ليس من السهل تجنيس وتأطير هذا الكتاب الصادر هذا العام 2013 بطبعته الاولى عن دار ومكتبة عدنان للطباعة والنشر ضمن خانة حقل ابداعي محدد طالماتتماهى فيه انماط متنوعة من اشكال الكتابة السردية. من هنا تأتي أهميته وخصوصيته في المنتوج الثقافي العراقي الحديث،فقد سعى الكاتب الى اجتراح نمطيته الفنية خارج إطار ماهو سائد ومتعارف وتقليدي في منظومة ثقافية تعوّدت على انساقٍ ابداعية واضحة وشاخصة لايداخلنا القلق ولاالغموض في معرفة هويتها الاجناسية،والتي عادة ماتتوزع على انماط الكتابة الروائية والقصصية والمقالة النقدية والقصيدة الشعرية بنمطيها الكلاسيكي والحر،وكذلك النص الشعري الحديث المنفتح على انشطاراته النثرية والمفتوحة .
كل هذه الاشكال الابداعية،التي تشكل روافد تقليدية لمنظومتنا الثقافية والنقدية،لاينتمي لها هذا الاصدار من حيث طبيعته الفنية /النصيّة،فقد تنحّى عنها الزيدي وهو يتصدى للكتابة عن ثنائية عالم ٍ يتقاسمهُ:الابن الشوارعي والابن البيتوتي.
هذا العالم ــ بما يشكله من ثراء وتنوع حيواتي ــ طالما استجابت له الكتابة الروائية والقصصية،ونهلت منه بما يحتمله من تقاطعات اجتماعية واقتصادية واخلاقية،لكن مجمل هذه الكتابات،بقيت اسيرة عتبة اساسية ومحورية،قوامها معالجات فنية لأجناس ابداعية اتت بهذا العالم الثنائي الى مشغلها الفني إلاّ أنها لم تخرج في معالجاتها عن مركزية المنظومات الثابتة والصارمة المعبِّرة عن شكلها وجوهرها الاجناسي فيما لو وضعت على مصطبة الفرز والتصنيف.
على هذا الاساس يأتي كتاب الزيدي ليفكك منظومة المهيمنات الفنية التي شكلت ذائقتنا النقدية،والتي تبرز بكل قسماتها،حالما نبدأ بقراءة المقدمة التي خطها الزيدي في الصفحة الاولى سعيا منه لأن تكون تمهيدا تأسيسيا لفرض منطقه ورؤيته لهذا العالم الثنائي،فكتب يقول:” بصراحة،هو صراع بين فريقين من الابناء،فريق يمثله الشوارعي،وآخر يمثله الابن البيتوتي، الشوارعي يفوز بحب الشارع والناس والجمهور ويصل الى سدة الحكم ،رغم علمه أنه أقل مرتبة من البيتوتي،لكنه فاز بحب الناس،وخسر البيتوتي الحب ..لم تعد الاخلاق حدا فاصلا في الاحكام بين هذا وذاك ..”
ثم يواصل خضير فليح الزيدي تأملاته التي أراد من خلالها الكشف عن طبيعة التحولات التي شهدها مفهوم ابن الشارع بعد أن تخلخل وتشهم النظام الاجتماعي،بفعل متغيرات عدة شهدتها منظومة الحياة العراقية “إن مفهوم ابن الشارع قد تعرض الى انعطافات خطيرة،بعد أن لاذ الغريب والمتسول والسارق تحت لافتة الشارع والاستحواذ عليه وطرد بنيه النُجب أوضمَّهم تحت لواء ابناء الشوارع،حتى قسّم الابناء الى طرفين متصارعين،فيما كان الطرف الآخر من الابناء هم ابناء البيوت والمدارس والكتب يتعثرون في اولويات بطون الكتب مستنبطين منها الاخلاق . ”
ولايفوت الزيدي ان يشير الى قراءته المغايرة لأبن الشارع من حيث المفهوم ليصل الى نتيجة تبتعد كثيرا عما كرَّسه المخيال الشعبي الذي يحدثنا عن ابن الشارع على أنه “المنتمي الى مجاميع ـ علنية التنظيم ـ الذين ليس لهم مأوى واضح يأون إليه آخر الليل .. ” ليصل الزيدي الى مايقصده بأبن الشارع في هذا السفر على أنهم “ليسوا أولئك المهمشين من صباغي الاحذية أو سراق الدجاج أو عمال الكراجات الكبيرة أو اللقطاء أو الهاربين من دور الايتام أو الشمامين الصغار أو الغرباء أو الشحاذين الصغارــ اولئك على رأسي من فوق ــ انما أقصد مجاميع سرية اخرى غيرهم ” .
وبما يتصل بهذا التمهيد الذي اقترحه علينا الكاتب في مقدمته التي اراد منها تأطير مفهوم أبن الشاعر، أنْ وضعنا أمام تقنين اجتماعي تصنيفي مترسب في المحيط السوسيوثقافي،أحاله الزيدي الى عناوين تقسّم المَتن الفضفاض الذي بَنى عليه مخطوطته،فجاءت على الشكل التالي(ابن ولاية،ابن شارع،ابن سوق،ابن مدينة،ابن ليل،ابن مدارس،ابن بيت،ابن عوز،ابن كراجات،ابن فنادق،ابن الحرب ابن الشارع،ابن دروب،ابن قطارات،ابن البوادي،ابن أمه،ابن محاكم،ابن شطوط،ابن بلاقلب،ابن كيف،ابن سجون) .
ويمكن أن نختتم قراءتنا لهذا الاصدار المفارق والمنسلخ عن ذخيرتنا الكلاسيكية القرائية بهذه الجملة التي جاءت في مقدمة الصفحات التي عنونها بأبن ولاية:”لاأعتقد إن القارىء سيُثني على ماأقول عندما أجازف في القول إن ذاكرتي التخيلية بوصفي(إبن ولاية)هي ذاكرة وقحة لاتصلح للحفظ ،رغم انها مشروع لأسطرة الواقع بمعنى إنها يوتوبيا ومثال لمكان منتخب،ذاكرة متخيلة تتبدد منها الوقائع بيسر وسهولة فهي مثقبة من جهات عدّة ومصابة بفايروس العفن المزمن،سريعة العطب والنسيان كصناعة صينية رديئة ..” .