دول اليونان الشهيرة، ونظر إلى المعمورة قاطبة، والشعوب التي تقاسمت أنحاءه، فالأمم المقيمة في الأقاليم الباردة والشعوب القاطنة في أوربا (=السادس والسابع)، كلها إقدام وشجاعة، ولكنهم منحطون في الذكاء متأخرون في الصناعة (=الفلسفة)، ولذا لا تفتأ شعوباً أكثر ولعاً بالحرية أكثر من سواها، ولكنها خالية من النظام السياسي عاجزة عن السيطرة على متاخيمها(=فتح البلدان المجاورة)، أما الشعوب الأسيوية (=الشرقية) فهي شعوب ثاقبة الذهن تحذق الفنون والصنائع، ولكنها عارية من الثبات ورباطة الجأش (=قوة القلب). ولذا لا تبرح خانعة مسترقة (=تحت نير استعباد مؤبد). وأما الشعب الإغريقي فلمَّا شغل موقعاً وسطاً من الأقاليم (=الرابع)، اشترك أيضاً في صفات سكانها، إذ أنه شعب مقدام متوقد الفؤاد، ولذا لا يظل شعباً مولعاً بالحرية ذا سياسة جد فاضلة، وقادراً أن يفرض سيادته على الجميع (=السيطرة على العالم)، إلا إذا وفق إلى نظام سياسي واحد.
ولكن نص أرسطو هذا يثير من جانبه عدة إشكالات، منها: أن كتابه في السياسة لم ينقل أو يترجم إلى العربية، أيام بيت الحكمة العباسي، بحسب معطيات قد أشار إليها ابن رشد من قبل وعبد الرحمن بدوي من بعد وسكت عنها الفارابي ،  ومنها يبدو أن الفلاسفة العرب وبدءاً من الكندي قد عرفوا بهذا النص وقيمته، سواء من خلال كتب أرسطو الأخرى، أو من خلال كتبٍ لشراحه، وعلموا كيف تجاهل أرسطو دور الأمم والشعوب في إنتاج النص الفلسفي سابقاً على اليونان، كما أنهم أحسوا أن أرسطو يريد أن يحصر إبداعية التفلسف في اليونان فقط، متناسياً أن الإنسان بطبعه حيوان مفكر، كما يقول هو. فمارس أرسطو دور المتجاهل لحضارة وفلسفة وفن الغير، ولاسيما أهل الشرق، من البابليين والمصريين والهنود والصينيين وغيرهم، كما أن الإقليم الذي يتحدث عنه أرسطو وهو الإقليم الرابع، لا يشمل اليونان فقط، بل ويشمل أقطار أخرى وهي العراق (في قلبه) وسوريا ومصر وبلاد فارس وغيرها، وكلها أقطار شرقية، فضلاً عن أن جغرافية اليونان بحسب المنظور المعاصر اليوم لها، إنما تقع في حدود متاخمة لهذه البلدان، وأن معظم الفلاسفة اليونانيين القدامى قد زاروا هذه الأقطار وتعلموا فيها ونقلوا علومها ومعارفها، ومنهم فيثاغورس الذي زار العراق وتعلم فيه الكثير من العلوم والفنون، وأفلاطون الذي زار مصر واتصل بكهنتها وتعلم فيها فنون الفلك والحكمة، وأرسطو نفسه الذي رافق الإسكندر المقدوني في غزواته للشرق بدءاً من مصر وإنتهاءً ببلاد فارس والهند.
ولكن ربط التفلسف بالحرية من قبل أرسطو فيه نظر صائب ولكن، أحياناً يولد الاستبداد والرق أيضاً نوعاً من التحدي الفلسفي والفكري ما يفوق ما تولده الحرية نفسها. بل أن في الاستبداد والعبودية تظهر صنائع وفنون ومهارات أكبر بكثير مما تولده مساحة الحرية نفسها للإبداع. إذ أن السلطة الاستبدادية القاهرة قد تدفع بالناس المقهورين المستعبدين إلى إنتاج نص يعبر عن عقلية المقهور فلسفياً ونفسيا واجتماعياً، بشكل يوضح لغير المقهور والمستعبد، ما هي الآثار المدمرة للاستبداد على سلوك وأخلاق الناس المقهورة. فيتجنب من مارس الحرية على أصولها الوقوع في القهر والاستبداد.
هذه الأسباب وغيرها انطلق الفلاسفة العرب المسلمين لبحث ودراسة مسألة تأثير المناخ وموقع الإقليم على ظهور النتاج الفلسفي وغيره من النتاجات الإبداعية، في الفن والدين والصناعات والعلوم، سواء في أقطارهم التي ولدوا وعاشوا فيها، وكتبوا النصوص الفلسفية الإبداعية المميزة إلى يومنا هذا، وهي بلدان بعيدة نوعاً ما عن أرض اليونان من حيث الموقع الجغرافي سواء في المشرق أم المغرب، ولكنها لربما تلتقي مع اليونان في موقع الإقليم جغرافياً. وكأنهم يردون بكل علمية وموضوعية على ما قاله أفلاطون وأرسطو من قبل، بصدد طبيعة إنتاج النص الفلسفي وحصره باليونان دون غيرهم من الأمم الأخرى.
عليه، سنبدأ أولاً بمعالجة هذا الموضوع كما تناوله  الفيلسوف العراقي العربي المسلم أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي (ت259هـ/ 870م تقريباً)، ومن خلال رسائله التي وصلت إلينا، ولاسيما رسالته في علة الكون والفساد، ورسالته في العلة التي يبرد لها أعلى الجو ويسخن ما قرب من الأرض، إذ نجد في هذه الرسائل أول تناول فلسفي عربي إسلامي بالمعنى التاريخي لهذه المسألة التي نحن بصدد مناقشتها وبحثها، إذ يعطي الكندي في هذه الرسالة تعليلاً وتفسيراً لصفات وأخلاق الكائنات الحية، ولاسيما الأجناس البشرية، بحسب الإقليم الذي تعيش فيه، ولا يقتصر تفسيره هذا على تعليل الخصائص البدنية المادية من لون البشرة وشكل جسم وصفات الأعضاء والشَعَر وبقية الملامح، بل ويشمل الصفات النفسية والعقلية، وأيضاً الخُلقية والعملية. لذا نجد الكندي يقسم المجموعات البشرية إلى ثلاثة أجناس كبرى، ويميز كل نوع بميزات خاصة. راجعاً هذه الصفات إلى فعل المناخ وطبيعة الحرارة والبرودة، في حين جعل أفلاطون هذه المزايا لصالح اثبات التفلسف والحكمة لصالح اليونانيين جاعلاً منهم الشعب المختار. وهذا اختلاف بَيِّن بين هذين الفيلسوفين.
إن هذا التناول من قبل الكندي لأثر المناخ والبيئة على عادات وسلوك الإنسان في الإقليم الذي يقع فيه، إنما هو قراءة فلسفية واعية للمعطيات الجغرافية والأنثربولوجية التي قدمها الجغرافيون إلى زمانه، واستنباط لمفاهيم ونظريات فلسفية في علاقة المناخ بالإنتاج الفلسفي والعلمي للأقوام والأجناس التي تسكن في هذه الأقاليم. وربط لأثر المناخ على أجسام ونفوس وعقول البشر الساكنين في هذه الأقاليم، وليس العكس.
يقول الكندي : إن مزاجات الأجسام تؤثر في أفاعيل النفس، وأن هذه المزاجات تختلف باختلاف الأشخاص العالية (=الكواكب السيارة والأبراج)، بالمكان والزمان والحركة والكيفية، فمثلاً أهل البلاد التي عند خط الاستواء (الإقليم الأول) على حد تعبير الكندي لشدة الحر بتردد الشمس هناك مرتين في السنة والمسامتة، تفعل أهلها سوداً كالشيء المحترق بالنار، وتجعل شعورهم جعدة متقططة كالشَعر إذا قرب من النار، وتدقق أسافلهم (أي أطرافهم) وتفرطح أنوفهم، وتعظم وتجحظ عيونهم وتعظم شفاههم وتطول قامتهم لإنجذاب الرطوبات من أسافلهم إلى أعاليهم، ويشتد غيظهم وكَلَبهم لإفراط الحرارة واليبس عليهم، وتتغير رؤيتهم لغلبة الغضب والشهوة عليهم. وتقل العمارة (العمران) لديهم، ويقل الحرث والنسل.
وبخلاف ذلك، نرى من يسكن المناطق التي تقع في الإقليمين السادس والسابع، لشدة البرودة هناك، نراهم يتصفون بصفات جسمية منها صغر عيونهم وشفاههم وأنوفهم، وبياض أو شقرة بشرتهم، وتبسط شعورهم، وتغلظ أسافلهم لغلبة البرد والرطوبة عليهم، فتنحصر الحرارة في قلوبهم، فيكونون ذوي وقار وشدة قلوب وصبر وبرد على الشبق. أما أهل البلاد المتوسطة معتدلو الأمزجة والأخلاق، (الأقاليم الرابع والثالث والخامس)، أقوياء الفكر، وأهل بحث ونظر.
وهنا يبين الكندي أن البدن بمزاجه الذي يتأثر بالمناخ يحدث له خُلقاً على قدر مزاجه، ولا يكتفي بذلك، بل ويبين أن الكواكب السيارة والبروج والشمس والقمر لها هي الأخرى تأثيرها الواضح على مواقف الإنسان الخُلقية والمعرفية الفلسفية والعلمية والسياسية، فيتغير بتغير المناخات وتعاقب الليل والنهار والفصول الأربعة، الأشكال للبشر وكذلك السنن وبذلك تتغير الدول وما أشبه الدول.
ويضيف علي زيعور ملاحظة ذات أهمية تذكر، ألا وهي: أن الكندي يقترب في رأيه هذا من أنصار ما يسمى بالمدرسة الجغرافية في علم الاجتماع، لكننا لا نجده فيما هو متوفر لنا من نتاجه، يطبق المبدأ نفسه على مجتمعه وعصره، كأنه يريد أن يفسر التاريخ على ضوء هذه النظرية كلها (نظرية المناخ وأثرها على الإقليم).
أن فلسفة الكندي هذه في تفسير العوامل المناخية وعلاقتها بالأخلاق والقيم الإنسانية والعلوم والفلسفة والمعارف الأخرى، لجديرة بالبحث والدرس والتعمق فيها، على الرغم من أنه لم تصلنا منه سوى شذرات قليلة في هذا الميدان، ولكنها على ما يبدو قد حفزت الفلاسفة من بعده على التوسع فيها وتوظيفها بشكلها الصحيح.
هذا من جهة، ومن أخرى نجد أن الكندي قد أضاف مبدءاً أخلاقياً إنسانياً منفتحاً في التعامل مع العلوم والمعارف الإنسانية التي تأتي من الأمم الأخرى، آخذاً بنظر الاعتبار الانفتاح الحضاري واحترام الشعوب والأمم الأخرى في أي إقليم تعيش وتتكاثر وتنتج الفكر والفلسفة والفن وغيرها، ويعود ذلك للتأثير المباشر للدين الإسلامي الذي يحترم الأمم والشعوب والأديان الأخرى، ولا يفرق بين أحدٍ من البشر في اللون أو الجنس، أو غير ذلك، بل أن التفرقة في الإسلام تكون بسبب التقوى والصلاح، بقوله تعالى في سورة الحجرات، آية 13: ((يأيها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوباً وقبائِل لتعارفُوا إن أكرمَكُم عند الله أتقكُم إن الله لطيف خبير)، بخلاف ما طرحه أفلاطون وأرسطو من قبل، عندما جعلوا التفلسف خاصية لليونان دون غيرهم. إذ يقول الكندي: وينبغي لنا أن لا نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين آتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة لنا، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق، وليس ينبغي بخس الحق، ولا تصغيره بقائله، ولا بالآتي به، ولا أحد بخس الحق، بل كل يشرفه الحق. وبهذا يكون الكندي قد كسر القاعدة الجغرافية التي بنى عليها الفلاسفة اليونان (أفلاطون وأرسطو) إنتاج النص الفلسفي حصراً ببلدهم. فتفلسف في مكان آخر وأنتج نصاً فلسفياً مميزاً يشهد له مؤرخوا الفلسفة العربية الإسلامية، أنها بدأت معه. على وفق معطيات حضارية وثقافية وبيئية جديدة، لم تكن مشابهة للبيئة والثقافة اليونانية.
أما الفيلسوف أبو نصر الفارابي (ت339هـ/950م)، فهو الأخر قد أشار في مؤلفاته عن أثر المناخ وموقع الإقليم في إنتاج الفلسفة مستغلاً ما قدمه علماء الجغرافية من معلومات علمية في زمانه عن الأقاليم السبعة وأوضاع المناخ فيها واثر ذلك على الإنسان من حيث لون بشرته وأخلاقه وطعامه وشرابه،. بل يرى الفارابي أن الأمم تتميز بعضها عن بعض بشيئين طبيعيين هما الخِلَق الطبيعية (ألوان البشرة) والشيم الطبيعية (الأخلاق) وهذا ما يطلق عليها البيئة الطبيعية، وبشيء ثالث وضعي له مدخل ما في الأشياء الطبيعية وهو اللسان وهو ما يطلق عليه البيئة الاجتماعية، ويعني به اللغة التي تكون بها العبارة.
ولهذا نجد أن الفارابي قد تحدث عن هذه البيئات الطبيعية في كتابه السياسة المدنية، وتناول موضوعة اللغة وأسباب حدوثها في الأمم (البيئة الاجتماعية) ودورها في كتابيه الحروف، في حين تحدث عن أصل الفلسفة من حيث موطنها الذي ظهرت فيه وانتشارها في العالم الواقع في الأقاليم الرابع والثالث في كتابه تحصيل السعادة. كما وتحدث عن الأمم وأقسامها الثلاثة العظمى والوسطى والصغرى في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة، فضلاً عن كتابه السياسة المدنية.
ففي كتاب السياسة المدنية، يقسم الفارابي الإنسانية الكاملة إلى أمم، والأمة  عنده تتميز عن الأخرى بشيئيين طبيعيين، هما: الخِلَق الطبيعية والشيم الطبيعية، وبشيء ثالث وضعي وله مدخل ما في الأشياء الطبيعية وهو اللسان، أعني اللغة التي تكون بها العبارة. ويعني مصطلح الأمة عند الفارابي جماعة معينة من الناس، بخلاف معنى الملة الذي هو مجموعة آراء وأفعال مرسومة لحياة اجتماعية معينة، مما يعني أن مفهوم الملة يعني الشريعة بالمعنى الواسع.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، يقسم الفارابي الأمم إلى كبار وصغار، وسبب وجود هذه الأمم المختلفة الحجوم بالسكان إنما يعود بنظره لطبيعة المناخ والإقليم الذي تقع فيه هذه الأمم، فيقول: والسبب الطبيعي في اختلاف الأمم في هذه الأمور أشياء، احدها اختلاف أجزاء الأجسام السماوية (الأفلاك) التي تسامتهم من الكرة الأولى، ثم من كرة الكواكب الثابتة، ثم اختلاف أوضاع الأكر المائلة من أجزاء الأرض، وما يعرض لها من القرب والبعد. ويتبع ذلك اختلاف أجزاء الأرض التي هي مساكن الأمم، فإن هذا الإختلاف إنما يتبع من أول الأمر ما يسامتها من أجزاء الكرة الأولى، ثم اختلاف ما يسامتها من الكواكب الثابتة (المريخ وزحل وعطارد …)، ثم اختلاف الأكر المائلة منها.
إن هذه الربط بين الإقليم (الجماعة التي تسكن فيه) والكواكب الثابتة والسيارة، وأثر هذه الكواكب على ألوان وأخلاق البشر ولغاتهم عند الفارابي، إنما يعود إلى ما قدمه الجغرافيون والفلكيون زمانه  وما سبقه من معلومات عن هذه الكواكب الثابتة والسيارة وأثرها على سكان الأرض وأقاليمهم، لكن الطاغي عليها عند الفارابي هو الربط بين هذه الأسباب الطبيعية جملة، ويفسر ذلك قوله: ويتبع أجزاء الأرض اختلاف البخارات التي تتصاعد من الأرض، وكلّ بخار حادث من أرض فإنه يكون مشاكلاً لتلك الأرض.
إن هذا النص يحمل في طياته معنى أن الحرارة والبرودة التي تسببها أبخرة الأرض، إنما تؤثر في ألوان البشر وطبائعهم وشيمهم وأخلاقهم أيضاً. ثم يضيف الفارابي عنصراً آخر لذلك وهو من العناصر الطبيعية، فيقول: ويتبع اختلاف الهواء واختلاف المياه من قِبَل أن المياه في كل بلد إنما تتكون من البخارات التي تحت أرض ذلك البلد (مالحة أم حُلوة)، وهواء كل بلد مختلط بالبخار الذي يتصاعد إليه من الأرض، وكذلك يتبع أيضاً اختلاف ما يسامتها من كرة الكواكب الثابتة واختلاف الكرة الأولى واختلاف الأكر المائلة، اختلاف الهواء واختلاف المياه.
إن هذا الاختلاف في طبيعة الهواء والماء وأثر الكواكب على الإقليم الذي يعيش فيه الناس مجتمعين أو متفرقين، أنما ينعكس على طبيعة مزروعاتهم واختلاف أنواع الحيوان غير الناطق (=العجماوات)، فتختلف أغذية الأمم، ويتبع اختلاف أغذيتهم اختلاف المواد والزرع التي منها يتكون الناس الذين يخلفون الماضين.
إن هذا الربط الجدلي المحكم بين المناخ (الحرارة والبرودة)، والغذاء الذي يتغذى عليه الإنسان، سواء أكان نباتياً أم حيوانياً، وأثر ذلك على ألوانهم وأخلاقهم. إنما يعود بالفائدة الإيجابية أو ينعكس سلباً عند الفارابي في اختلاف الخِلق واختلاف الشيم الطبيعية،….، فضلاً عن أن اختلاف الهواء أيضاً يكون سبباً لاختلاف هذه بغير الجهة التي ذكرت.
إن هذه الأسباب الطبيعية مجتمعة، فضلاً عن الكواكب السماوية، هي التي تعطي الكمالات للإنسان في الإقليم الذي يعيش فيه، ولكن الفارابي يضيف إلى هذه الكمالات كمال آخر يساعد في أتمامها ألا وهو العقل الفعال، وهو خاص بالإنسان دون غيره من الموجودات الأرضية.
و العقل الفعال عند الفارابي تكون فائدته للإنسان فيما يعطيه على مثال ما عليه الأجسام السماوية، فإنه يعطي الإنسان أولاً قوة ومبدأ به يسعى أو به يقدر على أن يسعى من تلقاء نفسه إلى سائر ما يبقى عليه من الكمالات. وهذه الكمالات هي العلوم الأول والمعقولات الأول (=الفلسفة) التي تحصل في الجزء الناطق من النفس.
ومع ذلك عندما يتحدث الفارابي عن كل ما تقدم، لا يشير إلى خارطة الأقاليم السبعة التي تحدث عنها الجغرافيون من قبل، ولا أسماء البلدان والمدن التي تقع في تلك الأقاليم، ولكن ثمة نص للفارابي يتحدث عن المدن الفاضلة ومضاداتها من المدن الفاسقة والضالة يمكن أن نستنتج منه مطلوبنا هذا، إذ يقسم البشر إلى فضلاء مدنيين، وبهيمين بالطبع، فالبهائم بالطبع ليسو مدنيين، ولا تكون لهم اجتماعات مدنية أصلاً، بل بعضهم يكون مثل البهائم الإنسية وبعضهم مثل البهائم الوحشية.
ويحدد الفارابي مسكن هؤلاء المتوحشين (البهائم) غير المدنين، فيشير إلى أن مساكنهم تكون إما في أقاصي الشمال (الإقليمين السادس والسابع)، وإما في أقاصي الجنوب (قسم من سكان الإقليمين الأول والثاني). دون أن يذكر الأقاليم في نصه.
فضلاً عن أن هؤلاء الذين وصفهم بالبهائم يعيشون في البراري وبشكل غير مجتمع أو مجتمع، ويتسافدون تسافد الوحش (لاحظ استعمال عبارة التسافد بدلاً من النكاح، وغياب العفة من المنظور الأخلاقي)، ومنهم من لا يأكل إلا اللحوم النية، ومنهم من يرعى النبات البري، ومنهم من يفترس مثل ما تفترس السباع،…، وهؤلاء (بنظر الفارابي)، ينبغي أن يعاملوا معاملة البهائم .
وهنا يتضح من هذا الموقف الفلسفي الاجتماعي البيئي للفارابي، أنه قد تعامل مع معطيات علم الجغرافية، تعاملاً فلسفياً محكماً، فنظر إلى الاجتماعات الإنسانية، من منظور عقلي أخلاقي بيئي، فقسمها إلى اجتماعات مدنية تكون الفلسفة والثقافة والآداب والفنون والدين وغير ذلك حاضرة فيها، وهو ما يمكن تحديده في الأقاليم الوسط، (الرابع والثالث والخامس)، في حين اعتبر سكان الأقاليم  القصية الأخرى الذين يسكنون في أطراف المعمورة  أقرب إلى البهائم الإنسية أو الوحشية، ويجب أن يتعامل معهم بطريقتين كما يرى الفارابي، الأولى من كان منهم إنسياً  وانتفع به في شيء من المدن تُرك واستعبد واستعمل كما تستعمل البهيمة، ومن كان منهم لا يُنتفع به أو كان ضاراً عُمل به ما يُعمل بسائر الحيوانات الضارة (= قتل)، ويشمل هذا الحكم الفلسفي والقانوني بنظر الفارابي أولاد هؤلاء البهائم بصنفيهم الإنسي والوحشي أيضاً.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد كما يرى الفارابي، بل ويعتقد أن البيئة الاجتماعية هي الأخرى لها دورها في تكوين البشر وخلق عاداتهم وأخلاقهم والمواظبة والاعتياد عليها بسبب ما ورثوه من آبائهم وأجدادهم، سواء أكانت تلك العادات رديئة فاسدة، أم حسنة كاملة فاضلة.
ويناقش الفارابي هذه المزية للبيئة الاجتماعية في كتابه الحروف، عندما يعالج معنى الجوهر فلسفياً، فيقول: في مثل قولنا (زيد جيد الجوهر)، ونعني به جيد الجنس، وجيد الآباء، وجيد الأمهات، فالجوهر يعنون به الأمة والشعب والقبيلة التي منهم آباؤه وأمهاته، وأكثر ذلك في الآباء، والجودة يعنون بها الفضائل، فإنهم إذا كانوا ذوي فضائل قيل فيهم إنهم ذووا جودة، فإن آباؤه وجنسه متى كانوا فاضلين قيل فيه أنه جيد الجوهر، ومتى كانوا ذوي نقص قيل فيه رديء الجوهر، والجوهر ههنا إنما يعنون به الجنس والآباء والأمهات، فهم إما مادته وإما فاعلوه، فإن الإنسان إنما يظن به دائماً أنه شبيه مادته وآبائه وجنسه، فإنه يظن أولاً أنه يفطر في فطرته الإنسانية على فطرة آبائه وجنسه النفسانية التي كانت لهم، وبحسب فطرته النفسانية تكون أفعاله الخلقية جيدة أو ردية، ثم انه يتأدب بما يراهم عليه من الآداب ويتخلق بما يراهم عليه من الأخلاق، ويقتفي بهم في كل ما يعملونه، إذ كان لا يعرف غيره من أول أمره، ولأنه يثق بهم أكثر من ثقته بغيرهم، ولأنه أيضاً يحتاج أن يسعى في حياته لما يسعى له جنسه، فمتى كان أولئك ذوي نقائص بالطبع تظن به النقائص التي كانت فيهم، ومتى كانوا ذوي فضائل بالطبع والعادة تظن به أيضاً تلك الفضائل التي كانت فيهم، فإنه يلتمس بجودته ورداءته فضيلته ونقيصته لا غير، إما بالطبع وإما بالعادة.
إن في هذا النص معاني كثيرة، منها أن الأخلاق الفاضلة تتكون لدى الإنسان من خلال جملة مؤثرات اجتماعية وبيئية ونفسانية موروثة من الآباء والأمهات والمجتمع باعتبار أن هؤلاء مادته التي جاء منها وفاعلوه أيضاً، ومنها ما هي طبيعية، تعود لجملة مؤثرات البيئة والمناخ وموقع الإنسان في الإقليم الذي يعيش فيه، فإن كان يعيش في إقليم متطرف في الحرارة والبرودة، فإنه يورث الأعمال التي تتناسب مع طبيعة هذا الإقليم مناخياً، وإن كان الإقليم معتدلاً، فإنه يتصرف على وفق طبيعة هذا الإقليم مناخياً. لان الإنسان إذا ما سكن قطعة من الأرض فإنه يتأثر بمجتمعه وعاداته وأخلاقه التي نما وتربى عليها في ذلك المجتمع، فإن كانت تلك العادات الموروثة ردية كانت أفعاله ردية كذلك، مما ينعكس على جملة تصوراته للحياة والمعرفة والثقافة والمدنية والحضارة، والعكس صحيح. لأنهم كما يقول الفارابي يكونون في مسكن واحد وبلد محدود، ويفطرون على صُور وخِلَق في أبدانهم محدودة، وتكون أبدانهم على كيفية وأمزجة محدودة، وتكون أنفسهم معدة ومسددة نحو معارف وتصورات وتخيلات بمقادير محدودة في الكمية والكيفية، فتكون هذه أسهل عليهم من غيرها،…، وتكون أعضاؤهم معدة لأن تكون حركتها إلى جهات ما وعلى أنحاء أسهل من حركتها إلى جهات أخر وعلى أنحاء أخر. مما يعني هذا عند الفارابي، أن مزاج الإنسان وكيفياته النفسية وتصوراته العقلية تكون تابعة على نوع الفطرة التي فطر الإنسان عليها في بدنه من حيث لون بشرته وخِلقًته. وهو رأي يشبه إلى حدٍ كبير ما طرحه الكندي من قبل في هذه المسألة. ذلك أن لون بشرة الإنسان وشكله الذي هو عليه، يتحدد في ضوئها أي إقليم وقع في داخله هذا الإنسان، وقد فصلنا القول في ألوان البشر تبعاً للأقاليم في المبحث الأول.
هذا من جهة، ومن أخرى، نجد أن الفارابي يتحدث عن المجتمعات من حيث السكن في البراري والحواضر، فيصف أهل البراري الذي يسكنون في بيوت الشَعر أو الصوف والخيام والأحسية  أنهم أجفى  وأبعد من أن يَتركُوا ما قد تمكّن العادة فيهم،…، وأحرى أن لا يخالطهم غيرهم من الأمم للتوحش والجفاء الذي فيهم، في حين يكون سكان المدن والقرى وبيوت المدر منهم أطبع وكانت نفوسهم أشد انقياداً لتفهم ما لم يتعودوه.
إن هذه النصوص التي أوردناها عن الفارابي، والتي تتحدث عن المجتمعات الإنسانية ومواقعها في الأقاليم الجغرافية، وطبيعة كل مجتمع من هذه المجتمعات من حيث الخصال الطبيعية فيه التي أوجدتها العناصر الطبيعية في خِلَقهم وأشكالهم، من هواء وماء وغذاء وحرارة وبرودة وكواكب وبروج وأفلاك، وعقل فعال ولغة خاصة بكل مجتمع تتناسب مع كل هذه الأشياء، فضلاً عن المزايا الاجتماعية والأخلاقية، إنما أراد من خلالها الفارابي أن يصل إلى نتيجة، مفادها أن المجتمعات الإنسانية الكبرى والوسطى والصغرى، إنما يقع عليها كل الذي قيل، فتتأثر سلباً أم إيجاباً بالمناخ والتربة والغذاء والكواكب والأفلاك والعقل الفعال.
وبما أن سكان الأقاصي من الأقاليم سواء من أهل الشمال (البرودة الشديدة) أو أهل الجنوب (الحرارة الشديدة)، هم عند الفارابي أقرب إلى البهائم في عيشهم ومساكنهم ومأكولاتهم ولغاتهم وتزاوجهم، وهم لا يصلحون لأن يُكَونوا مجتمعاً مدنياً حضارياً ثقافياً، بقي الحديث إذن عن أهل الأقاليم المعتدلة مناخياً، وهم الأمم المدنية الحضارية.
وبما أن الإقليم الرابع هو أوسط الأقاليم السبعة كما يقول الجغرافيون والبلدانيون، وأعدلها مناخاً وأطيبها هواءً، وأصلحها غذاءً وأحسنها تربةً، وأعذبها ماءً، وأطولها ربيعاً وخريفاً، وأعدلها في لون بشرة أهله، فهم ما بين السمرة والبياض، انعكس كل ذلك على نفوس سكان أهله وأمزجتهم ومواقفهم وطبائعهم وأخلاقهم وشيمهم، فكانوا وسطاً بين الأمم الأخرى، فكثر فيهم المدنيات والحضارات والدول، وظهرت فيهم الأديان والعلوم والفنون والفلسفات.
كل ذلك، كان أمام عين الفارابي وهو يصنف لأصل الحكمة والفلسفة وأول ظهورها بين مدنيات وحضارات هذا الإقليم، الذي كان يسمى عندهم بإقليم بابل والعراق، فصرح بلا مواربة ولا خوف ولا وجل، وكأنه لعمري يرد على أفلاطون وأرسطو من مكان آخر ويغمز في قناتهم، قائلاً : وهذا العلم (=الفلسفة) هو أقدم العلوم وأكملها رئاسة، وسائر العلوم الأُخر الرئيسة هي تحت رئاسة هذا العلم،…، وهذا العلم كما يقال: أنه كان في القديم في الكلدانيين، وهم أهل العراق، ثم صار إلى أهل مصر، ثم انتقل إلى اليونانيين، ولم يزل إلى إن انتقل إلى السريانيين (=سوريا)، ثم إلى العرب.
ويقصد الفارابي بالعرب هنا، الفلاسفة الذين ظهروا في هذه العراق، ومنهم وأولهم الفيلسوف أبو يوسف يعقوب بن اسحق الكندي فضلاً عن الفارابي نفسه، وبقية الفلاسفة والمترجمين المتفلسفين من السريان من أمثال أبو بشر متى بن يونس واسحق بن حنين وأبيه حنين بن اسحق، ويحي بن عدي، والطبيب الفيلسوف أبو بكر الرازي وغيرهم كثير.
وهنا تظهر أصالة الفارابي الفلسفية المؤسسة لنمط جديد من التفلسف، والبعيدة عن التعصب العرقي والقومي، والمنفتحة على الأمم والشعوب كافة، والآخذة بأسباب التفلسف عند من له قدرة على التفلسف، دون أن تغفل أول من تكلم بهذا العلم ووضع أسسه ومفاهيمه ومصطلحاته، ودون أن تقيد التفلسف بأمة واحدة وحيدة هي اليونان دون غيرها، رافضاً القول بمركزية التفلسف عند اليونان، وكما يدافع عنها من آمن بها من الفلاسفة الغربيين المعاصرين وأضرابهم من المستشرقين. القائلين أن التفلسف خاصية للشعب اليوناني لا يدانيه فيه أحد من الشعوب القديمة والأمم الأخرى، وأن من جاء من بعدهم إما شراح لهم أو مقلدين، ويقصدون بذلك الفلاسفة العرب المسلمين . إن الفارابي في هذا النص يؤسس لنمط جديد من الرؤية الحضارية للحوار بين الأمم والشعوب والثقافات والفنون ناهيك عن الأديان. إن أرائه هذه تستحق الدراسة والبحث والتعمق، ناهيك عن الإجلال والاحترام لها.
وقد استمر البحث لدى الفلاسفة العرب المسلمين ممن جاء بعد الفارابي في توظيف معطيات  علم الجغرافية لموضوع التفلسف.
إذ وجدنا أن إخوان الصفا (مدرسة فلسفية ظهرت في العراق في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي)، هم أيضاً قد درسوا أثر المناخ وموقع الإقليم في سلوك ومواقف البشر، إذ خصصوا احد رسائلهم المهمة للبحث في علم الجغرافية كما وتناولوا الموضوع بشكل متناثر في رسائلهم الأخرى، معتقدين أن للمناخ والتأثيرات الجوية والأجرام السماوية، ولاسيما الشمس، وطبيعة الأرض، تأثير كبير في مختلف البلدان وسكان تلك البلدان، ويتضح ذلك جلياً في اختلاف لغات الناس وألوانهم وأخلاقهم وأشكالهم. ذلك أن المناخ والـتأثيرات الجوية والأجرام السماوية وطبيعة الأرض ليست متشابهة في جميع البلدان، وإنما تختلف من بلد إلى آخر، وهذا الاختلاف هو الذي يسبب تباين الناس في لغاتهم وألوانهم وأخلاقه، على ما يرى إخوان الصفا.
كما اتفق الإخوان مع التقسيم الجغرافي القديم للأرض إلى سبعة أقاليم، وإن في كل إقليم كثيراً من المدن، وأن في كل مدينة أمماً تختلف ألسنتهم وطباعهم ومذاهبهم وأعمالهم،كما وتحدثوا عن صفات ومزايا الناس في كل إقليم، مثلما أشار إلى ذلك الكندي من قبل في رسائله . وخصوا بالحديث الإقليم الرابع الذي هو موضع الاعتدال في المناخ كما بينا ذلك من قبل، فيقول الإخوان عن هذا الإقليم أنه إقليم الأنبياء والحكماء والرجال الصالحين، والناس الذين يسكنون فيه أعدل من غيرهم طباعاً وأخلاقاً، وأما ألوانهم فتتراوح بين البياض والسمرة.
كما وتحدث الإخوان عن أثر البيئة الطبيعية في البيئة الاجتماعية، إذ تنعكس فيها إما سلباً أو إيجاباً، أو ما يسمى بمؤثرات الجسد الذي يتأثر بالحرارة أو البرودة، وبنوع الطعام الذي يتغذى عليه، وبنوع التربة التي يعيش فيها، ومكان الإقليم الذي يسكن فيه، على النفس ومزاجها وطرق تفكيرها . فضلاً عن أثر كله في البيئة الاجتماعية، مثل العادات والتقاليد وديانات الآباء والأجداد والمربين والمعلمين والمؤدبين، وأحكام النجوم التي يهتم بها كثيراً الإخوان، إذ تلعب هذه مجتمعة دورها في سلوك الإنسان وعاداته وأخلاقه ومواقفه الفكرية والفنية.
ولربما هناك من يرى، أن إخوان الصفا قد غالوا كثيراً في دور الطبيعة وإن كان تفسيرهم علمياً وبعيداً عن الخرافة، غير آخذين بنظر الاعتبار أهمية العامل الثقافي في تحديد كل من ماهية الملامح السلالية وأنماط السلوك والمزاج عند البشر. مما جعلهم أول الواضعين لمبادئ الدراسة الحتمية الطبيعية  . 
ولكنا نقول من جانبنا ليس الإخوان هم أول من نادى بذلك، بل قد سبقهم إلى ذلك الفلاسفة العرب المسلمين ممن درسناهم هنا، واقصد الكندي والفارابي.
واستمراراً مع هذا النهج في توظيف معطيات علم الجغرافية لدى الفلاسفة المسلمين، فإنا نجد الفيلسوف أبو علي الحسين بن سينا، الشيخ الرئيس (ت428هـ/1037م)، هو الآخر قد درس هذه العلاقة بشكل تفصيلي، من منظورين، فلسفي طبيعي وطبي علمي بحت، وذلك من خلال ما ذكره في كتاب القانون في الطب، وكتابه (موسوعته) الشفاء، قسم الطبيعيات، كتاب المعادن والآثار العلوية، المقالة الأولى، الفصل السادس، مؤكداً أثر العوامل الطبيعية وفي مقدمتها الحرارة والرطوبة، والارتفاع والانخفاض عن مستوى سطح البحر، والبرودة والجفاف، في أبدان الناس وصفاتهم السلالية، وفي سلوكهم وأمزجتهم. وأن تلك العناصر الطبيعية هي التي كانت سبباً في تباين الملامح الطبيعية في اللون والشكل لدى الناس، فضلاً عن السلوك ، كما أن هذه العوامل الطبيعية هي التي تؤدي إلى تباين عادات البشر وتقاليدهم وشيمهم، وهي التي تحدد نمط المعيشة من غذاء ومسكن ولباس وشراب، والعمل الذي من خلاله يرزقون.
كما ويضيف ابن سينا لذلك، إ اختلاف العوامل الطبيعية من إقليم إلى آخر، يولد معه تباين في الأمراض التي تصيب أبدان الناس في مناطق سكناهم، بسبب أن الأرض التي يقطنها البشر وبحسب الأقاليم التي يعيشون فيها، تتباين في توزيع الحرارة من مكان لآخر، بحسب زاويتي سقوط الأشعة، وانعكاساتها.
كما ويصف ابن سينا مزايا خَلق وألوان الساكنين في الأقاليم السبعة، مبتدءاً الحديث من الإقليمين الأول والثاني، اللذان يتميزان بالحرارة العالية، لينتقل بعدها للحديث عن الأقاليم المعاكسة لها وهي الإقليمين السادس والسابع، اللذات يتميزان بالبرودة الشديدة، فيقول: المساكن الحارة مسودة مفلفلة للشَعَر، مضعفة للهضم، وإذا كثر فيها التحليل جداً وقلت الرطوبات أسرع الهرم إلى أهلها كما الحبشة فإن أهلها يهرمون في بلادهم في ثلاثين سنة وقلوبهم خائفة لتحلل الروح جداً، والمساكن الحارة أهلها ألين أبداناً، [أما] أهل المساكن الباردة أهلها أقوى وأشجع هضماً كما علمت، وإن كانت رطبة كان أهلها لحيمين شحيمين غائري العروق جافي المفاصل غضين بضين، كما لا ينسى ابن سينا أن يشير إلى أثر الكواكب في الحر والبرد وسائر الأحوال، وإن كانت هذه الكواكب مما لا يدركه الإنسان مباشرة.
من هذا النص يفهم أن ابن سينا قد أعطى العوامل المناخية على اختلاف أنواعها أهمية اكبر من غيرها من العوامل الطبيعية المحيطة بالإنسان، ولربما تكون أعضاء الإنسان الخارجية أو الداخلية هي الأخرى تتأثر بتلك العوامل المناخية من حرارة وبرودة ورطوبة، لاسيما إذا كانت الفروق السنوية أو الفصلية في معدلاتها كبيرة جدا. وأن هذه العوامل تكون آثارها أكبر من غيرها من العوامل الطبيعية على الإنسان.
فضلاً عن وصف ابن سينا للأقاليم المتنافرة فيما بينها من حيث الحرارة والبرودة، لم ينسه أن يربط ذلك كله بأخلاق وشيم ومواقف الإنسان في تلك الأقاليم الأربعة (المتضادة من حيث الحرارة والبرودة)، وهذا الوصف فيه مقاربة واضحة ما طرحه الفلاسفة السابقين عليه من أمثال الكندي والفارابي وإخوان الصفا، إلا أن مزية ابن سينا عليهم، أنه قد تناول الموضوع من منظور طبي تشريحي وطبيعي فيزيائي، واصفاً بنية الإنسان الفسيولوجية والبيولوجية والاجتماعية في كل إقليم من هذه الأقاليم (يسميها ابن سينا الأصقاع) بدقة متناهية، ولكنه لم يتحدث عن نوع من الثقافات والفلسفات تظهر أو تحدث في هذه الأقاليم، نتيجة لوجود المدن والعمائر والقرى فيها. ولربما شغلته المسألة الطبية التشريحية أكثر من غيرها في اثبات ما يريده ومصداق لتأثير المناخ والعوامل الطبيعية الأخرى من تربة وغذاء بأنواعه على شكل الإنسان ولونه وطبيعته الجسمية. وانطلق من هذه المسالة ليقف أمام أثر المناخ على أخلاق البشر في هذه الأصقاع (الأقاليم)، فسكان الأقاليم الجنوبية يميلون إلى الخوف ولا يوجد لديهم الشجاعة والصبر والجلد الذي عند سكان الأقاليم الشمالية الباردة جداً.
وهذا يعني أن الحديث عن الأقاليم المعتدلة (الرابع والثالث والخامس) عند ابن سينا، سيكون تحصيل حاصل، إذ أن سكان هذه الأقاليم سيحملون  (الوسط) من المزايا الأخلاقية (الفضائل الأخلاقية، العفة والشجاعة والتفكر) وألوان البشرة (الجمع بين السمرة والبياض)، وأشكال الأجسام (التناسق ما بين النحافة الشديدة والسمنة المفرطة)، وأنواع الأغذية والتربة التي تنبت النباتات، نتيجة لاعتدال المناخ فيها، من حيث الحرارة والبرودة، مما سينعكس ذلك في سلوكهم وأخلاقهم ومواقفهم الفلسفية والدينية، وسيكونون أكثر إنتاجاً للفكر والفن والفلسفة، وستكثر فيهم الحضارات والمدنيات الكبرى. وهذا ظاهر لمن يعرف جغرافية الأرض ومواقع الأقاليم فيها.   
إن هذه النصوص الفلسفية والعلمية الطبيعية التي قدمناها عند فلاسفتنا المسلمين في المشرق الإسلامي، من التي تتصل بموضوع المناخ وأثره على الإنسان، تجعلنا نميل إلى تفسير مواقف الإنسان الأخلاقية (الشجاعة والفضيلة أم الخوف والجبن)، على ضوء معطيات الطبيعة التي يعيش فيها الإنسان، وهل هي حارة أم باردة. ولعمري هذا موضوع يحتاج منا نحن المتفلسفين العرب المعاصرين أن نبذل الجهد في البحث والتقصي والدراسة المعمقة، تحت عنوان أثر المناخ على سلوك الإنسان ومواقفه الأخلاقية من المشكلات التي تواجهه في الحياة اليومية، وفي علاقات سكان الأقاليم مع جيرانهم وأنواع الحروب وأسباب حدوثها، وظهور الانقلابات والثورات لدى الشعوب على اختلاف أقاليمها.
وإذا ما انتقلنا إلى الفلسفة العربية الإسلامية في المغرب والأندلس، فإنا سنجد أن الفلاسفة ابن طفيل (ت581هـ/1185م) وابن رشد (ت595هـ/1198م) وابن خلدون هم أيضاً قد بحثوا ودرسوا في هذا الموضوع، شأنهم في ذلك شأن الفلاسفة العرب المسلمين في المشرق، كما وربطوا أيضاً بين أثر العوامل الجغرافية على ظهور التفلسف عند الإنسان في أقاليم محددة جغرافياً، ولم يتناسوا ذكر  أثر الكواكب السيارة والأبراج في هذا الشأن.
وأول ما يواجهنا في بحث هذا الموضوع من الفلاسفة في المغرب العربي، الفيلسوف أبو بكر بن طفيل القيسي، في كتابه ( قصة حي بن يقظان). التي أودع فيها مواقفه الفلسفية في الإنسان والطبيعة وما بعد الطبيعة، وعلاقة الفلسفة بالدين، وغيرها من الموضوعات ذات الشأن الفلسفي.
إذ يشير في مطلع قصته هذه إلى الآراء العلمية والفلسفية في نشأة وتَكَوُن (حي بن يقظان)، مستغلاً معطيات علم الجغرافية لأغراض التفلسف لديه، فيقول: ذكر سلفنا الصالح – رضي الله عنهم- أن جزيرة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولد بها الإنسان من غير أم ولا أب (=التولد الذاتي)، وهي التي ذكر المسعودي أنها جواري الوقواق. لأن تلك الجزيرة أعدل بقاع الأرض هواءً، وأتمها لشروق النور الأعلى عليها استعداداً، وإن كان ذلك على خلاف ما يراه جمهور الفلاسفة وكبار الأطباء. فإنهم يرون أن أعدل ما في المعمورة الإقليم الرابع.
ويصف لنا ابن طفيل رأي من قال بالتولد الذاتي لحي بن يقظان من الأرض، عارضاً لرأيهم بالقول: أن بطناً من أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينة على مر السنين والأعوام، حتى امتزج فيها الحار بالبارد، والرطب باليابس، امتزاج تكافؤ وتعادل في القوى، وكانت هذه الطينة المتخمرة كبيرة جداً، وكان بعضها يَفضُل بعضاً في اعتدال المزاج والتهيؤ لتكوّن الأمشاج (=مختلطة)، وكان الوسط منها أعدل ما فيها وأتمه مشابهة بمزاج الإنسان، فتمخضت تلك الطينة، وحدث فيها شبه نفاخات الغليان لشدة لزوجتها، وحدث في الوسط منها لزوجة ونفاخة صغيرة جداً، منقسمة بقسمين، بينهما حجاب رقيق، ممتلئة بجسم لطيف هوائي في غاية من الاعتدال اللائق به، فتعلق به عند ذلك الروح الذي هو من أمر الله (تعالى)، وتشبثت به تشبثاً يعسر انفصاله عند الحس وعند العقل، إذ تبين أن هذا الروح دائم الفيضان على العالم، فمن الأجسام ما لا يستضاء به وهو الهواء الشفاف جداً، ومنها ما يستضاء به بعض استضاءة، وهي الأجسام الكثيفة غير الصقيلة، وهذه تختلف في قبول الضياء،…، ومنها ما يستضاء به غاية الاستضاءة وهي الأجسام الصقيلة كالمرآة ونحوها. فإذا كانت هذه المرآة مقعرة على شكل مخصوص، حدث فيها النار لإفراط الضياء، وكذلك الروح الذي هو من أمر الله (تعالى)،…، ومن هذه الأجسام الصقيلة ما يزيد على شدة قبوله لضياء الشمس أنه يحكي صورة الشمس ومثالها، وكذلك أيضاً من الحيوان ما يزيد على شدة قبوله للروح أنه يحكي الروح ويتصور بصورته، وهو الإنسان خاصة، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق آدم على صورته).   
وسبب اختيار ابن طفيل لهذا الموقع الجغرافي دون غيره من المواقع الأخرى، ومخالفته لجمهور الفلاسفة والأطباء السابقين عليهم ممن أشرنا إليهم في ثنايا هذا البحث، سواءً من اليونانيين أو المسلمين سوى ابن سينا، الذين اعتقدوا أن الإقليم الرابع هو أعدل بقاع الأرض مناخاً وتربة وهواءً، هو أن الإقليم الذي حدده ابن طفيل لا عمارة وحضارة فيه، لأنه شديد الحرارة.
أما ابن طفيل فيرد عليهم بالقول: أن رأيهم لا يقوم على البرهان، بل أن البرهان العلمي أثبت في العلوم الطبيعية، أن لا سبب لتكون الحرارة إلا بالحركة. أو ملاقاة الأجسام الحارة والإضاءة، وتبين أيضاً أن الشمس بذاتها غير حارة ولا متكيفة بشيء من هذه الأمور المزاجية، كما وتبين فيها (=العلوم الطبيعية) أن الأجسام التي تقبل الإضاءة أتم القبول هي الأجسام الصقيلة غير الشفافة، ويليها في قبول ذلك الأجسام الكثيفة غير الصقيلة، فأما الأجسام الشفافة التي لا شيء فيها من الكثافة فلا تقبل الضوء بوجه، وهذا وحده مما برهنه الشيخ أبو علي (=ابن سينا) وحده خاصة، ولم يذكره من تقدمه.
ومن خلال هذه المعطيات العلمية الطبيعية التي تزود بها ابن طفيل من ابن سينا، استمر في الدفاع عن موقفه من جغرافية التفلسف، قائلاً: أن الشمس لا تُسخن الأرض كما تسخن الأجسام الحارة أجساماً أُخر تُماسها، لأن الشمس في ذاتها غير حارة، ولا الأرض تُسخن بالحركة لأنها ساكنة، وفي حالة واحدة في شروق الشمس عليها وفي وقت مغيبها، وأحوالها في التسخين والتبريد ظاهرة الاختلاف للحس في هذين الوقتين، ولا الشمس تسخن الهواء أولاً، ثم تسخن بعد ذلك الأرض بتوسط سخونة الهواء، وكيف يكون ذلك، ونحن نجد أن ما قرب من الهواء من الأرض في وقت الحر أسخن كثيراً من الهواء الذي يبعد منه علواً؟!. فبقي أن تسخين الشمس للأرض إنما هو على سبيل الإضاءة لا غير، فإن الحرارة تتبع الضوء أبدأ.
هذا من جهة ما قدمته العلوم الطبيعية من معطيات لإثبات رأي ابن طفيل في مسألة الأقاليم المناخية، ولكن لم يكتف بهذا فأفاد مما قدمته العلوم الرياضية (=التعاليمية) في هذا الباب، ولاسيما علم الفلك منها، إذ يرى على وفق المنظور القديم أن الشمس كروية الشكل والأرض كذلك، وأن الشمس أعظم من الأرض كثيراًُ، وأن الذي يستضيء من الأرض (=الأجسام على اختلاف كثافتها) بالشمس أبداً هو أعظم من نصفها، وأن هذا النصف المضيء من الأرض في كل وقت أشد ما يكون الضوء في وسطه لأنه أبعد المواضع من الظلمة (عند محيط الدائرة)، ولأنه يقابل من الشمس أجزاءاً أكثر، وما قرب من المحيط كان أقل ضوءاً حتى ينتهي إلى الظلمة عند محيط الدائرة الذي ما أضاء موقعه من الأرض قط….، وقد ثبت في علم الهيئة (=الفلك) أن بقاع الأرض التي على خط الاستواء لا تسامت الشمس رؤوس أهلها سوى مرتين في العام، عند حلولها برأس الحمل، وعند حلولها برأس الميزان، وهي في سائر العام ستة أشهر جنوباً منهم، وستة أشهر شمالاً منهم، فليس عندهم حر مفرط، ولا برد مفرط (=اعتدال المناخ)، وأحوالهم بسبب ذلك متشابهة.
ومن خلال ما تقدم يُصدر ابن طفيل حكماً عاماً يَشهد برأيه بصحة ما ذكر من تجويز تولد الإنسان بتلك البقعة من غير أم ولا أب، بقوله: فمنهم من بتَّ الحكم وجزم القضية بأن حي بن يقظان من جملة من تكون في تلك البقعة من غير أم ولا أب.
ومنهم من أنكر هذا الرأي الذي عرضه ابن طفيل في تولد حي بن يقظان، وأختار الطريق الطبيعي الجنسي للتكاثر بين البشر، عن طريق زواج أميرة من جزيرة متسعة الأكناف كثيرة الفوائد عامرة بالناس (=مقابل جزيرة الوقواق أحد جزائر الهند، تحت خط الاستواء)، يملكها رجل منهم شديد الأنفة والغيرة، وكانت له أخت ذات جمال وحسن باهر، فعضلها (=منعها) الأزواج، …، وكان له قريب يسمى يقظان فتزوجها سراً على وجه جائز في مذهبهم المشهور في زمنهم، ثم أنها حملت منه ووضعت طفلاً، فلما خافت أن يفتضح أمرها وينكشف سرها، وضعته في تابوت أحكمت زمّه بعد أن أروته من الرضاع،…، ثم قذفته في اليم (=البحر) فصادف ذلك جري الماء بقوة المد فاحتملته من ليلته إلى ساحل الجزيرة الأخرى المتقدم ذكرها (أحد جزائر الهند تحت خط الاستواء التي تولد فيها حي ذاتياً). فعثرت عليه ظبية فقدت طلاها (=ابنها) فحنت عليه ورئمت به، وألقمته حلمتها وأروته لبناً سائغاً، وما زالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الأذى، هذا ما كان من ابتداء أمره (=حي) عند من ينكر التولد.
إن عرض هذه الآراء المتضادة فيما بينها بصدد نشأة حي بن يقظان من قبل ابن طفيل، تدلل على سعة أفق هذا الفيلسوف في معالجة موضوع المناخ وأثره على الإنسان وأخلاقه وعلاقته بالتفلسف، وإن اختيار ابن طفيل  لهذا الموقع الجغرافي (=تحت خط الاستواء الذي وصف أنه إقليم شديد الحرارة) مخالفاً بذلك جملة الفلاسفة والأطباء والجغرافيين في زمانه وما قبله، في تقسيماتهم لأقاليم الأرض السبعة، إلى أطراف ووسط، وأن الوسط (=الإقليم الرابع) هو الذي أعدلها مناخاً وتربة وهواءً وهو الذي  تحدث فيه العمارة والحضارة والمدنية وما يلحقها من ثقافة وفن وفلسفة ودين وشرائع، معتقداً ابن طفيل أن الإنسان هو الذي ينتج هذه الحضارة والمدنية والثقافة، بأي بقعة من الأرض أياً كان موقعها الجغرافي، وهو الذي يكيف ويطوع الطبيعة لصالحه ولا ينقاد إليها، بمعنى أن الإنسان يتفلسف على وفق إطار محدد ما دامت قابليته على التفلسف موجودة فيه، دون أثر للمناخ من حرارة وبرودة واعتدال عليه.
إنه خروج عن المعتاد والمألوف من قبل ابن طفيل على المعطيات العلمية الطبية والجغرافية والأنثربولوجية والاجتماعية السائدة قبله وإلى زمانه وفيه فضلاً عن المنظور الفلسفي الذي تبناه الكندي والفارابي من قبل. مع إحساس فلسفي فائق أن التفلسف خاصية للإنسان وحده دون غيره من المخلوقات الأخرى على الأرض، وان الوجود يحاصره من كل مكان ولاسيما فكرة الموت التي تحيط به من كل جانب وفي كل وقت، فهو الكائن الميتافيزيقي الوحيد الذي يحس بذلك ويدركه بعمق. وهو ما وجدناه عند حي بن يقظان وهو يتفحص الظبية التي اعتنت به وفارقت الحياة على حين غرة.
وإذا ما جئنا إلى الفيلسوف ابن رشد (ت595هـ/1198م)، نجده هو الآخر قد اهتم كثيراً بموضوع علم الجغرافية والمناخ وعلاقته بالتفلسف، إذ يشير في مؤلفاته السياسية والطبيعية إلى هذا الموضوع الحيوي.
فيعرض أولاً للموضوع من حيث علاقته بالتفلسف عند الإنسان الواقع في الإقليمين الرابع والخامس، في كتابه الموسوم تلخيص السياسة، وفي المقالة الأولى، حين يتحدث عن ظهور التفلسف في هذين الإقليمين، موجهاً النقد لأفلاطون الذي حصر التفلسف في الأمة الإغريقية دون غيرها من الأمم الأخرى، كما بينا ذلك في حديثنا عن أفلاطون، فيقول ابن رشد: أنه إذا ما نزعت فئة من الرجال نحو طلب الكمالات الإنسانية ولاسيما الفضائل الفكرية التأملية (=الفلسفة)، ويبدو أن هذا هو رأي أفلاطون حول اليونانيين، وحتى لو افترضنا أنهم أكثر ميلاً واستعداداً لتقبل الحكمة بطبيعتهم واكتسابها، إلا أن ذلك لا يعني عندنا أننا لا نجد أُناساً يماثلون هؤلاء في الحكمة، وبوسع المرء أن يجدهم فضلاً عن اليونان والبلدان المجاورة لها، في بلادنا الأندلس (=يقصد نفسه وابن باجة وابن طفيل) وفي سورية والعراق ومصر.
ويستمر ابن رشد في بيان هذا الموقف البيئي الجغرافي لظهور التفلسف في هذه الأقطار التي أشار إليها، بقوله: ولكن توجد هناك ضرورة للبحث الدقيق في هذا الجانب، إذ أنه من المؤكد أن يعتقد المرء عندما يكون الجزء النظري (=الفلسفة) في النفس حاكماً وقوياً، فإنه لا بد أن تكون الفضائل التي يتم تمثلها هي الأخرى قوية جداً، أي أنها بالطبع كذلك، ومع ذلك فإن بالإمكان التعليق هنا بالقول: إن أُمماً كثيرة ميالة بالطبع نحو هذه الفضائل (=الفلسفة)،وان هذه الفضائل يتم تبادلها فيما بينها وبصورة خاصة في الإقليمين المعتدلين الرابع والخامس.
في حين يحصر ابن رشد الفضائل الأخلاقية من شجاعة وغيرها في أقاليم أخرى هي الأقاليم التي يتمتع أهلها بالبرودة الشديدة، فقال: أن فضيلة الشجاعة (القوة الغضبية) نجدها أقوى بين الأكراد والجليقيين (سكان شمال غرب شبه الجزيرة الإيبرية، وهم يمتازون بالشجاعة في الحرب عادة أو الغاليين (شعب فرنسا). ويهمل عن قصد الإشارة على الأقاليم الأول والثاني والثالث، الذي يكون المناخ فيها حاراً جداً، وهي الأقاليم التي تقع في جنوب خط الاستواء.
إن ابن رشد هنا وإن كان لا يتابع أفلاطون في وطن التفلسف وحصره باليونان فقط، إلا انه يتابع من جهة أخرى الفارابي في كتابه تحصيل السعادة، الذي يشير الفارابي فيه إلى أن التفلسف قام أول ما قام في العراق القديم أيام الكلدانيين، ولكن ابن رشد في نصه السابق ينتصر أولاً لوطنه (الأندلس) ويقدمه على بقية الأقطار العربية التي أشار إليها الفارابي من قبل، وإن كان الفارابي لم يشر إلى الأندلس كموطن لإنتاج الفلسفة والحكمة،. هذا من جهة، ومن أخرى، لم يشر ولم ينقد ابن رشد موقف ابن طفيل في قصته (حي بن يقظان) المعارض لهذه الطروحات التي قال بها الفلاسفة من قبل من اليونانيين أو الإسلاميين. على الرغم من أن ابن طفيل كان معاصراً لابن رشد، وان الأخير كان على إطلاع مباشر على نص حي بن يقظان، وعارفاً ما فيه من موقف علمي وطبيعي ورياضي وفلسفي. بأزاء الأقاليم وتأثير المناخ على فعل التفلسف عند الإنسان.
ويبدو بنظري المتواضع، أن موقف أبن رشد هذا الذي جعل فعل التفلسف للأندلس أولاً في نصه قد أراد منه، إثبات موقف سياسي أيدلوجي مدعم بموقف طبيعي علمي في زمانه، لخدمة أمراء الموحدين ولاسيما يوسف بن عبد المؤمن وابنه أبو يوسف يعقوب الموحدي، الذين عاش في كنفهم، واحتضنوا الفلسفة ودافعوا عنها، وسمحوا لابن رشد أن يمارس فعل التفلسف شرحاً على أرسطو واختصاراً له وإبداعاً في نصوص أخرى مثل تهافت التهافت وفصل المقال ومناهج الأدلة.
فضلاً عن ذلك، يظهر في نص ابن رشد النزعة الإنسانية العالمية المتفتحة عند فلاسفتنا العرب المسلمين، إذ يعتقدون أن الفلسفة واكتسابها والمهارة فيها ليست حكراً لأمة دون سائر الأمم، وان المعجزة اليونانية التي قال بها بعض الفلاسفة الغربيين المعاصرين من أمثال برتراند رسل وغيره، فضلاً عن بعض المستشرقين، ليست هكذا كما صورت وأدعى أصحابها، بل أن التفلسف هو نتاج عوامل متعددة حضارية وسياسية وروحية ودينية واقتصادية وتاريخية وميثولوجية، فضلاً عن المناخ والبيئة.
أما في كتاب ابن رشد الآخر والموسوم بالآثار العلوية، والذي هو جزء من منظومة العلم الطبيعي، على وفق التقسيم القديم للعلوم،  نجد ابن رشد يفصل القول جغرافياً وطبيعياً في الأقاليم وأثر المناخ على سلوك الإنسان وإنتاج التفلسف فيها. بالاعتماد على التقسيم الجغرافي القديم الذي يقسم أقاليم الأرض المسكونة إلى سبعة أقاليم، ولم يخرج ابن رشد هنا عن تأثير أرسطو عليه فضلاً عن بطليموس في هذا الجانب، على الرغم من أن معلوماته التي استند إليها قائمة على ما ذكره إخوان الصفا في رسائلهم الرياضية، ولاسيما رسالة الجغرافية. وابن سينا في كتبه الفلسفية والطبية.
يعرض ابن رشد أولاً الآراء الفلسفية الطبيعية والفلكية والرياضية التي قال بها الفلاسفة والعلماء قبله، فيقول: أن أرسطو وجملة المشائين يزعمون أن المواضع الممكنة عمارتها من الأرض من جهة الشمس هي ما عن جنبتي مداراتها من الجهتين الشمالية والجنوبية، وأن ما تحت معدل النهار ما يقرب منه لا يُسكن لإفراط الحر هنالك، وكذلك يرون أيضاً أن ما بَعُدَ جداً من مدارات الشمس إلى الجهتين الجنوبية والشمالية لا يُسكن لإفراط البرد.
أما رأي بطليموس ومن تبعه من أصحاب التعاليم فإنهم يرون أن العمارة ممكنة تحت معدل النهار إلى ما يجاوره من جهة الجنوب، بقدر ما لا يمر به حضيض الشمس وهو الموضع الذي يسمونه بالطريقة المحترقة (=تحت خط الاستواء).
وأما ابن سينا فقد تبعهم على هذا الرأي، ويرى أن ذلك الموضع أعني ما تحت معدل النهار أعدل الأقاليم (جزيرة سرنديب)، وزعم أن قول المشائين مخالف لما يوجد حساً وقياساً. 
أما رأي ابن رشد، فقائم على النظر من زاوية العلم الطبيعي لأسباب حدوث الحرارة والبرودة وأثرها على البشر وقيام المجتمعات الإنسانية، من جهة، ومن أخرى معترضاً بقوة على رأي ابن سينا وابن طفيل، اللذان ذهبا إلى وجود عمارة وسكان في المناطق الواقعة تحت خط الاستواء، فيقول: قد تبين أن سبب الحر هو قرب الشمس من سمت الرؤوس، وان السبب القريب في ذلك هو وقوع الخطوط الشعاعية على زوايا قائمة، أو ما قرب إلى القائمة لأنه حينئذ يكون الانعكاس أشد وأن تفاضل الأقاليم في شدة الحر وضعفه هو من قبل تفاضلها في هذه الزوايا، وذلك إن ما كان من البلاد أقرب الى جهة الجنوب كانت الزوايا التي تحدث فيها للخطوط الشعاعية حين تكون الشمس في الزوال الصيفي أقرب بما تكون إلى الغاية حتى يكون في البلاد التي تمر الشمس بسمت رؤوسهم تلك الزوايا قائمة، وهذه هي آخر البلاد من هذه الجهة، أعني من جهة الانعكاس، وإذا كان هذا هكذا فقد يظن أنه يمكن أن تكون عمارة تحت معدل النهار، وذلك أنا نرى بلاداً معمورة تمر الشمس على سمت رؤوسهم، لكن هذا استقراء غير مفيد لليقين.
وتساوقاً مع ما طرحه في كتابه تلخيص السياسة، الذي أشرنا له آنفاً، نجد أن أبن رشد يعتقد أن الإقليمين الرابع والخامس هما اعدل الأقاليم على الأرض، وانه سبب تكون الحضارات والعمارات والثقافات والأديان والفلسفات، إنما يتحدد بهذين الإقليمين، فيقول: ونحن نقول أنه إذا كان الأمر على ما قلنا من سبب شدة الحر وضعفه في إقليم إقليم، وكان يظهر للحس أن أعدل الأقاليم للإنسان ولكثير من الحيوان والنبات الإقليم الرابع والخامس، وذلك من جهة التسخين الذي سببه الانعكاس والانعطاف، وأما ما عدا هذين الإقليمين، إما إلى جهة الجنوب فمفرط الحر، وإما إلى جهة الشمال فمفرط البرد، فإن كان ليس يوجد ههنا سبب لشدة الحر وضعفه في إقليم إقليم سوى الزوايا التي تحدثها الخطوط الشعاعية، فمن البين أن ما تحت معدل النهار يمكن أن يسكن، لكن لا على الاعتدال الذي يقول به ابن سينا، على جهة ما يسكن الأقاليم التي تمر الشمس بسمت رؤوس أهلها. فإن سكان هذه البلاد معائشهم ضرورة في الأكثر هي غير طبيعية.
ويستمر ابن رشد في توضيح فلسفته في أن الأرض التي تقع تحت خط الاستواء لا يمكن أن تكون مسكونة بالناس، وبالتالي فلا تكون فيها أسباب الحياة والعمران البشري، وذلك من خلال ربط هذه الموضوع بطبيعة المادة نفسها وتلقيها للحرارة والبرودة، فيقول: وأما إن كان هاهنا سبب آخر من قبل الهيولى(=المادة الأولى) يتزيد به الحر  يتزيد فيما تحت  معدل النهار تزايداً مفرطاً فليس يمكن أن يسكن، وهو السبب الذي ذهب على جميع من رأى أن العمارة في ذلك الموضع ممكنة، ونحن ننظر بذلك.
ويفسر ابن رشد علاقة الحرارة بموضوع قيام الاجتماعات الإنسانية، من خلال أثر الشمس على الأرض، ومن خلال الفصول السنوية الأربعة وتقلبات المناخ فيها، ما بين الحرارة والاعتدال والبرودة، قائلاً: أنه يظهر أن معظم الحر إنما يكون في بلد بلد من البلاد المختلفة الأقاليم في زمان الصيف، بعد انصراف الشمس من المنقلب الصيفي، وذلك من قبل القابل (=الهيولى) لا من قبل الفاعل (=الصانع) على ما تبين قبل، وأن دوام هذا الحر في البلاد المعتدلة أو القريبة من الاعتدال يكون زمانه بعد انصراف الشمس نحواً من ثلاثة أشهر، وذلك في بلادنا هذه، اعني جزيرة الأندلس وما قاربها في العرض، وأن ما عدا هذه البلاد إما إلى جهة الجنوب فيوجد زمان الحر فيها أطول من هذه المدة التي هي نحو الثلاثة أشهر، وذلك أن بحسب شدة تسخين الشمس في بلد بلد يكون قبول الهواء الحرارة عن الشمس أكثر وتمسكه بصورتها دهراً أطول، وإذا كان هكذا فإنه يلزم ضرورة في البلاد التي عرضها قريباً من أن يكون النصف من عروض هذه البلاد المعتدلة، وهي البلاد التي تمر الشمس على سمت رؤوسهم في مدارسها الصيفي أن يوجد الحر فيها في زمان الصيف قريباً من ضعف الحر الموجود في هذه البلاد، ويكون بقاؤه بعد انصراف الشمس قريباً من ضعف تلك المدة الستة أشهر أو الخمسة أشهر، وذلك يوقف عليه بالحس عند من شاهدها. 
ومن جهة أخرى يعرض ابن رشد لموقفه من المناخ والحرارة وأثرها على الإنسان وحياة الموجودات الأخرى، وذلك من خلال المشاهدة الحسية التي قام بها هو بنفسه، وموافقاً لما قاله أرسطو من انه لا توجد حياة ولا عمارة في المناطق الباردة جداً أو الحارة جدا، مفسراً ذلك بالقول: أما أنا فقد شاهدت بلاداً عروضها نحو الثلاثين، فكان بقاء الحر فيها بعد انصراف الشمس نحواً من أربعة أشهر، وليس هذا مما يدرك بالحس فقط، بل يمكن أن يوقف عليه بالقول، فإذا قَدََّرَنا على هذا بلاداً تقع ظلالهم جنوبية لزم أن يكون زمان الحر عندهم نحواً من تلك الأربعة أشهر، وهو الزمان الذي تقع فيه ظلال مقايستهم جنوبية وحرّهم ضرورة أشد، وكذلك يلزم إذا وقعت ظلال مقايستهم شمالية، وإذا كان هذا هكذا يكون الحر ضرورة تحت معدل النهار منطبقاً على السمت أو قريباً من منطبق، ولا يوجد هناك غير فصل واحد في غاية ما يكون من الحر، وذلك أن عند الوقت الذي شأن الهواء أن يخلع فيه سَورة الحر (=اشتداده) يرد عليه المحرك الذي أفاده إياها، فتنحفظ لذلك سَورة الحر هنالك، لأن الشمس لا تبعد عن سمت رؤوسهم أكثر من ثلاثة أشهر.
إن هذا التوضيح من قبل ابن رشد عن طبيعة الإقليم الذي يقع تحت خط الاستواء، من حيث اشتداد الحر فيه، مما يولد معه فقدان أسباب الحضارة والعمارة لعدم وجود الناس فيه، لأنه حتى وإن وجد أناس فيه فلا يوجد ما يسد رمقهم من طعام لصعوبة الحصول عليه، فنقد أحد أهم شروط الاجتماع الإنساني المولد للمدنية والحضارية وهو شرط المأكل، ومثل ذلك يقول ابن رشد بأزاء الأقاليم الواقعة في الشمال من التي يكون فيها البرد على أقصاه لمدة أطول من السنة، متابعاً ما قاله أرسطو، ذلك أن مثل هذا الموضع لا يمكن أن يبقى فيه نبات ولا حيوان لأن قوام النبات والحيوان إنما هو بالفصول الأربعة، وهذه المواضع إن قدرنا فيها فصولاً موجودة كانت ثمانية، وهذا خلاف الأمر الطبيعي. (عليه) قد تبين صحة ما ذهب إليه أرسطو من أنه كما يوجد في جهة الشمال مواضع غير معمورة من البرد كذلك يلزم أن يكون الأمر في جهة الجنوب من الحر، وذلك لازم بالقول الكلي. 
ثم أن ابن رشد واستناداً لنظرية الأوساط الخلقية التي قال بها أرسطو في كتابه الأخلاق، نجده يوظفها هنا لخدمة مشروعه في الدفاع عن نظريته في أسباب وجود الاعتدال المناخي في الإقليمين الرابع والخامس (بلادنا =العراق، وما جاورها، شرقاً وغرباً، إلى بلاد الأندلس، بلد ابن رشد)، بخلاف الأقاليم الخمسة الأخرى التي لا يوجد فيها اعتدال، لوقوعها في أطراف متضادة إما حراً أو برداً، مستنداً إلى تفسير أرسطو في ذلك، ورابطا موضوع الحرارة والبرودة المناخيتان بالشمس حصراً، وهذا خلاف ما قاله ابن سينا وابن طفيل من قبل، حين أشار الأخير إلى أن الشمس ليست حارة بطبيعتها ولا باردة ولا كذلك الأرض، بل أن الحرارة والبرودة أنما تعود لطبيعة الأجسام من صقيلة أو كثيفة أو شفافة.
ومع ذلك نورد نص بن رشد لأهميته، فيقول: إذا كان سبب الجَمَد عندنا طبيعة الموضع البارد مع بعد الشمس، فواجب أن يكون سبب الحر وشدة اللهيب قرب الشمس، وطبيعة الموضع الحار، فإن قرب الشمس وبعدها إنما يظهر من أمره أنه سبب في ظهور أحد الضدين، وفي تساويهما، مع التعادل الموجود في أصل الأضداد وفي تساويهما، وهذا البرهان هو حق، وقد استعمل هذا الموضع أرسطو في أمكنة شتى، فأما ما يقوله غيره (=ابن سينا وابن طفيل) في ذلك فإنما هو عن توهم مطلق.
ومع ذلك، نجد ابن رشد يستمر في الدفاع عن رأيه في أنه حتى لو وجد سكن وعمارة في الإقليم الأول والثاني الشديدي الحرارة، إلا أن هذا السكن لربما يكون في المواضع المرتفعة أو المنخفضة في هذين الإقليمين، فضلاً عن أن سبب السكن يكون من قبل الهيولى (=المادة) لا من قبل الفاعل (=الشمس). ومثل ذلك ولكن على ضده يقال بصدد الإقليمين السادس والسابع الشديدي البرودة. ليضيف ابن رشد أسباب أخرى تساعد على شدة الحرارة أو البرودة أو الاعتدال، وهو ما قال به الفلاسفة العرب المسلمين قبله، وهي الكواكب الثابتة والأفلاك السماوية.
  ويلاحظ هنا مدى متابعة ابن رشد الشديدة لأرسطو حتى في المسائل الفلكية العلمية والجغرافية، التي عارضها فلاسفتنا العرب المسلمين وقدموا معطيات هي الأخرى علمية تجريبة استقرائية فيها مجال للصواب مقبول. إنها هيمنة الأستاذ (أرسطو) على المريد، وإن كان هذا المريد ابن رشد على نباهته وقوة حجته، فإن هذا الأخير لم يكن مثل علاقة أرسطو بأفلاطون، إذا قال أرسطو أفلاطون أستاذي والحق صديقي، ولكني أؤثر الحق على أستاذي. وبهذا يكون الفيلسوف الصوفي الكبير عبد الحق بن سبعين، في كتابه بُدّ العارف، على حق عندما قال: أن ابن رشد مفتون بأرسطو، ولو قال أرسطو القائم قاعد لقال ابن رشد مثله.
ومع ذلك تبقى التحليلات والتفسيرات التي قدمها ابن رشد مهمة للباحث الذي يدافع عن ظهور التفلسف من خلال أثر المناخ والبيئة والتربة على الإنسان، لأنه قد قدم معطيات جديدة في تفسير أسباب الحضارة والمدنية والثقافة تبعاً للمؤثرات المناخية البيئية، وأنه يميل إلى التفسير السببي العلمي لظهور التفلسف في الإقليمين الرابع والخامس، بخلاف بعض التفسيرات الميتافيزيقية الماورائية التي تفسر أسباب الحضارة والعمران من خلال أثر قوى خارجية دون النظر إلى إرادة الإنسان وفعله وقدراته على تغير المحيط الخاص به.
خاتمة بمثابة نقد 
ولربما سائلٍ يتساءل، ما قيمة هذه التقسيمات للأرض إلى أقاليم في زماننا هذا، وكأننا بعد أن أصبحنا قرية كونية صغيرة، نتواصل فيما بيننا بسرعة البرق وعبر وسائل الاتصالات المتعددة من حواسيب وبرامجيات وفضائيات، ووسائل اتصال أخرى التي يطلق عليها بثورة المعلومات، التي ينفتح فيها كل شيء أمام الإنسان، تخترق الآفاق بلمح البصر، لتتواصل بين الأمم والبشر وتعبر عن ما تريده بأي شكل وصورة ومادة، وتكيف ما تريده من طبيعة المناخ سواء أكان حاراً أم بارداً أم معتدلاً، على وفق أجهزة حديثة تعمل لذلك. حتى ليشعر الإنسان في أي أرض هو وفي أي مناخ كأنه في مناخ معتدل طوال السنة، حتى أن بعض الدول باتت تطلب أن يعمل لها مساحات من الثلج بعد أن مَلت وضجرت من طبيعة أرضها الصحراوية الحارة والجافة صيفاً، والباردة شتاءاً. مما يعني أن الإنسان أصبح ينتج أفكاره وقيمه على وفق ما يكيفه المناخ الصناعي لا الطبيعي الذي توفره الأجهزة المعدة لذلك. ولهذا لا نستبعد أن تظهر فلسفات وحكميات معاصرة وعلوم متطورة جداً، ومعايير قيمية وأخلاقية في أمم كانت تعتبر على وفق هذا التقسيم للجغرافيين العرب في العصر الوسيط، من أنهم أمم نائمة لا تنتج الفلسفة والحكمة والعلم. وتعيش في بحر الظلمات ونحن كنا في حينها من ينتج الفلسفة والحكمة والعلم في ذلك الزمان. في حين أن المعيار المناخي الذي بنى عليه الفلاسفة العرب المسلمين أحكامهم في ظهور التفلسف زمانهم وما قبله، فضلاً عن المكان الذي يعيشون فيه، لم ينتج تلك النصوص الفلسفية العربية الإسلامية راهناً، على الرغم من المناخ هو هو لم يتغير، بل بقي هذا الفكر الفلسفي العربي الحديث والمعاصر يردد مقولات الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة الآتية من الغرب النائم على وفق تقسيمات فلاسفتنا العرب المسلمين.
بمعنى أن المناخ لوحده لا يوفر فقط معطيات لإنتاج نص فلسفي أو ديني، من عدمه، بل لا بد من وجود عوامل أخرى تساعد في ذلك، وتنمي ظهور الفلسفات والحكميات، والعلوم على اختلافها.
ومع ذلك، تبقى هذه التفسيرات لأثر المناخ والبيئة الجغرافية على ظهور التفلسف، تحمل في طياتها إنجازاً فلسفياً وعلمياً مهماً قدمه فلاسفتنا العرب المسلمين للفلسفة والعلم العالميين، ولكن من منظور منفتح متفتح لا يميل إلى التعصب والانغلاق والتعالي على أقوام الأرض من الأقاليم الأخرى التي يفعل الحر فيها والبرد فعلهما السلبي على سكانهما.