23 ديسمبر، 2024 3:48 ص

في مطلع سنة 2008 التقيت السيد محمد ألتيجاني السماوي والذي أطلق عليه بناء على بحثه الدائم عن الحقيقة كنية ( المستبصر ) هو علامة من مدينة قفصه التونسية ورجل دين كان منغمسا بالطريقة الصوفية التيجانية والتي سمي على أثرها بالتيجاني ، ولأنه دائم البحث عن حقيقة الوجود وسره ، وعن نشوء الإسلام ورسالته المحمدية العظيمة ، وعن ما أعقب وفاة الرسول الأكرم ( ص ) من اختلافات ، ومتغيرات ، أنتجت لنا فرقاً وصراعات غيرت وجه الحقيقة ومنبعها وصبغت الروايات المتوارثة بصبغة سياسية خالصة في أغلب الأحيان ، فتلاطمت الأمواج بالأمة ، وأصبحنا هدفاً ولقمة سائغة للأعداء من كل حدب وصوب ، لاستخدام الإسلام في حالات معينة ، كوسيلة يركبها من يريد لتمرير ألاعيبه الدينية والسياسية تحت عباءته حتى يتجاوز مسافة أطول في أي مشروع يراد له أن يكون .

كان لقائي بالعلامة الكبير عرضياً ومن دون ترتيب في إحدى البلدان العربية ، وحينما عرف أنني من العراق ، أمسك يدي مطولاً وكان مصراً على إظهار جذوره العراقية المنحدرة من مدينة السماوة وسط جنوب العراق ، وكان يتكلم بشوق عن حبه للعراق والعراقيين من دون النظر أليهم من زاوية دينية أو طائفية ، بل كان يعتبر إن العراق فعلاً كما قالها الخليفة عمر بن الخطاب ( العراق جمجمة العرب ، ومنبع الأيمان ) .

وأثناء الحديث الشيق مع هذا العلامة المستبصر ، لمست من خلال مفردات كلامه حسرة واضحة ، فحاولت الوصول إلى منبع تلك الحسرة المخنوقة بصدره ، قال متحفظا أنه وفي مطلع زيارته الأولى للعراق بعد رحلة برية متعبة أختارها طوعاً أن يمر عبر الأراضي الليبية والمصرية والأردنية ، وعرج إلى سوريا ، ومن ثم للعراق ، فقام بزيارة النجف لتكون محطته الأولى كي يقف على حقيقة ما قرءه وسمعه وجمعه عبر سنين من البحث عن منبع الخلاف بين المسلمين كي يخرج بنتيجة عملية مبنية على التقصي المباشر وليس على أبحاث مكتوبة ، ولكنه تفاجئ حينما وجد بالنجف بعض رجال الدين والذين كانوا يتمتعون بشعبية مقبولة ، وكان لدى البعض منهم رسالات عملية يتداولها الناس ، قد كتبوا أو صرحوا من دون علم واضح ، نتيجة للخلفيات السياسية الخفية المرتبطين بها والتي لا تمكننهم من قول بعض الحقائق الواضحة ، فيضطرون إلى إهمال بعض الأمور الملحة أو تجاهلها ، بل أكثر من ذلك فإن البعض من هؤلاء قد سخر علمه ودينه في تحريف وصناعة أمور ليس لها من الأصل شيء .

وهذا ما جعله يرجع لبعض الروايات المنقولة عبر الرواة المعروفين والتي تقف وتنتهي في حقبة تاريخية معينة ، ولا يوجد أي سند تأريخي لما قبل نقطة التوقف تلك .

وكان هذا البعض يعمل بالمقارنة الدائمة بين التأريخ الأموي الذي أسس لروح القتل والانتقام والترويع ، وما حمله هذا التأريخ من تزوير حقيقي لمراحل عديدة من تأريخنا الإسلامي من أجل ضياع الحقيقة والإساءة لشخوص عظيمة ساهمت بنهضة الإسلام ورفعته ، ولكن أن يجد رجال دين قد تبنوا أحاديث وروايات مهمتها فقط مواجهة التأريخ الأموي المطعون بالعديد من

حقيقة وليس تثبيت الحقيقة ببراءة دينية شفافة ، كونها مسؤولية سيحاسب كاتبها أمام الله لأنه خدع العامة وظلل قناعاتهم .

يردف قائلاً لقد وجدت إبليس في النجف يتربص بديننا الحنيف ، مدفوعاً بدوافع سياسية واضحة من أجل تكريس أفكاراً ، قد ساهمت في يومنا هذا في ترسيخ الطائفية السياسية ، والتي أنتجت لنا طائفية اجتماعية مبنية على روايات وأفكار لا تخدم الوحدة الإسلامية بشيء والتي هي أساس الدين وعموده الفقري في استمرار قوته وتماسكه .

بعد عودته لتونس كان قد بدأ بكتابة مؤلفه الشهير ( ثم اهتديت ) وقام بإشهار توجهاته التي وصل أليها بمعرفة الحقيقة ، ولكن الحسرة ظلت مصاحبة له لأنه لمس وجود تيارات تعمل على استغلال الوضع الديني من خلال الاعتماد على بعض الحوادث التاريخية المعينة لصناعة روايات وأحاديث وبدع سيتم استثمارها فيما بعد .

اليوم نجد إن هؤلاء الذين أشار أليهم العلامة بحديثة في تلك السنة ، نجد نتائجها واضحة ، وممتدة من طهران إلى الرياض امتداد الضوء في عتمة الليل ، أصبح الأمر واضحاً وجلياً ، وإبليس يتنقل مرتاحاً يحرك مشاعر الناس ، ويتحكم ببعض تصرفاتهم ، يستغل ذوي العقول الفارغة كي يكمل سواده الأعظم بعدد التابعين ، ولكن الثمن سيدفعه أبناء البلد بوحدته بشبابه المقتولين يومياً على مذبح غير معروف ، بمعارك في وسط مدننا وحاراتنا ، المال مستنزف والجياع أصبح عددهم أكثر من ذي قبل ، والجهل قد وصل إلى مفاصل الدولة ووزاراتها الأساسية كالتعليم والصحة ، ولا يزال السياسيون يحجون قبل اتخاذ القرارات المصيرية لهذا الشعب المقهور إلى وجهاتهم المعهودة في فينطلقون إلى النجف ، وينتهون في طهران أو الرياض أو أنقره ، لأنهم لا يملكون قراراً مستقلاً عراقياً خالصاً ، لأن إبليس قد تمكن منهم ومن نفوسهم التي بنيت على الحرام .