شارعان في بغداد من لم يزرهما لم يعرف بغداد حتى ولو عاش في مدينة الشعراء والصوَر دهرا. والشارعان يحملان شاعرين عباسيين يمثلان علامتين بارزتين في ديوان العرب، هما شارع أبي نواس –لا يُكتب بهمزة على الواو- (شاعر العصر العباسي الأول)، والثاني شارع المتنبي (شاعر العصر العباسي الثاني). ورغم أن الشارعين متفاوتان ومتباعدان نسبيا بيد إنهما يمثلان وجهي العراق الحضاري كل على طريقته! فأما الأول فهو محاذ لدجلة (كورنيش) يبدأ من الباب الشرقي وينتهي بالكرادة، متنفس بغداد خاصة في ليالي الصيف الحارة حيث يهب النسيم رخاء من دجلة مما يلطف جو المدينة، ويضفي على الشارع العريض ذي الحدائق والتماثيل والمشارب والمقاصف سحرا وجاذبية، تجعله شارعا مستقبلا لكل الناس ولمختلف الأعمار ومن الجنسين ولمختلف الغايات من عشاق سمك المسقوف الى مرتادي المقاصف والمشارب حيث أحاديث الشعر والنقاشات السياسية تؤججها الكؤوس المترعات من كل الأنواع! ولأجل هذه المقاصف والمشارب، استهدِف الشارعُ من قبل القوى الظلامية المتلفعة برداء الدين، مما ينذر بتحويله الى جثة هامدة!
في عام 1931 كلّف الأستاذ العلامة طه الراوي – من لم يعرف طه الراوي فليراجع كتاب “أساتذتي” للدكتور الراحل علي جواد الطاهر- في أن يختار أسماء مشاهير الأعلام لتُسمّى بها أسماء بعض الشوارع، وهكذا اختار اسم شارع السموأل للشارع الأول من ساحة الميدان المتفرع من شارع الرشيد عند مقهى الزهاوي،وهو أقدم شارع في الرصافة، واختار اسم شارع المتنبي للشارع الثاني غير بعيد عن مقهى حسن عجمي وبالقرب من مقهى البرلمان وكلا المقهيان يمثلان مكانين لأدباء وصحقيي العراق ولعبا دورا مهما في الحياة الثقافية والسياسية!!
يعتبر هذا الشارع من أقدم الشوارع المتخصصة بالوراقة ونسخ الكتب وبيعها منذ أواخر العصر العباسي وظل هذا الشارع محلا لبيع الكتب والقرطاسية مؤكدا المقولة المعروفة: القاهرة تؤلف، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ! فلا غرابة إذن تحتل أكبر مكتبة في العالم العربي مكانتها السامقة في هذا الشارع أقصد مكتبة المثنى للشخصية المرموقة قاسم محمد الرجب، شقيق خبير المقام العراقي هاشم محمد الرجب، ومكتبة البيان للأديب علي الخاقاني صاحب موسوعة شعراء الغري، ومكتبة الشاعر صادق القاموسي والمكتبة العصرية، ومكتبة الشطري للمناضل المعروف نعيم الشطري الذي رحل مأسوفا عليه قبل عدة أشهر،،،ومكتبات أخرى..
استهدف الشارع من قبل إرهابيين ظلاميين عدة مرات، كان أخطرها التفجير الذي استهدف المكتبة العصرية، يوم 5 مارس2007 والتي دمرها كاملة وهي أقدم مكتبة تأسست عام 1908، وأتى على مقهى الشابندر ملتقى الشعراء الفنانين والصحفيين…ذهب ضحية الحادث هذا أكثر من ثلاثين متسوقا أو مارا، واصيب بجراح اضعافهم، وقد تبرعت بعض المنظمات الحرة لإعمار هذا الشارع ليستأنف نشاطه من جديد. يتحول هذا السوق أيام الجُمَع الى معرض مفتوح للكتب حيث يفترش الأرصفةَ والبسطيات الخشبية الباعة، وتظهر الكتب بكل أنواعها لاسيما الفكرية والأدبية من كل الانواع والتي يغلب عليها الطابع اليساري، فقد بقي هذا الشارع يحتوي على كنوز الثقافة العراقية والعربية والعالمية، ورغم التشديد والرقابة على المطبوعات الماركسية في العصور الديكتاتورية المتلاحقة ظل هذا الشارع يجهز القراء بما يحتاجون ويستنسخ النسخ الفريدة المهربة ويبيعها للمقتنين! حتى أن بعض مكتباته تحتوي على مخطوطات نادرة!
ولم يكن الهجوم يأتي من التكفيريين وحدهم بل من القوى الظلامية والمتزمتة بالسلطة الحاكمة، حيث تقوم قوى الأمن والشرطة بشن حملات على النوادي الإجتماعية العريقة كما حصل قبل أسبوع حيث هاجمت النوادي ومرتاديها وكسرت المحلات واعتدت على الرواد باسلوب همجي ضاربة التشريعات الدستورية التي تضمن الحريات عرض الحائط، ولم يترددوا من سرقة الأموال واقتحموا اتحاد الإداب مما أثار استياء شديدا، وقد هددوا بالغاء كل المحلات وغلق شارع أبي نواس، وبل تعالت أصوات من الحكومة تهدد بتشريع قوانين مشددة وخانقة للحريات، وقد رافق ذلك ممارسات تمنع النساء السافرات من دخول مدينة الكاظمية! مما يشكل سابقة خطيرة وخرقا فاضحا للدستور..
وما حدث عصر الثلاثاء 17-9 في شارع المتنبي من جرف المناضد والبسطيات بالجرّافات وخلع المظلات الصادة للشمس وتحطيمها لا يكون الا امتداد وامعانا لهذه الهجمة الممنهجة والمدعومة من أوساط في مجلس محافظة بغداد سببه الخوف من الثقافة ومن تجمع المثقفين ويعبر عن روح العداء لكل ما لا يتفق مع النهج الظلامي المتزمت، مما أثار استياء الشارع العراقي، ففي الوقت الذي يصل فيه الفساد وانفلات الأمن الى مديات خطيرة جعلت منزلة العراق في الحضيض، وفي الوقت الذي لا تزال التفجيرات تنال الابرياء من الشعب، والكواتم تطال الناس، نجد قوات الأمن والشرطة لم تجد ما تعمله سوى ممارسات سلبية وتضييق لحريات الناس، والعذر كما يقول المثل البغدادي أنجس من الفعل “هو المحافظة على النظام” ! بينما تترك المشاكل الأخطر تطال الناس في حياتهم وأرزاقهم وحرياتهم..
لا شك أن القاريء ينتظر حكاية ابراهيم الكهربائي وعلاقتها بالمتنبي، وفي الحقيقة ترددت كثيرا في ذكرها وبقيت أغالب حيائي، ولكونها تنطوي على مفارقة خطيرة تمس الواقع البائس وترسم ابتسامة مرة أرويها وهي شائعة في مصر وتنطوي على معالجة سياسية ساخرة وعلى خفة ظل معهودة لدي الأخوة المصريين حيث لاتفوتهم النكته في اقسى الظروف!
يحكى أن رجلا في قرية انشغل عن زوجته وأدار ظهره لها وللدنيا مغاليا في التدين، فكونت علاقة جانبية مع شخص يحب الدنيا مثلها يدعى إبراهيم الكهربائي فاصبح يزورها بغياب زوجها خاصة في أيام الجُمَع،حيث يكون الزوج في الجامع، فطفح الكيل وشاع الخبر مما جعل البعض يأتي الزوج ملوحا له بالقصة والرجل لا يفهم حتى قال له بالمكشوف: بأن أبراهيم الكهربائي يزور زوجتك بغيابك، ولا بد ان تعالج خطورة المسألة وتضع حدا للفضائح، فما كان من الزوج إلا وأن يجيب: إبراهيم ده مش كهربائي أصلا ولا يفهم بالكهربا حاجة!!!!