18 ديسمبر، 2024 9:17 م

أي نصيب للعرب من طباعة وقراءة الكتب؟ !

أي نصيب للعرب من طباعة وقراءة الكتب؟ !

قليلة هي الأصوات الغربيّة المشكّكة، التي لا تعتبر أنّ ابن خلدون (1332 – 1406م) هو الأب الشرعي لعلم الإجتماع رغم أنّه هو من ابتكره، بل تذهب إلى أنّ مؤسس الفلسفة الوضعيّة(Positivisme)، مؤلّف كتاب “محاضرات في الفلسفة الوضعيّة” و كتاب “نظام في السياسة الوضعيّة”، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي” أوغست كونت” (Auguste Comte1798 – 1857)، الذي إبتكر وأعطى لعلم الاجتماع هذا المصطلح الحديث، هو الأب الشرعي لعلم الإجتماع.

ولكن، ورغما عن ذلك، فإنّي لا أبالغ القول عندما أزعم أنّه، باستثناء هؤلاء القلّة المعترضة، فأنّه لا يجادل أحد في جدارة ابن خلدون، في أن يكون في مصاف عمالقة الفكر، على مرّ التاريخ، لا سيّما فيما يسمّى منه بفلسفة التاريخ وعلم الإجتماع. ويعود الفضل في ذلك بالأساس إلى” كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر”، وبصفة أدقّ في جزئه الأوّل، وهو “المقدّمة”، التي أرسى في توطئتها وصلب أبوابها الستّة، ليس فقط قواعد فقه التاريخ، بل وكذلك أساسيات علم العمران، ضمن بحث في أسباب ازدهار الدول و انهيارها، فيما نسمّيه اليوم بعلم الإجتماع وفق إصطلاح “أوغست كونت” ويسمّيه إبن خلدون، قبل ذلك بستّة قرون وأربعة عقود، بعلم العمران.

وتأكيدا لأهميّة “المقدّمة” وتنويها بها، فقد قال أحد أهمَّ المُؤرِّخين في مجال دراسة صعود وسقوط الحضارات، وهو البريطاني” أرنولد جوزيف

توينبي” (Arnold Joseph Toynbee) ، في معرض حديثه عن “المقدّمة” وصاحبها: « إبتكر إبن خلدون وصاغ فلسفة للتاريخ هي بدون شكّ أعظم ما توصّل إليه الفكر البشري في مختلف العصور والأمم ». ما يعني أنّ بحث ابن خلدون الإجتماعي، كان متفرّدا في زمانه ولم يضارعه أو يسبقه إليه أحد. وهو ما كان يعلمه ابن خلدون، بل إنّه لمّح إليه في المقدّمة قائلا : » وكأنّه علم مستنبط النشأة، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة»

ولكنّ المفارقة غير المستزاغة التي شدّت إنتباهي و إستوقفتني طويلا، أنّه رغم أهميّة هذا الكتاب الذي ألّفه صاحبه سنة ( 1377م) ، فإنّه لم يقع طبعه لأوّل مرّة، وفق أساليب الطباعة الحديثة، إلّا سنة (1858م) في كلّ من فرنسا أوّلا، و مصر لاحقا، أي بعد حوالي خمسة قرون من تأليف كتاب “المقدّمة”. ولعلّه إذا ما توخّينا مزيدا من الدقّة والموضوعيّة والأمانة العلميّة، وأخذنا في الإعتبار أنّ ظهور المطابع العصريّة كان في ألمانيا سنة1431م، فإنّ مدّة إهمال كتاب المقدّمة والتغاضي عنه والإعراض عن طبعه تكون نحوا من أربعة قرون وربع. وهي مدّة طويلة، بل وطويلة جدّا بالقياس إلى أهمّية الكتاب وفرادته. و حقيق بنا أن نسجّل في هذا الصدد، أنّه إذا ما كان هذا هو تعاطي العرب مع واحد من أمّهات الكتب الفكريّة التي يفتخرون بها على الإطلاق، فماذا عسانا نتوقّع أن يكون إذن شكل تعاطيهم مع الكتب العاديّة وما دونها، غير أن يكون، في أحسن الأحوال، فاترا وموسوما بالجفاء والتراخي؟!. وهو ما يدعونا إلى الإستغراب الشديد والتعجّب، لا بل وإلى البهتة والتحيّر. كما يحثّنا على طرح التساؤل الملحّ عن علاقة العرب التاريخيّة بالكتاب وبطبعه ونشره، فضلا عن قراءته، و بدرجة أقلّ، فهمه أو تدبّره، استعارة لعبارة القرآن الكريم. وعلاوة على ذلك، فإنّ تراخي العرب عن طبع ونشر كتاب “المقدّمة” القيّم وغيره من أمّهات الكتب العربيّة، قد يعكس بشكل من الأشكال، لا فقط، شيوع الأميّة التي لا تزال منتشرة عند العرب- بنسب مفزعة (1)- إلى اليوم، فيما أنّها قد إختفت في اليابان، على سبيل المثال، منذ القرن التاسع عشر، بل ويعكس كذلك، الانصراف عن تشجيع الإنتاج الفكري حتّى وإن كان رفيع المستوى و متميّزا جدّا. بما يعني شيوع

حساسيّة ما -شبيهة بالعدائيّة- تجاه المعرفة والعلم وكلّ ما يمتّ بالثقافة بصلة. وما يؤكّد ذلك ما ذكره التاريخ من أنّ مصر ظلت نحواً من عشرين عاماً، ما بين 1801و1821 بغير مطبعة، بعد انسحاب الفرنسيين منها، إثر حملة نابليون بونابرت عليها.

وبالعودة إلى تاريخ الطباعة على الورق وفق تقنيات الطبع الحديثة، فإنّنا نكتشف أنّ الطباعة العربيّة قد نشأت في أوروبا، في ظلّ الإرتهان للآخر على جميع الصعد. وهو ما يفسّر أن “المقدّمة” طبعت لأوّل مرّة في فرنسا سنة (1858م) بإشراف مؤرّخ فرنسي هو “كاتريمير” (Quatremère) ، قبل ان تطبع في مصر في ذات السنة. وسبب ذلك لا يعود فقط لتصنيع القارة العجوز للورق، بل وكذلك لرغبة المسيحيين في تنصير العرب المسلمين ومنهم “الموريسكيين” (مسلمو الأندلس الذين بقوا بإسبانيا تحت الحكم المسيحي بعد سقوط غرناطة)، إضافة إلى رغبة بعض المستشرقين في المساهمة في نشر الثقافة العربيّة. وفي هذا الصدد يقول وحيد قدورة (2) « طبعت المطابع الأوربية حوالي 167 كتاباً عربياً قبل أن يظهر أول كتاب عربي مطبوع بالمشرق ».

وبالنتيجة فالعرب قد تمادوا في سبات عميق، نافضين أيديهم عن مهمّة طبع كتبهم، بجميع أصنافها، لحوالي قرنين من الزمن. وذلك ما بين سنة1431، تاريخ ظهور الطباعة العصريّة وسنة 1610، تاريخ صدور أول كتاب عربي في بلاد الشام. حيث لم ينتبه العرب إلى ضرورة نفض الغبار عن تراثهم و مخزونهم الفكري والثقافي وحتميّة المساهمة الفاعلة في نشره بأنفسهم، على قاعدة «ما حكّ جلدك مثل ظفرك فتولّى بنفسك أمرك»، باعتبارهم أولى به من الآخر، إلاّ بعد صدور ما يدنو من مائتي كتاب على يد وبعناية وتحقيق مثقّفي الغرب. واللّافت قي هذا السياق، إنّ اللّامبالاة بطاقاتنا الفكريّة المشهود لها في الغرب فضلا عن المشرق والمغرب العربيين، والتراخي والإستهانة بطباعة نتاجنا الفكري لا تزال بادية، لكل ذي عينين مبصرتين وعقل راجح، وبشكل يقطع الشكّ باليقين، في كافة أرجاء الوطن العربي. وهي إستهانة تترجمها بالإحصائيات العلميّة الدقيقة، الفجوة الثقافيّة السحيقة التي نلمسها عبر مقارنة غزارة طبع ونشر الإنتاج المعرفي والفكري بالغرب، بتدنّيه، لا بل وبضحالته

على المستوى العربي. وعلى الرغم من مساعي بعض المؤسسات العلمية العربية لإيجاد الحلول الكفيلة بتخطّى العقبات التي تعترض نشر الكتاب العربي، املا في النهوض بالحركة الثقافية العربيّة، إلّا أنّ الفجوة الثقافيّة بين العالم الغربي والعالم العربي ظلّت تراوح مكانها. لا بل إنّها أخذت في الإتّساع يوما بعد يوم. وسنتبيّن ذلك، وفق ما سنعرض إليه من إحصائيات متعدّدة المصادر، تبعث على الغثيان والدّوار، وأحيانا على التقيّء اللّاإرادي لدى كلّ غيور على مجال الإبداع الفكري ورجالاته.

حيث أنّه، وفق إحصائيات نشرت سنة 1996 فإنّ كل ما تطبعه الدول العربية ذات ال300 مليون نسمة سنويّا، لا يعادل نصف ما تنشره إسرائيل ذات ال 6 ملايين نسمة فقط. وقد جاء في تقرير التنمية الإنسانيّة العربيّة لسنة 2003، أنّ العرب، رغم انّهم يشكّلون (%5) من سكّان العالم، فإنّ إنتاجهم في مجال الكتاب لا يتجاوز (%1,1) من الإنتاج العالمي، وهو أقل ممّا تنتجه دولة مثل تركيا، التي لا يتعدى سكانها ربع سكان البلدان العربية. ويضيف ذات التقرير أنّه يصدر كتاب لكل 12 ألف مواطن عربي ، مقابل صدور كتاب لكل 900 ألماني، وكتاب لكل 500 مواطن بريطاني، أي أن معدل القراءة في العالم العربي لا يفوق 4% من معدل القراءة في بريطانيا. ليس هذا فقط ، بل إنّ كل دور النشر العربية مجتمعة تستهلك من الورق ما تستهلكه دار نشر فرنسية واحدة هي ” دار غاليمار للنشر ” (Éditions Gallimard).

ويذكر تقرير منظمة اليونسكو عن القراءة في العالم العربي، أنّ المواطن العربي يقرأ 6 دقائق في اليوم، فيما أنّ المعدّل اليومي للقراءة على المستوى العالمي هو 36 دقيقة. علما وأنّ كل 20 عربيا يقرؤون كتابا واحدا في السنة، بينما يقرأ كل أمريكي 11 كتابا وكل ألماني 7 كتب في السنة. ما يعني أنّ المواطن الأمريكي يقرأ سنويّا ما يعادل ما يقرأه 220 مواطن عربي؟ !!!. أليس ذلك مؤشّر صارخ على التصحّر الثقافي والمعرفي للعرب وضحالة مستواهم الفكري؟.

وأمّا في مجال الترجمة فحدّث ولا حرج، حيث أنّ الأمة العربية لم تترجم سوى 11 ألف كتاب منذ العصر العباسي وحتى سنة 2003، وهو ما يعادل ما تترجمه أسبانيا سنويّا. بما يعني أنّ مجهود العرب في الترجمة

لحوالي 13 عشر قرنا من الزمان، لا يزيد عن مجهود إسبانا لسنة واحدة، رغم أنّها ليست رائدة، بين الدول الغربيّة، في هذا المجال.

إنّي أكتفي بهذا، دون إستفاضة في عرض الإحصائيات، لأنّها معيبة ولا تشرّف أمّة العرب، أمّة إقرأ التي لم تعد تقرأ، للأسف، ولم تعد تعمل كذلك، ولا تنتج في أي مجال كان، إلّا ان يكون في علاقة بالإرهاب والقتل والدّمار والقضاء على التراث و كلّ مظاهر الحضارة وكنوزها. وهي بالتأكيد الإنتاجات الوحيدة التي يبدعها الجهل الذي لا ينتهي بأصحابه إلّا إلى هوّة سحيقة شديدة الظلام، مثلما هو حال العرب اليوم.

_____________________________________________

(1) نصف الذين تجاوزت أعمارهم 15 عاما أميون حسب تقرير المجلس العربي للطفولة والتنمية لعام 2002

(2) أوائل المطبوعات العربية في تركيا وبلاد الشام. – ندوة تاريخ الطباعة العربية حتى انتهاء القرن التاسع عشر-– نشر المجمع الثقافي – أبو ظبي 1996. ط1- ص 122