23 ديسمبر، 2024 5:26 ص

إبن خلدون وفوز ترمب في إنتخابات الرئاسة الامريكية

إبن خلدون وفوز ترمب في إنتخابات الرئاسة الامريكية

تتمحور فلسفة التاريخ في تفسيرها المسيرة البشرية على إتجاهين: الأول الذي يصور التاريخ بأنه حركة ديالكتيكية، فهي حركة متصاعدة حتى تصل الى غاية تطورها في مرحلة تنتهي فيها حركة التاريخ وجمود تطوره الإنساني.
والإتجاه الثاني هو تعاقب السنن بصورة دورية ومتواصلة بتوفر الظروف الموضوعية لنشوء الدول والإنظمة السياسية. ويعتبر ابن خلدون أكبر منظري هذا الإتجاه الذي فسر قيام وإنهيار الدول على مر التاريخ بصورة مشابهة للحياة البيولوجية للإنسان، فتبدأ حركة التاريخ للدول بالولادة اليافعة الذي تقوده جماعات غير متحضرة (ولكنها متماسكة بعصبيتها البدوية) ثم تصبح هذه الدول يافعة وقوية ترسي دعائم سلطتها وبناء مؤسساتها الحاكمة وأنظمتها، ثم تنمو الى مرحلة الإستقرار السياسي والرخاء الإقتصادي والإسترخاء الإجتماعي، وهذا ما يقودها الى الإنحلال والشيخوخة الذي ينتهي أبداً بالزوال الحتمي وقيام نظام جديد على إنقاضه تقوده جماعات بربرية متأزرة فيما بينها بعصبيتها الإجتماعية الهادرة. وهكذا دواليك. وقد حدد أبن خلدون عمر هذا الكيان السياسي بمقوماته الإجتماعية والإقتصادية بأربعة أجيال (أي حوالي 80 عاماً إذا ما أعتبرنا حالياً بأن عمر الجيل يقارب حوالي 20 عاماً).
الجمهورية الامريكية الحالية أسسها فرانكلين روزفلت في عام 1933 بعد إنهيار النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة نتيجة الكساد العظيم. فهذه الجمهورية هي ليست النظام الذي فكر به ونظر اليه قادة الثورة الامريكية ووضعو دستورها. فجمهورية روزفلت إتسمت بإدخال تعديلات جوهرية على النظام الأمريكي الإقتصادي والسياسي. فمن النظام الرأسمالي الكلاسيكي القح الذي لا يؤمن بتدخل الدولة في الحياة الإقتصادية، الى إطلاق يد الدولة في تغيير مسيرة الحياة الاقتصادية. ولهذا كان الرئيس الذي سبق روزفلت لم يأبه بالتدخل لإنقاذ النظام الإقتصادي الذي تسبب بإنهيار سوق الأسهم والكساد الإقتصادي في الإنتاج وإرتفاع نسبة التضخم وتسريح الملايين من العمال نتيجة توقف عجلة الإنتاج في المصانع والقطاع الزراعي. فالكساد العظيم حطم أسس الرأسمالية الكلاسيكية. فبراعة روزفلت تكمن بأنه لم يعتمد على السياسات المعهودة للنظام الرأسمالي، وإنما إعتمد على نظرية كينيز المغايرة تماماً للنظرية الرأسمالية الكلاسيكية، وأقتبس حينها الكثير من تجارب وبرامج الدول التي لايمكن وصفها بالمرة بأنها رأسمالية. فأستحدث برامج راديكالية كانت غريبة حينها وبعضها شاذة ولكنها أدت النتيجة المرجوة منها، وأوسعت بالتالي من صلاحيات الدولة وأعطتها الصلاحيات
اللازمة لضمان المصلحة الوطنية. فقد أوجد روزفلت نظاماً اقتصادياً وسياسياً فريداً، بناءه على حطام النظام القديم، ولم يكن استمراراً له. فأدخل الرئيس روزفلت نظام الضمان الإجتماعي (التقاعد) لجميع الطبقة العاملة في الولايات المتحدة، بالاضافة الى القيام بتدخل الدولة في مشاريع بناء البنية التحتية للإقتصاد بإستثمارات مباشرة، وكان أولها مشروع الكهربة بإيصال الطاقة الكهربائية لجميع المناطق وحتى القرى النائية، بالاضافة الى بناء السدود والجسور الكبرى والطرق بين الولايات ومشروع التشجير. في وقتها كان هذا التدخل الحكومي المباشر في الإقتصاد خروجاً عن الرأسمالية المؤلفة وعدَّ مشابهاً بالنظام الفاشي في إيطاليا، فحاربه الكونغرس وعطل الكثير من المشاريع والبرامج والتي منها تعيين الكثير من العاطلين في القطاع الحكومي.
إلا أن جمهورية روزفلت قد مر عليها ما يقارب من ثمانِ عقود، بمرور أربعة أجيال على جمهورية روزفلت (ما يقارب ثمانين عاماً – منذ عام 1933 الى 2016). وحسب النظرية الخلدونية، فهي تمر الآن في مرحلة الشيخوخة. فقد وصلت الجمهورية الى أوج عظمتها كدولة كبرى بعد سقود الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينات، واستفذت مقومات نشر ايديولوجيتها الديمقراطية الليبرالية من خلال إعلان الحرب على الإرهاب واتباع سياسة الردع الآحادي، هذا إضافة الى أنها فقدت هيمنتها على النظام الاقتصادي العالمي من خلال بروز اليابان وألمانيا ومن بعدها الصين والهند كمحركات إنتاجية عالمية منافسة للولايات المتحدة. فهي بهذا الإنكماش الإقتصادي والتدهور السياسي عالمياً سائرة نحو فقدان هيمنتها على النظام الرأسمالي العالمي.
فجمهورية روزفلت تمر بأزمات عصيبة. فهنالك الخواء الإيديولوجي الذي كان أساسه محاربة الشيوعية ليتأرجح فيما بعد عند بوش وزمرته من المحافظين-الجدد في “الحرب على الأرهاب”. وهذه السياسة أدخلت الولايات المتحدة في حروب (إفغانستان والعراق) وقيام داعش لتتجاوز تكاليف هذه الحروب أكثر من 3 ترليون دولار لحد الآن، والتي أوقفت عندها النمو الاقتصادي وفاقمت من الأزمة المالية. وتراكم هذه التناقضات في الوضع الإقتصادي والسياسي المتردي الحالي صاحبه إتساع الهوة والإنفصام بين الحزبين الحاكمين ليأخذ بعداً جغرافياً مترسخاً في الساحة السياسية بين ولايات تابعة للجمهورين في الوسط والجنوب وآخرى للديمقراطين في الشمال والغرب، وأصبح المجتمع شبه منقسماً بين المحافظين والليبراليين.
وكان من نتائج هذا الإستقطاب الإجتماعي الكبير فوز دونالد ترمب على منافسته هليري كلنتون في الإنتخابات الرئاسية ليصبح أول رئيس لم يخرج من النخب الفكرية والمالية
والاقتصادية المسيطرة على الوضع السياسي في الحكم. فمع أن كلنتون فازت بأغلبية الأصوات في الإنتخابات قبل يومين، ولكنها خسرت في عدد الولايات التي صوتت لصالح منافسها ترمب.
وفي مرحلة الإستقطاب الإجتماعي والسياسي هذه، ماذا سيكون دور الرئيس ترمب ؟
تكاد تكون الحقبة الحالية بحاجة الى سياسات أعمق وبرامج أوسع من شعارات تهييج الشارع السياسي وتصعيد الإحتقان الإجتماعي من أجل رأب التصدع الذي حل بكيان الولايات المتحدة كدولة عظمى حتى تستطيع فيها لملمة الجراح التي أصابتها نتيجة الصراعات العسكرية التي دخلت فيها، والتي أتصفت بأنها كلما أشعلت حرباً أطفأها الله وحلت بها هزيمة سياسية مغايرة لأهداف الحرب المعلنة. وهي أيضاً بحاجة الى هدنة لتهدئة الصراع في العديد من ساحات الصراع والحروب التي تجري بالوكالة في عدة أقاليم ومنها بحر الصين الجنوبي وكوريا، وفي شرق أوربا مع روسيا وفي الشرق الأوسط.
الحرب الدائرة للقضاء على الدولة الإسلامية (داعش) تكاد تكون الأسرع في إمكانية إنهائها، من خلال التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا، حتى يمكن إيقاف لهيبها في مناطق عدة في دول المسلمين. فالمرحلة الحالية تحتاج منحى علاقات دولية تقوم على أساس التعاون مع المجتمع الدولي في السيطرة على الأزمات الدولية الإقتصادية والكوارث البيئية، وهذه تحتاج الى استبدال سياسة الردع الآحادي للمحافظين الجدد بالدبلوماسية الفاعلة وبالتعاون مع الجميع (الحلفاء والفرقاء) والعمل كفريق متضامن ضمن المؤسسات الدولية. كما يحتاج العهد الجديد الى اعادة تركيبة النظام المالي والإقتصادي وإنتهاء عصر سياسة اليد المشلولة للدولة في مراقبة القطاع المالي، والتدخل الحكومي الفاعل في دفع عجلة النمو الإقتصادي. وعلى الصعيد الداخلي في الولايات المتحدة فإنها تحتاج الى رأب التصدع السياسي في امريكا بين الولايات الجمهورية والآخرى الديمقراطية، وإنهاء الفرقة الإجتماعية بين الأعراق والفئات الإثنية التي يتكون منها الشعب الأمريكي.
يطل دونالد ترمب في مرحلة تاريخية حرجة تتصف بتدهور الدولة العظمى ايديولوجياً وإقتصادياً وسياسياً، والظروف الموضوعية تتطلب بناء نظام جديد بأدوات وآليات مغايرة. فإن الرئيس ترمب إما أن يكون أخر من يحكم نظام انتهى أوانه، أو أن يكون أول رئيس لنظام مغاير تماماً عن سلفه. فقد رفع شعارات ووعد بسياسات غريبة وشاذة قد تكون غير عملية، ولكنها قد تعيد صياغة النظام الذي سوف يقوده في السنوات الأربع القادمة لتصبح الأساس أو البنية التحتية لمن بعده.
وبما أن دونالد ترمب بعيد عن النخب المالية والاقتصادية والإعلامية، وإنه ليس بمنزلة قادة الفكر والسياسية من أمثال الذين أقاموا جمهورية الولايات المتحدة، ولكن هذا الخواء هو الذي يصف فيه ابن خلدون صانعي الدول في التاريخ، فهو الطلائع التي تسعى للسيطرة على السلطة والحكم من خارج النخب الحاكمة لتصنع نظاماً مغايراً تماماً عن الذي سبقه ليبدأ عهد حكم جديد وولادة دولة تأخذ مجراها في حركة التاريخ.