22 نوفمبر، 2024 10:35 م
Search
Close this search box.

إبراهيم العاتي يولد ثلاث ولادات

إبراهيم العاتي يولد ثلاث ولادات

بيئةُ النجف الأشرف مشبعة بعبق الرسالة ونكهة التاريخ، لا يتوقف ميراثُها الرمزي عند ضريح أمير المؤمنين (ع)، بل يرحلُ زمانياً في أعماق الماضي، ليستوعبَ حياةً روحيةً وأرشيفات تاريخية رابضة في عشرات الأديرة وبيوت العبادة واللاهوت.
وبموازاة ذلك تكتنز النجفُ مدرسةً دينيةً عريقةً للتشيع، تتسع للحديث والتفسير والكلام والفقه وأصوله، وفي فترات ضمورها لا تعدم حضورَ التصوف والحياة الروحية. وطالما اقترنتْ هذه المعارفُ بالأدب، حتى أضحى الشعرُ وعاءً يستوعب الفقهَ والمنطق والفلسفة، والنحوَ وعلوم اللغة، وآدابَ الدارس والمدرس.
حين يولد شخصٌ موهوب في هذه البيئة الشديدة الثراء والتنوع، يمتلك قدرات وطاقات اضافية، تهبه النجاحَ و التميز، بينما يفتقر الى تلك القدرات والطاقات أولئك الذين يولدون في بيئة فقيرة روحياً ورمزياً ومادياً، كما أنا، فقد وُلدت في قرية بأرض يباب، على تخوم صحراء ليس فيها سوى تلال حضارة سومر الموحشة اليوم.
ولد إبراهيم العاتي ونشأ وتعلم في مدارس النجف، ولبث فيها حتى أكمل المرحلةَ الثانوية، فتشبع بمناخات التراث، وشرب من منابع الأدب والشعر، فقد كانت النجفُ حتى وقت قريب من أهم الحواضر التي لم تنطفئ فيها جذوةُ المتنبي الأدبية، ولم تجف ينابيعُ حكمته الشعرية، إذ تجلت بأبلغ وأكثف صورها مع متنبي العصر محمد مهدي الجواهري.
لم يشأ العاتي أن يعتمرَ العمامةَ، أو ينخرطَ في الحوزة ليرثَ أباه، بل طفقت روحُه تبحث عن النور في آفاق جديدة. لم يرتهن عقلُه بالتراث الذي تشبعت به بيئةُ النجف، ولم تغرقه شاعريتُه في إغواءِ شاعرية الجواهري، وإرثِ مدرسة المتنبي، مثلما غرق في اغوائها كثيرٌ من الموهوبين، ولم يغادر مداراتِها حتى استهلكت مواهبَه وسرقت حياتَه.
كان عقلُ العاتي المولع بالنور، وروحُه المتيمة بإيقاظ الضوء في العالم، وقلبُه الذي ينبض بموسيقى الجمال، كلها تهتف به أنْ يتوطنَ الفلسفةَ والعلومَ الانسانية الجديدة، والتي كانت ميعاداً لولادته الثانية في جامعة دمشق، في الفلسفة اكتشف ابراهيمُ أنهاراً بلا ضفاف، وآفاقاً بلا نهايات، وتفكيراً بلا حدود، وعقلاً بلا قيود، لكن العاتي لم يهجر ميراثَه أو يهجوه أو يقف منه مواقف موتورة، وانما حمل معه ما اصطفاه من جمائل النجف وألقها ونكهة منتدياتها الأدبية. وتخصبت ذاكرةُ النجف بلقاء العاتي الشاعر الرؤيوي أحمد الصافي النجفي، الذي أصبح تلميذَه سنوات إقامته في الشام، وهو شاعر وحكيم ذو فرادة، وشخصية غرائبية، يستفيق فيها عمرُ الخيام في تأمله الفلسفي وأسئلته المشاغبة، وتتفجر فيها شاعريةُ الشعراء الملهمين لحكمة العالم، والبارعين برسم الصور المجهولة في كهوف الحياة والسجون. وتحضر في شخصية الصافي النجفي قوةُ إرادة الرهبان والمتصوفة، وكفافُهم في العيش، وزهدُهم بكل متع الحياة ولذاتها الحسية ومباهجها المادية.
لم يكن الصافي النجفي شاعراً يكرّر سواه في أدبه أو عيشه، بل كان فريداً فرادة القديسين في تجاربهم الروحية، والملهمين الكبار للعبقرية. يحسبه البعض صعلوكاً لكنه لم يكن صعلوكاً، ويحسبه آخر متصوفاً لكنه لم يكن متصوفاً، ويحسبه ثالث حكيماً لكنه لم يكن حكيماً، ويحسبه رابع متمرداً لكنه لم يكن متمرداً، ويحسبه خامس ثائراً لكنه لم يكن ثائراً، ويحسبه سادس وسابع وثامن… كلٌّ حسب البعد الذي كان يتجلى له في عينيه، والعدسة التي كان يراه من خلالها. لقد كان الصافي النجفي كلَّ هذه الصفات المؤتلفة والمختلفة معاً، تتناغم كلُّها في إيقاع تتشكل فيه كملحمة اغريقية. وشخصيات استثنائية كهذه نادرة الوجود في الأرض، وهي تمتلك طاقةً سحرية ملهمة، تشعّ على كل من يدنو منها ويتعرف عليها، فكيف بمن يصاحبها ويدمن معاشرتَها ويتلمذ عليها عدة سنوات.
ظفر العاتي بصحبة الصافي النجفي والتلمذة عليه في سنواته الشامية، وعايشه بثقة وهدوء وتأمل، كثقة الصافي النجفي الراسخة بنفسه وهدوئه وتأمله العميق، وكتب العاتي أماليَه وشجونَ أيامه وسكراتها ومراراتها في كتاب مهم أصدره قبل سنوات.
في القاهرة كانت الولادةُ الثالثة للعاتي، حيث كان ميعادُه مع الدرس الفلسفي المصري، يوم كانت الفلسفةُ الغربية تتحدث عربيةً فصيحة فلسفياً في جامعات القاهرة والأسكندرية وعين شمس، وشدّته جذورُه الغاطسة في التراث إلى أن يستفيقَ في ضميره منجزُ الفلاسفة المسلمين في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، ولعلي لو كنت مكانه وقتئذ لذهبت مع فلسفة الغرب الحديثة والمعاصرة، وتعلمت طرائقَ تفكيرهم الذي نسخ معظم القديم وعبره، وحررهم من سجون الماضي، لأكتشفَ أثرَ الفلسفة في تشكُّل العقل الغربي الحديث، وإخراج الغرب من دروب التيه، كما فعل عبدالرحمن بدوي الذي تعرفنا عبر مجموعته عن كانط على منجز فيلسوف التنوير، وفؤاد زكريا الذي تعلمنا منه كيف تُكتب الفلسفةُ بلغة الصحافة، من دون أن تفقد عمقَها ودقتَها، وزكي نجيب محمود الذي صاغ خرائطَ أدبية للفلسفة، ربما تحاكي ما كتبه ميخائيل نعيمة الذي يستخلص فلسفتَه من دروس الحياة، وخبرته الروحية من الطبيعة الفاتنة في بلدته الجميلة في سهول جبال الأرز.
لكن مغامرةَ العاتي في العودة للتراث الفلسفي تستحق التبجيلَ والثناء، لأنه أصرّ على الحراثة في أرض لم يحرثها أحدٌ قبله، فاختارَ أن يلتقط لنا شذراتِ “الزمان” من منجم التراث الفلسفي الواسع، ويصوغها على شكل قلادة، كأنّ شذراتِها أحجارُ ياقوت مضيئة، وكأن إبراهيمَ عثر لنا على “حجر الفلاسفة”، الذي شغفوا به، وما لبثوا يفتشون عنه قروناً طويلة دون أن يعثروا عليه. كما اكتشف العاتي الإنسانَ الغائب في مدونة المتكلمين والفقهاء، فوجده بكامل ملامحه وصفاته في فلسفة الفارابي.
السلام على الصديق الاستاذ الدكتور إبراهيم العاتي، الذي أولده التراثُ النجفي، وأولدته دمشقُ للمرة الثانية، بوصفها أعرق مدينة في التاريخ، وأطيافُ الصافي النجفي وشخصيتُه الغرائبية التي تقترب في تجاربها وملامحها من أبطال الملاحم والأساطير، وأولدته قاهرةُ الفاطميين للمرة الثالثة، في الأيام الأخيرة لحضور وهج الدرس الفلسفي فيها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* القيت في الاحتفالية التي أقامتها مؤسسة الحوار الانساني في لندن للدكتور إبراهيم العاتي، يوم الأربعاء 17-5-2017.
نقلا عن المدى

أحدث المقالات