23 ديسمبر، 2024 2:26 م

أيوبيات – 5 / محاكمة معمّم – الجلسة الثانية

أيوبيات – 5 / محاكمة معمّم – الجلسة الثانية

القاضي ينادي على الشاهد الأول، ليدلي بشهادته
 …
الشاهد الأول : سيدي القاضي، من أين أبدأ ؟ وكيف أبدأ ؟ خساراتي لا تُعد و لا تُحصى، إحباطاتي كثيرة، ما راح مني بسبب هؤلاء لايُرّد ولايُعّوض  .. من طفولتي غزاني ماردهم، واحتوتني تشوهاتهم، لاحقتني فتاواهم الظالمة، فاللعب في المحلّة حرام، وحرامٌ أن أرافق صبية الجيران، كنت أراهم من فتحة الباب، تنتابني حسرات، يلعبون الكرة والغُمّيضان، يجمعون الدعابل والتصاوير، ممنوعٌ أن أقرب هذه المنكرات، إنّها، رِجسٌ من عمل الشيطان، استيقظُ في الليل مجُبراً للصلاة، اُسحب عُنوةً لمساجد ومقابر وزيارات، أحفظ مُرغماً أدعيةً وابتهالات، صباحاتُ عيدي بين القبور واللاطمات، حسراتي، حسرات طفلٍ حُرم حق الحياة، كطفل أردتُ أن أعيش لا كببغاء، عَلّموني الصوم وأنا أهوى الحلوى والمصّاصات، حلمتُ ذات معجزة، أن أتسلى بالحَبّ الأبيض أو حَبّ الشمس أو علچ أبو النفاخة، زقّوني بمعلومات أكبر من مداركي، شوّهوا خيالاتي البريئة، بأساطير الرعب والجان، ظلمة القبر والعقارب والأفاعي والديدان، سيخان النار التي ستخترق أذني ودماغي، لو استمعتُ للمحرّمات، كنتُ أبكي كل ليلة من تحت اللحاف، خوفاً من غضب الجبّار، أستغفر الله لأفكار تنتابني بلذة الحياة، كَبرتُ سريعاً سيدي القاضي وودعت أيام الصبى بحسرات، حتى نضجتُ وبلغتُ الأسباب، صار قلبي يرّن للحسان، لكن هذا حرام، وهن فاجراتٌ من أهل النار، أتت حقبة جديدة من القوانين والمحضورات، فخيرُ الشباب من تَزيّا بزيّ الكُهول، ومن وجد كِسرة خبز على قارعة الطريق فتناولها، لم تستقر في جوفه، حتى تكتب له الجنة وآلاف الحسنات، ( أبَشركْ سيدي القاضي ) لم يبق في شارعنا شيء من بقايا الخبز وفضلات الطعام، تواقٌ كنت للفوز بالبركات، استعرتُ صاية جَدي لألبسها في المناسبات المباركات، صرتُ أضحوكةً بين الناس، لكن، كل ذلك يهون في عين الله، ولم تزل ممنوعات الطفولة تزحف على شبابي، فلا تلفاز ولاسينمات، لامدينة ملاهي أو أصوات أغاني، أجلس خلسة بين الشباب، أسمع أشياء لا أفهمها، مصطلحات ونكات لاأعرفها، يضحك الشباب وأنا ساكت، يتحاورون وأنا صامت، يتغامزون بعيداً عني، ليس لديّ مشترك معهم، كأني من كوكب آخر، في داخلي رغبة للاندماج معهم، وظاهري يرفض عنفوانهم، أعود الى محرابي منكسراً لأكثر من الصلوات والمستحبات، وأملأ غُرف البيت بالبخور والعطورات، غُسل بعده غُسل وقبله خرطات، طال ( أنفي ) من كثرة الخرطات، طالت لحيتي فصرتُ كما الغراب، ضيعتُ شبابي بين حرمانٍ من لذة الحياة، ووهم تقبيل الأيادي وأخذ البركات، جلستُ تحت المنابر حتى أحدودبت، بكيتُ من النواعي حتى نفذت دموعي، حفظتُ قصص القتال والخرافات على ظهر غيب، لطمتُ حتى ترهّل صدري، ضربتُ على رأسي في كل كرنفالات شمّ النسيم، حتى أصابني الصلع المُبكر، مشيتُ للعتبات، حتى جاوز عدّادي المليون كيلومتر، أكلتُ چكليت البركة، والواهلية المرفقة بالهلاهل، حتى أصبتُ بالسُكّري، قبّلتُ ولحستُ الأضرحة والشبابيك والقبور وقضبان الباصات، حتى تورمت شفتاي واخشوشن مني اللسان، تناولتُ كميات مَهولة من الأتربة المقدسة ومياه الثوابات، حتى تعطلت كليتاي، صمتُ ماوجبَ عليّ، وما استحبّوه، وما أوصَوا به، حتى جفّت مساماتي وأصبت بارتفاع ضغط الدم، وهناك عوارض أخرى سيدي القاضي، يصعب عليّ قولها، كونها تمسّ قيمومة الإنسان، ودوره التفاوضي في النزاعات الإقليمية !
سيدي القاضي، أريد طفولتي، أريد شبابي، أريد صحتي .. وأكتفي بذلك
الشاهد الثاني : سيدي القاضي .. كنتُ تاجراً ذا عزٍّ ومالٍ وأملاك، جمعتُ أموالي ديناراً فوق دينار، حرمت نفسي من اللّذات، عصامياً كنت، راغباً الصعود في سلّم الحياة، أعطيت الحقوق للمراجع والعلماء والخطباء، تكفلت الكثير منهم زمن الأزمات، جازفت كثيراً في حياتي لأجل هؤلاء، أنصفتُ أموالي معهم مراتٍ ومرات، وفي زمن الطواغيت والحظر على الأديان، أموالي لم تقف بأيّ حال من الأحوال، كانت تصلهم خفية عند الحصار، وحين اقتربتْ مني أنياب الجلاد، أُعدم أولادي، الأقمار الثلاثة الصغار، صادرت الدولة مالنا من أملاك، صبرنا وقلنا قربة الى الله، كنا نقترض ونبيع ماعلينا لنوصل المراجع والعلماء، لكنما المراجع والعلماء، حينما ارتخت لهم الدنيا، وصاروا في بحبوحة العيش والإنتعاش، نكروا فضلنا وتجاهلوا تضحياتنا، قال لي أحدهم، وأنا أشكو إليه انكساري في السوق، وتعس حالي،  وماجرى عليّ بعد إعدام أولادي .. قال لي ( سندعو لك في صلاة الليل ) 
سيدي القاضي : بعد تلك المقابلة المحزنة، رميتُ نفسي في بيت من بيوت الدعارة، لأشربَ نخب خسارتي وغبائي، وحين رأت الراقصة ماعليّ من كدرٍ وضجر، ألحّت لمعرفة مايكدّر خاطري، أخبرتها بحالي، كيف كنتُ وكيف صرتُ، فأمرتْ على الفور، جميع الراقصات والعاهرات أن يتجمعن حولي، وقالت لي ( إفرش عباءتك )، قبلتُ بعد إصرارها، وأنا لا أعرف ماتريد أن تصنع، سيدي القاضي، أقسم بالله*، قامت بخلع كل مصوغاتها الذهبية من يديها وعنقها ورمتها على عبائتي، وأمرتْ صويحباتها العواهر، ففعلن ذلك وهي تقول ( أفَه عليك … عزيز ومكسور، وَسْفَه )
سيدي القاضي، هؤلاء قساة، ناكروا جميل، ظلمة .. أريد حياتي
الشاهدة الأخيرة : سيدي القاضي، أنا عجوز في النساء ضعيفة، عشت حياةً مخيفة، زوجوني ولم أزل طفلة نظيفة، قالوا، لا تطمثي في بيت أبيك ياعفيفة، زوجوني كهلاً، بجبّة كسيفة، يركبني في الصباح والمساء، في الظهر والعشيّة، فزوجي المعمّم، طاقته رهيبة، يُدّرس الكفاية، كتابه المفضل، يازهرة الربيع .. عشتُ كما الجواري في حضرته، وحرمت من ضوء الشمس لطاعته، مارأيت الحيّ الذي أقطنه يوماً، الّا مجرورة بعباءته، يضربني لحجةٍ سخيفة، يهينني لأنني بسيطة، يصفني بالقسمة المشؤمة، يُحرمني الطعام، ويتلذذ بموائد اللحم بلا عظام، مات وترك لي العيال، ولم أزل فارعة الجمال، طرقتُ ذا الباب وذا الباب، باب أصحاب العمامة الكرام، باب أهل العلم والعفة الأشراف .. سيدي القاضي، أقسم لك، كلهم أرادوا شيئاً مريباً مني، سيدي القاضي، شريف ماكو بيهم بالعبّاس .. ضاقت بي الدنيا، وأطفالي بلا طعام، بعتُ أغراض بيتي، ولم يبق الّا السقف والجدران، قررتُ النزول عند رغباتهم، رغبةً بالحياة، فرأيتُ عندهم مُجوناً مابعدهُ مجون، استعملوني عاهرة بعنوان متمتعة، ومارسوا القيادة بحجة العبادة، رموني بعدما ملّوا مني، وشهّروا بي، فصرت كما القمامة، لا أعرف مصيري، لا أعرف الحياة، وحين أموت سيدي القاضي، هل سأدخل جنّتهم ؟ ويُحضرون لي زوجي الكسيف ؟ رحماك ياقاضي، ماهكذا الإنصاف
سيدي القاضي، أريد إنسانيتي، أريد شرفي، أريد شيئاً جميلاً ضاع مني
القاضي يأمر برفع الجلسة وسماع شهود الدفاع عن المتهم بعدها 
تصبحون على وطن
*قصة حقيقية
[email protected]
خاص بكتابات