18 ديسمبر، 2024 10:43 م

أُمُّ أبيها .. الثائرة و الشهيدة

أُمُّ أبيها .. الثائرة و الشهيدة

” فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني ” رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم

للصدّيقة الزهراء عليها السلام مكانةً رفيعةً لا نقاش فيها عند سائر المسلمين فهي بنت النبي و سيدة نساء العالمين و إحدى أربع من سيدات أهل الجنة و من يماري في مكانتها إنما مدخول في عقله أو أعمى بصيرته الضلال و الجنون ..

من يقرأ سيرة الزهراء عليها السلام بعيداً عن مطبات التاريخ و تحريفاته سيجد نفسه عالقاً في فيض من المشاعر المتلاطمة فتارة يرتشف من كأس ألمها و أخرى تنتابه نشوة الفخر و الأنفة بسيدة كان لها مواقف الرجال في الورع و الحكمة و البطولة و التضحية لذا من يكتب عنها عليه ألا يبخسها حقها كما أوصتنا هي و كما سنرى في معرض ما سيأتي من حديثها ..

منذ استشهاد الرسول الأعظم (ص) نَحَتْ الأُمّة الإسلامية منحىً خطيراً جداً و أخذ حُبُّ الدنيا مأخذه من الجميع إلا الثُّلة القليلة التي آثرت رضى الله و الجنة على مغريات الدنيا و موبقاتها و للأسف كانت هذه الفترة هي أخطر مراحل إنحدار الدِّين الإسلامي و تحوُّله من دين الله إلى دين الحاكم بأمر الله فكان يُحرَّف و يُعدَّل مع كل جالس جديد على كرسي الخلافة و طبعاً بقاء الأمر دون مقاومة يعني فشل الرسالة و التشكيك في قدرة الله سبحانه و تعالى و هذا ما لن يحدث بالطبع فقد كان ذلك أول إختبار لثبات الأمة و لن يفلح في تخطّيه إلا المؤمنون كما قال سبحانه و تعالى:

“وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ” (144)/آل عمران

و مولاتنا عليها السلام كانت قائدة هذه الثُّلة المؤمنة إن صحَّ التعبير فسلكت طريق والدها (ص) في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و المحاججة بالتي هي أحسن و المطالبة بحقّها و إرثها المغتصب بجسارة و رغم تعرُّضها للأذى و التنكيل حافظت على صفات أهل النبوّة فلم يأخذها الغضب حدّ تكفير خصمها كما هو السائد الآن عند كل إمام مسجد أو جماعة نصَّب نفسه رسولاً مكان رسول الله و محاججاً لذات الله جل جلاله مُطلِقاً أحكامه التكفيرية على كل من خالفه ..

مع علمها أن غضبها يعني غضب الله و رسوله و من يُغضِب الله بطبيعة الحال ليس على طريق الحقّ كما قال رسول الله (ص) لفاطمة (ع) بحديث صحيح: إن الله يغضب لغضبك و يرضى لرضاك

و قال سبحانه و تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا (57)/الأحزاب

فضلاً عن مقاومتها العقائدية و السياسية كان لها حقّ شخصي لم تغفل عن المطالبة به و هو أرض فدك التي أورثها والدها إياها إرث الأب لإبنته و التي صُودِرت من قِبَل الخليفة إدّعاءاً منه أنّ الأنبياء لا يُورِثون فكان الرَّدُّ بليغاً صادماً بتَرَ كلّ شكّ من الصدّيقة الطّاهرة في خطبتها الفدكية أمام الخليفة جاء فيما جاء فيها:

“سبحان الله ما كان أبي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عن كتاب الله صادفاً ولا لأحكامه مُخالفاً بل كان يتَّبع أثَره و يقفو سوره أفتجمعون إلى الغدر إعتلالاً عليه بالزُّور”

مُستشهِدةً بقصص القرآن الكريم ..

أفلم يرث سلميان داوود ..؟!

طبعاً إصرارها و إستماتتها لإستعادة ميراثها لم يكن نابعاً من رغبةٍ منها في مال ولا في جنّة الدُنيا فلها جنّة الآخرة هي فيها سيدةُ نسائها دون مِنّة من أحد

و إنّما لترسيخ مبدأ المطالبة بالحقوق و رفض الظُّلم و الخنوع كونها قُدوة للأُمّة حتى لا تُسنّ قاعدة إنتصار الظُّلم بعدها في أيّ زمان أو مكان .

مولاتنا الشهيدة لم تُوقِف مقاومتها عند حدود عمرها الزمني

بل آثرت الثورة حتى بعد استشهادها إلى قيامة يوم الدِّين و يبدو ذلك جليَّاً في وصيَّتها لأمير المؤمنين (ع):

“أُوصيك إذا قضيت نحبي ؛ فغسِّلني ، ولا تكشف عنِّي ، فإنّي طاهرة مُطهّرة ، و حنّطني بفاضل حنوط أبي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، و صلِّ عليَّ ، و ليصلِّ معك الأدنى فالأدنى من أهل بيتي ، و ادفنّي ليلاً لا نهاراً إذا هدأت العيون و نامت الأبصار ، و سِرّاً لا جهاراً ، و عفِّ موضع قبري ، ولا تُشهِد جنازتي أحداً ممّن ظلمني”

فهي بذلك تُعلِن استشهادها ثابتة على موقفها مُجاهدة صابرة مطالبة من أَحبّها بالثّبات و النُصرة إلى أن يدركنا الفرج و ذلك أيضاً من إختبارات الله سبحانه و تعالى لهذه الأُمّة .

باستشهاد الزهراء عليها السلام أُسدِل السِّتار عن آخر الفصل الأول من فصول الإختبارات الجسام التي سقطت فيها الأُمّة الإسلامية و لم تُفلِح إلا القِلّة المُصطفاة بإجتيازها بنجاح و الفوز بجزيلِ جزاء ربِّ العالمين فختم أكثرهم حياته بالشّهادة و الجهاد في سبيل الله .

بعد أن ذاقوا جزءاً بسيطاً من عذابات فاطمة التي ذهبت للقاء ربها مُثخنة بالجِراح الجسديّة و الرُوحية مُشتاقة للقاء أبيها و ربِّها شاكيةً ظُلم من عاثَ بدِين مُحمَّدٍ فساداً .

فسلامٌ عليها يوم وُلدَتْ و يوم استُشهِدتْ و يوم تُبعَثُ راضية مرضيّة .