23 ديسمبر، 2024 8:09 ص

إبراهيم الخياط وأستباق الرحيل 

إبراهيم الخياط وأستباق الرحيل 

(في هذا المقال سأذهب الى ما هو أبعد مما كتبه الشاعر ابراهيم الخياط، وبإفتراضات ومديات أحسبها لا تخرج كثيرا عمّا كان يجول بخاطره).

 1ــ قُبيل الخطوة اﻷولى

تغفو على اكتاف نهرين حانيين. حين يدخلها زائرها ومن أية جهة يشاء، سيفاجئ ومن  مسافات بعيدة لا تدركها العين برائحة الإقحوان والنعنع البري. ستتدلى من بين سياجات منازلها قناديل من البرتقال الندي ومن ثمرات أُخَرْ حباها الله بالحب وبما هو أطيب. ستدفعك الرغبة بقطف إحدى الثمرات الناضجات، غير ان من يشاركك المشي سيقول لك تمهَّل فَكَرمُ المدينة أسخى مما تظن والخير قادم، فما بيننا والمبتغى بضع دقائق.ستأتيك من بين  فيء كرمات أعنابها صوت إرتطام أقداح الشاي ببعضها البعض، مشفوعة بنسيم عليل وأحاديث يصعب تمييزها، حينها ستتذكر إنْ نسيت انكَ في إحدى ساعات النهار، انها ساعة العصر أو بعدها بقليل. أمّا مساءات تلك المدينة فكم هي مباركة، جميلة، وكم ستبدو أبهى لو صادف زائرها تلك الباقة من العاشقين والعاشقات وهم يتجولون شوارعها بخفة وزهو.

من بين أحد الأزقة الواقعة قبالة أقدم قنطرة عرفتها مدينته، سيخرج حسين مردان ذات مساء وهو في عجالة من أمره، حاملا بيده اليسرى مسودة ديوان شعره اﻷول (قصائد عارية)، مُطبقهُ بقوة على جهة القلب، لَمَ لا وهو ابنه البكر. وفي اليمنى حقيبة سفر صغيرة كاد أن يتخلى عنها لولا إلحاح شقيقته الصغرى. عندما سُئِلَ الشاعر عن وجهته ردَّ قائلا: الى عاصمة النور واﻷلق وحوار الندامى ومقابر المتصوفة، فالمساحات  هناك أوسع لممارسة طقوس التمرد، وهناك أيضا سيكون الباب مفتوحا للبوح ولقول ما لا يمكن قوله. أباه لم يستوعب وعلى نحو كاف ما جاء على لسان ولده، فتركه يختار وجهته، ظناً منه بأن غيابه سوف لن يطول أكثر من يومين أو ثلاثة ليعود بعدها نادما، غير ان اﻷمر لم يأتِ كما شاء أباه، فمنذ ذاك التأريخ ما عاد ابن مردان الى مدينته الاّ بعد أن فقدَ جواز سفره وكل متعلقاته في اسطنبول، وذلك أثناء إحدى جولات تسكعه المحببة اليه، طالبا من مختار محلته القديمة وبشهادة إثنين من العدول إستخراج هوية أحوال مدنية جديدة، فكان له ما أراد.

هنا راح متسائلا أحد سكان محلته القديمة ممن لم يسبق له أن التقاه: مَنْ يكون هذا الذي تسمونه إبن مردان؟ في لحظة كهذه ما كان لعارفيه الاّ القول: هو الغائب العائد الى مدينته التي عاش فيها ردحا هانئا من الزمن، وهو القائل في قصيدته المسماة زرع الموت:

إبليس والكأس والماخور أصحابي

نذرت للشبق المحموم أعصابي

من كلِّ ريانة الثديين ضامرة

تجيد فهم الهوى بالظفر والناب

وقع السياط على أردافها نغم

يفجر الهول من أعراقها السود

تكاد ترتجف الجدران صارخة

إذا تعرت أهذا الجسم للدود

كم هي ماجنة هذه القصيدة علَّق ذلك الـ(أحدهم)، لكن لم يلتفت اليه أحد.صفحة كهذه والتي قرأها في كتاب شعراء مدينته، لم يركنها جانبا أو يطويها ابراهيم الخياط على عجل حين اختار من الشعر ناصية ومبتغى له، بل ظلَّ حافظها في ذاكرته، راجعا اليها كلما إستفزه ملكوت الشعر والرغبة بقراءة حلو الكلام وإستحضار نشوة النص وما سيتبعه من تسامٍ، في ذات الوقت سيجد نفسه أمام إمتحان عسير: كيف لي أن أحاكي شاعرية كالتي أنف ذكرها؟

 ما فات كان الدرس اﻷول الذي سيتوقف صاحبنا عنده طويلا وما سيستخلصه أيضا من فائدة وجدوى. أمّا الثاني فكان مع الشاعر البعقوبي اﻵخر هادي الربيعي الذي إتخذ في سنواته اﻷخيرة من مدينة كربلاء بجوها الروحاني مستقرا جديدا له، بعدما ضاقت به اﻷرض بما رحبت. فعنه يقول ابراهيم الخياط: لَكَمْ حلمتُ التعرف عليه ﻷقرأ بحضرته ما خطَّته يديَّ شعرا، طبعا هنا يتحدث ابراهيم عن بدايات مشواره الأدبي، والسؤال سيأتيك: هل تحققت أمنيته تلك؟ لست متأكدا من ذلك حتى اللحظة. لكن وهنا ستقع المفاجئة، فما هي الاّ بضع سنين وربما بلغت العشرة وإذا بهما يلتقيان في إحدى اﻷماسي الثقافية. لقاءهما كان عاصفا، فاق حدود الخيال والتصور، بل بلغ ما هو أبعد، وكان لهما أن يستحوذا على أجواءها (اﻷمسية) بتألق مريح.

إبتدأ إبراهيم بقراءة ما يحلو له وبحضرة أحد شعرائه المفضلين، محققا بذلك أمنيته ورغبته التي طال إنتظارها. ثم تلى ذلك أن وقف الربيعي هادي ليشدو على مسامع الحاضرين ما طاب له ولهم من الشعر، انها قصيدة: يوما ما

                        يوما ما

                     سأنام عميقا

                 وسأحلم اني كنت .. أنا

                أطلق صرخاتي كيف أشاء

               وسأعدو فوق حدود اﻷرض

                      منتشيا بسعادة قلبي 

              وأنا أرفع فوق حواجزها الشوكية 

                         رايتي البيضاء

                             يوما ما

                          سأنام عميقا

                            وتنام معي

                         هذياناتي الحمقاء

 القِدرْ لا يستوي ولا يثبت على إثنين كما تقول العرب، فلا بد والحال كذلك من حجر آخر يستعين به ابراهيم الخياط. هنا وفي لحظة كهذه سيبرز دور الشاعر الشهيد خليل المعاضيدي ليكون كما ثالثة اﻷثافي الذي سيرتكز عليه ويستعين به لمواصلة مسيرته ودونه إختلال التوازن. لذا راح ابراهيم متلمسا ذات الدرب الذي سار عليه الشاعر الراحل، حتى بات عنده من الرصيد ما يمكن عدَّهُ خزينا ومنهلا سيعود اليه عند إقتضاء الحال، فأينما حلَّ أو حاول صياغة بيت من الشعر، الاّ وكانت قصائد المعاضيدي حاضرة في مخيلته. وإذا شئنا التذكير بإحداها فستبرز وبقوة تلك القصيدة المسماة كان موسما للكآبة، ولا بأس في مناسبة كهذه من التوقف على أحد مقاطعها: 

هنا موسم للكآبة والوحل

باركه الفقر في ألفة الدمع،

يعتاده الفقراء المباعون في صعقة الشاي،

علَّ النساء النحيفات يُفصحنَ عن هاجس،

ها هنا موعد للنواح الجنوبي،

ما بين عينيك سيدتي فارس أعزب

وصديق أباح اشتباك الهواجس، 

في شهقة العشب مبتهجا

يستضيف التقوّل عند إشتداد 

الفطور المرابط

2ــ جمهورية البرتقال

 المهمة ليست سهلة إذن يا إبراهيم، فها انك قد أمسيت أمام إشتراطات سنّها كتاب الشعر وسدنته والحافظون على عهده. وقصيدة الشعر الحر كما تعرف ليست بتلك الخفة والطوع، فهي أيضا محكومة بالتفعيلة والقافية واﻷهم من ذلك بجمال صورتها وكيف ستُحَلِّقْ معها، ولنتذكر سوية تلك الأسس والقواعد التي أرساها وتربَّعَ على عرشها حسين مردان ومَنْ هو بقامته ومَنْ أتى من بعده .

جمهورية البرتقال، هذا هو إسم ديوانه اﻷول ولم يَرِدْ أن يكون اﻷخير، غير أنَّ للأقدار كلمتها وأحكامها. أودعه وأهداه الى بعض من أصدقاءه قبيل رحيله بسنوات قليلة، كانت الغربة الإضطرارية قد غيبتهم لعقود عدة. ربما وجد ابراهيم في تلك النخبة مَنْ كان يعدَّهم أكثر وفاءاً ومقدرة على المسك بالعهد، أوفياء له. وربما أيضاً ضاقت به دائرة علاقاته في وطنه المحتل، فراح يستذكر ما فات من الصداقات، فتجده وبنحت لغوي رائع، صارخاً:

                    أخالل مَنْ؟

              في طاقة للأبابيل المحنطة

             ما جاءها الكناري المستهام 

                ولا السنونوة الرغيبة

          ولا جاء الحمام الذي ـ كمثلي ـ أنَّ 

انه سؤال كبير حقاً وينم عن وجع وحسرة ظلاّ برفقته حتى آخر لحظات حياته، فاﻷحبة كلهم ذهبوا وتشتت الجمع، وأقْفِرَتْ الدار بعد أن غادرتها طيور الحبارى. وهديل الحمام البري ما عادَ يُسمع عند نافذة البيت، كذلك زقزقة العصافير التي عادة ما تذكره بأخذ قسط من الراحة بعد منتصف الظهيرة، كانت قد اختفت هي اﻷخرى، حتى البساتين ما عادت ملجأ للطيور ولا ملجأ للغناء ولا ملاذا للتخفي حين تضيق الطرق.

ربما يمكن للشاعر أن يستوعب ما فات من ألمٍ وينام عليه على مضض، الاّ ان هناك جرحا ظلَّ ينزف ما دام حيّا، انها أنثاه. هي ليست كما النساء اﻷخريات، انها جمهورية البرتقال ، هكذا أسماها وأشتق منها إسم ديوانه وفيها يتحدث عن نفسه وعن تجربته في العشق:

                 إنتكس القلب مرة 

               وإنتكس النهر مرات

           فلم يبقَ لقلبي سوى ظل أنثى

في هذا المقطع تحديدا ربما يكون ابراهيم بل أكاد أجزم قد إستحضر زوجته التي رحلت غدرا. ثم يعود ليكمل فكرته أو ما أراد إيصاله وفي ذات القصيدة، ليستذكر نهر مدينته، عاقدا بينه (النهر) وزوجته نوعا من الصلة المحببة، فكلاهما اﻷقرب اليه وكلاهما كان قد فقدهما وإن  بإختلاف الطرق. ثم سيتبعها بشطر آخر، سيعزز من رفضه واحتجاجه على مَنْ بقي بعد رحيل اﻷحبة:

         ولم يبق لنهرنا الشقي 

     سوى حثالة اﻷهل المتسربين

 وعلى ذات السياق وﻷنه لم يُشبع بعد رغبته في التخلص من تلك اﻷوجاع، فستجده في قصيدته المسماة مَدمي الشباب، وقد أوغل في وصف عذابته، مستعرضا تلك اﻷماكن الموحشة التي صادرت حلمه وصادرت صداقاته، وفي بعضها وجد فيها مهربا وخلاصا وملاذا:

     في زوايا المخافر والمدافن والحانات

             وعند إنقلاب الحرائق

                  أحاور الجثث

 لكن ورغم عتمة الصورة وإنعدام الرؤية، فسيظل هناك بصيص أمل وكوة من النور:

          أخبئ القمر المستور في لفافة الرمل

         ألتصق بالمذياع إلتصاق الجمرة بالجمرة

في السطر اﻷخير اﻵنف، فإبراهيم لا زال منتظرا بزوغ الفجر وساعة الخلاص وإذاعة بيان الحب والذي سيحمل رقم واحد في قاموس العاشقين. وعند ذاك سيعود للغناء من جديد، ويعود الى لقاء مَنْ افتقدهم، وسيتحول مقام المدمي الحزين الى اغنية للفرح والسعادة.

3ــ الرحلة اﻷخيرة

الطيور الراقصة، المحلقة عاليا في السماوات السبعة لا ينبغي صيدها فهي الوديعة والصديقة والحانية، وأكاد أجزم بأني كنت من الداعين الى التآلف معها، بل كلانا كان على موعد مع ذلك السرب لنحلق معا، حتى سألتني في ذلك اليوم يا إبراهيم: ما رأيك لو نحط كما الطير على إحدى قناطر المدينة، فقلتُ لك لا بأس فالندامى لا زالوا هناك ينتظرون وحانة الخمر ليست بالبعيدة، غير انك ترددت في اللحظة اﻷخيرة وأظنك كنت على صواب، فعسس الليل هم ذات العسس، والبطش واحد والقسوة واحدة، ولم يتغير شيئا رغم تبدل الحكم ومجيئ سلطة جديدة، فها هم منتشرون بين درابين المدينة وأزقتها، يبحثون عمَّن أربكهم وأقضى على مضاجعهم، لذا أرجأنا سفرة الروح ومتعتها الى مساءات أخر، وما كان منا الاّ أن نفترق ويمضي كل منا الى غايته، منتظرين لحظة إصطفاء القلوب وهدأة النفوس واﻷهم خلو الشوارع من أعدائها. 

لكنك وفي غفلة لم أكن أتوقعها، قررتَ تغيير مسارك فبديت كما الذي أدرك ساعة رحيله رغم  عدم اكتمال شروطها، انه حدسك المبكر. ليلتها ورغم إضطراب الوضع اﻷمني رحت مودعا مدينتك التي أحببتها وأبيت مغادرتها. طرقتَ بيت فلان، لم يرد عليك أحدا، أعدتَ الطرق ثانية وثالثة، حتى قيل لك وبعد إلحاح: لقد سافر ولدنا الى جهة لا يعلم بها حتى الله، ثم أعطيته العذرا فالحال ليس بالمطمئن، وسيفلح مَنْ يشد رحاله قبل طلوع الفجر ويحسن قراءة طالعه، كذلك له القدرة على إكتشاف النوايا الخبيئة والخبيثة. هذا ما علمتنا إياه أنظمة القمع والتسلط، ولعله كان درسا هاما في كيفية مقارعته والوقوف بوجهه. 

بعد برهة قصيرة من التفكير توقف ابراهيم فجأة ليعيد النظر فيما سمعه، إذ لم يعجبه ردّا كهذا، فكان على صديقه الاّ يغادر، ثم راح متسائلا في سره: كيف تم ذلك وأنا على مقربة منه، بل اﻷقرب اليه من شريان قلبه؟  إعتصره اﻷلم ليبدو حينها كما الماسك على جرح سينزف بعد قليل. عَبر زقاقين حتى بلغَ بيته. عَلَّقَ رقبته وناظريه بثبات ملفت نحو هدف بعينه، انه مَرْبَعْ طفولته، سيترك هناك أخوة لم يصلوا بعد عمر اليفاعة. تسائل في سره: كيف لي تركهم وحيدين هنا وفي مدينة تضربها الوحشة والغربة.

 في لحظات كهذه وبينما كانت إحدى الحافلات تمرق من أمامه، إستعجلها التوقف ليستقلها صوب مكان لا يعرف كنه لكنه يعرف اين تقع  تلك البلاد التي يسمونها نينوى، وأين يسكن آشور بانيبال، ملك الجهات اﻷربعة، حيث المجد والكبرياء والشموخ الذي تباهى به وتباهينا به من بعده. لم يبلغ ابراهيم هدفه ولم يدخل مكتبة آشور العامرة والنابضة بالتأريخ والحضارة العريقة، فقد سقطت الحافلة كما جاء في اﻷخبار في واد سحيق، أو ربما إرتطمت بأخرى بعد أن أغشى الليل سائقها. لا يهم كل ذلك ففي الحالتين انتهت رحلة إبراهيم وحياته، وانتهت معها مسيرته الشعرية ومن قبل أن يُكمل مشوارهما.