23 ديسمبر، 2024 6:28 ص

إبن رشد وما يجري اليوم

إبن رشد وما يجري اليوم

شاع الفكر التكفيري وإتهام الناس بالزندقة منذ حرب صفين بداية بالخوارج والأباضية, ومن ثم بشكل أشد خطورة إبان الحكم العباسي. وقد رُميَّ بهذه التهمة كل المفكرين وخاصة من يؤمنون بضرورة توافق العقل مع الشريعة. وروي أن الخليفة العباسي الهادي قتل في بغداد وحدها خمسة آلاف فيلسوف بدعوى التكفير لإقتلاع ما سُمَّيَ بالعلوم العقلية. وفي هذا دلالة واضحة على العداء السافر للفكر الحر ,الذي لا يتبناه المتقولبون, وهم من ينكر على الناس التجديد,فيحتكرون حق الأجتهاد والتفسير,ويلغون حق الآخرين في ذلك, وإن كانوا على درجة عظيمة من العقل والحكمة .
نجح التكفيريون في تجنيد الشباب. بعد أن غسلوا أدمغتهم لمواجهة حالة التنوير والعلمانية في بلاد المسلمين, بعد أن شوهوا أمامهم الصورة الحقيقية للأسلام .
وقد نشط العديد من الفلاسفة والمفكرين العرب والمسلمين وسعوا بين حين وآخرلتطهير الفكر الأسلامي مما تعلق به من شعوذات وما تسرب اليه من أفكار واساطير عقائدية ورؤى تكفيرية .ليتماهى الأسلام مع المعتقد الألاهي المحمدي الذي صدح به القرآن. ونطق به الرسول الكريم وصحابته المنتجبين .وبهذا يتوائم الأسلام مع العلمانية ويتواصل مع الحضارة والعصرنة والتجدد الفكري المتوافق مع روح الأسلام وعقيدته السمحة, وبما تتطلع له الأنسانية . فقد تميز الأسلام بالسماحة والموعظة الحسنة لا بالسيف والعنف.كما جرى بالأمس البعيد والقريب. وما يجري اليوم على الساحة العربية والأسلامية ,حيث شاعت ثقافة التكفير وإدعى الكثير إمامة المسلمين أو إمارتهم وإشتغلوا السيف في رقاب العباد.
لقد أمر الأسلام بالشورى وقال الله تعالى: وشاورهم في الأمر وقال :وأمرهم شورى بينهم . ولم يأمر الأسلام بمصادرة الرأي بل قال الرسول الأعظم:إختلاف أمتي رحمة.أي إختلاف الرأي رحمة لا نقمة ولا مدعاة لقطع الرقاب أو الرمي في غياهب السجون.ولقد خاطب الله تعالى الرسول بقوله:لست عليهم بمسيطر.أي لا سيطرة لك أيها الرسول عليهم .وقال له أيضا:بالتي هي أحسن.فإذا كان الرسول لم يعطه الله حق السيطرة على الناس بالقوة وقال له جادلهم بالتي هيَّ أحسن فكيف يعطي البعض لنفسه هذا الحق ويكفروا الناس ويقطعوا رقابهم.لا بل إعتبروا من يذهب ضحايا غير مباشرة لأفعالهم إن هذا قدر الله عليهم.
ومن أبرز من نشط من الفلاسفة الداعين لتوافق العقل مع الشريعة إبن رشد.وهو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد 520-595 ه 1126-1198 م ويعرف في بلاد 
الغرب بإسمه اللاتيني أفريوس. ولد في قرطبة في الأندلس عُرف فيلسوفا وطبيبا وفقيها على المذهب المالكي وقاضي للقضاة .إشتهر بالفلسفة وترجم فلسفة ارسطو ولقد ترك اثرا كبيرا في الفلسفة الغربية وهومن أسس مذهب الفكر الحر.وهو أول من قال :لا تعارض ولا إختلاف بين الفلسفة والدين. وهو القائل :الحكمة صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة. وهو من إعتبر الدين عقللاً وليس غريزةً مستنداً الى إن الدين هو بالفطرة +العقل. وقال أيضا: العلم في الغربة وطن والجهل في الوطن غربة .والأقناع لا يأتي بالضرب والتخويف.وكان يرد على من يكفر الآخرين ويخطئهم: قال الشافعي رأيي صواب ولكنه يحتمل الخطأ ورأي غيري قد يكون خطأً ولكنه يحتمل الصواب. وهذه قمة الديمقراطية والقبول بالرأي الآخر لا الأقصاء والتهميش وتسفيه آراء الآخرين. ومن هنا بدأت الليبرالية والعلمانية.هذا ما دعى له إبن رشد قبل ألف سنة ولا زالت فلسفته تدرس في جامعات الغرب لهذه الساعة. ومنها ومن أفكار أرسطو وإبن خلدون شاعت نظرية الفكر الحر.فهل لنا من عبرة؟
من أهم كتب إبن رشد هو كتابه فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الأتصال. وهو من المصنفات الفقهية والكلامية. وقد أكد فيه على أهمية التفكير التحليلي كشرط أساسي لتفسير القرآن الكريم. أي تشغيل العقل وفق العصر والزمن. على النقيض من اللاهوت الأشعري التقليدي, حيث كان يتم التركيز بدرجة قليلة جدا على التفكير التحليلي. ولا يركز على المعرفة الواسعة من مصادر أخرى غير القرآن الكريم على سبيل المثال الحديث الشريف المؤكد والمسند حيث كانوا يعتمدون التفسير النصي أكثر من التفسير العقلي.وهنا يؤكد إبن رشد على وجوب التقريب العقلاني والمنطقي بين الحكمة ومقتضياتها والشريعة ونصوصها القابلة للتأويل.لا الألتزام بالنص دون تدبر.وليس من الدين بشيء محو الحكمة وإلغائها بدريعة وجود النص.فالنص يحمل أوجه عدة ويمكن تعدد التفسير والتأويل.وكما قيل إن القرآن حمال أوجه.
تعرف خليفة الموحدين بابن رشد فعينه قاضياَ للقضاة وطبيه الخاص ومربياً لأولاده. ولكن الحاسدين وطلاب السلطة والجاه أخذوا يدسون عليه. ويتهمونه بالكفر والزندقة ويسفهون أافكاره ويقللون من شانها  خاصةَ بعد أن عارض إبن رشد بعد 75 سنة الغزالي وفند آراءه التي طرحها بكتابه تهافت الفلاسفة. فكان كتاب إبن رشد تهافت التهافت ردا عنيفا على الفكر المعادي للعقلانية والحكمة والفلسفة وحداثة الأجتهاد وتماشيه مع العصر, وتسفيهاَ لآراء العزالي وفتواه بحرمانية بعض العلوم كالكيمياء, ومكروهية علوم أخرى.  تلك الفتاوى التي تسببت في غلق أبواب العلم وتاهت أمتنا من يومها في الظلام و الجهل, بينما واصل الغرب تبنيه أفكار إبن الرومي وإبن رشد. فوصل لما وصل له من علم وحضارة . ووصلنا الى قعر التخلف, بعد أن هجرنا بفضل الغزالي العلم والمعرفة.ورحنا نتفقه في التكفير ورمي الناس بالزندقة أو بال!!!!!!.
 نجح المتشددون والمتقولبون وتجار الدين في أن يوقعوا بين إبن رشد وبين
 الخليفة وأعلنوا كفره وأفتوا بحرق كتبه , كما فعلت الكنيسة حينها مع أعدائها الذين يخالفونها الرأي, ومع من يهتم بعلوم إبن رشد وفلسفته الداعية لربط الدين بالعقل, والدعوة لحرية الراي والفكر والعقيدة.وحرقت كتب إبن رشد ونُفي الى جزيرة أليسانة وحَرموا دراسة الفلسفة والعلوم إقتداءً بالغزالي الذي تسببت فتواه في تراجع العلوم والمعرفة عند العرب والمسلمين وضياع حضارتهم التي بنوها عقب قرون من الترجمة والأبداع العلمي والحضاري .
عرفت مدرسته بالمدرسة الرشدية وكانت تمهيداًا للمدرسة العلمانية الحديثة وهي التمهيد للأنتقال من الأساليب القديمة الى الأساليب  الحديثة وتغليب العقل والمنطق وتفسير النص تفسيرا عصريا دون المساس بالجوهر.
يقول إبن رشد إن معرفة الحقيقة نوعان الأول معرفة الحقيقة إستناداً على الدين المعتمد على الدين المعتمد على العقيدة وبالتالي لا يمكن إخضاعها للتمحيص والتدقيق والفهم الشامل.وهذا النوع من المعرفة يعتمد النص  دون تشغيل العقل. والمعرفة الثانية للحقيقة هيَّ الفلسفة والتي يهتم بها النخبويون الذين يمتلكون قدرة على التحليلات الفكرية العالية ومقتدرون على إجراء دراسات فلسفية جديدة.
والتاريخ يعيد نفسه اليوم فمن يتسلم سلطة اليوم يلغي الطرف الآخر المخالف له في الرأي دون وجه حق. ويقصيه ويلصق به التهم  من تكفير الى أو تهم أخرى في الجعبة كتهمة 4 إرهاب . فيزج أصحاب الفكر في السجون أو يُرَهّبوا ويُذَلوا ليهاجروا بلدانهم للمنافي.ليخلو الجو للمتسلطين .وكل من يأتي ينسف من قبله ولا يقرُّ حقا لمن بعده في رأي أو حق بقرار.يحجرون على كل فكر مخالف ويحرموه أو يجرموه أو يسفهوه .يحرمون حتى الرأي الآخر والفكر المعاكس.وقد نسوا مقولة إبن رشد إن للأفكار أجنحة تطير بها.وهذه بشرى إبن رشد منذ الف سنة بثورة الأتصالات وعدم تمكن الطغاة من حجب المعلومة والحقيقة والأفكار. فلماذا لم نتعلم الدرس  وغيرنا تعلم منا؟ لله في خلقه شؤون .